كلمة المحرر
فرض الله تعالى العبادات وشرع لها ما يتهيأ به المرء لأدائها في جو يسوده الإخلاص والطمأنينة والوقار. و الناظر في العبادات الإسلامية كلها يجد هذا المعنى واضحًا وضوح الشمس في رائعة النهار؛ فالصلاة – مثلًا – فريضة على المسلم خمس مرات في اليوم والليلة، وقبل أن يدخل فيها يتوجب عليه أفعال يقوم بها كي يتهيأ لهذه العبادة. فالوضوء يأتيه المسلم لايريد أن يكون- وهو مدخل الصلاة- مجرد عمل روتينيًا آليًا وهو شارد الفكر لاهي القلب، وإنما يريد أن يعْبُرَ هذا المدخل ويتوجه إلى الصلاة بنفسه كلها و بكيانه كله. ومن التهيئ للصلاة تطييب رائحة الفم وتنظيف الأسنان بالسواك عند الوضوء. وذلك يكسبه نشاطًا، ويورثه التَّهَيُّؤَ للوقوف بين يدي الله- سبحانه وتعالى-. فهذا التهيؤ المادي الجسدي يصحبه دون ريب تهيؤ نفسي و روحي وقلبي، و في حث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على التبكير إلى المساجد خير دليل على ذلك، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة شهيرة. ومن هنا نفهم كثرة ما ورد عن السلف الصالح في هذا الشأن، فهذا إبراهيم بن يزيد الفقيه -عابد الكوفة- يقول: «إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه». وفي نهيه-صلى الله عليه وسلم- عن السعي بعد الإقامة تلميح إلى ضرورة تفاعل الإنسان روحيّا ونفسيّا مع العبادة التي يُقبل عليها… والجمعة فريضة من الفرائض والتهيؤ لها يتمثل في أمور منها: الاشتغال عن القيلولة والغداء، وكان الصحابة يتغدون، ويستريحون قبل الزوال كل يوم، إلا يوم الجمعة، فكانواينشغلون بالاستعداد للجمعة، والتبكير إليها، فلايبقى لهم وقت يسعهم القيلولةُ قبل صلاة الجمعة. قال سهل- رضي الله عنه -: ما كنا نقيل، ولا نتغدى إلا بعد الجمعة… والحج كذلك له تهيؤ يخصه؛ فرد الأمانات والتحلل من المظلمة من أصحابها، والتخلص من الحقوق قبل الشروع في رحلة الحج كلها صور للاستعداد لهذه العبادة العظيمة، وكذلك إعداد الزاد والراحلة والرفقة الصالحة من التهيئ لها. وشتان بين الذي يقوم بالعبادة من غير استعداد بدني وتهيئ نفسي، وبين الذي يأتيها على عجل ، وقلبه لاهٍ، وفكره شارد، لايستشعر مكانة العبادة وأهميتها.
ولعل في إكثار رسول الله الصوم في شهر شعبان إيحاءً إلى هذا المعنى؛ فقد روى البخاري عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: لم يكن النبي-صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرًا أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله». وعن عمران بن حصين- رضي الله عنه – أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: «هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا؟» يعني شعبان، قال: لا، قال: فقال له: «إذا أفطرت رمضان، فصم يوما أو يومين» شعبة – الذي شك فيه – قال: وأظنه قال: يومين. وعن أنس قال: سئل النبي-صلى الله عليه وسلم-: أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ فقال: «شعبان لتعظيم رمضان…».
وحيث رَحَل شهرُ رجب وبَانَ شهر شعبان وأظلّ؛ فعلى المسلم أن يصوم ما قدرالله تعالى له منه – تأسيًا بنبيه –صلى الله عليه وسلم- ليتهيأ لرمضان قبل نزوله، فهو ضيف كريم لهذه الأمة، ينزل عليها ليبعث فيها روحًا جديدةً، وينشِّط العامل و يحرِّك الساكنَ و ينبِّه الغافل الذي يصر على غفلته. فأبشر أيها النادم والمقصِّر والمذنب، إذ جاء الفرج، و أوشكت ذنـوبُك على الرحيل؛ فإن أنت بلغت هذا اليوم، ثم وفقك الله لصيامه، فاعلم أنه ما وفقك إلا ليثيبك، وما بلغك إلا ليمنحك؛ فالتوفيق لك دليل القبول، وأما إن بلغت هذا اليوم، فتكاسلت عن الصوم، ولم تنشط نفسُك في العبادة، وتهاونت في الطاعة، وأسرع غيرك وتأخرت، فاعلم أن قلبك قد رَانَ عليه بما كسبت يداك فارجع إلى ربك و اشحذ عزيمتك واسأله أن يوفقك. [التحرير]
(تحريرًا في الساعة العاشرة صباحًا من يوم الأحد: 11/جمادى الآخرة 1437هـ = 21/مارس2016م)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1437 هـ = مايو – يونيو 2016م ، العدد : 8 ، السنة : 40