دراسات إسلامية

بقلم: الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي -رحمه الله-

(المتوفى 1399هـ / 1979م)

ترجمة وتعليق: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)

السفير الأفغاني في رحاب دارالعلوم/ديوبند:

       نفحات دارالعلوم/ديوبند العلمية اتسعت اتساعَ نطاق أنصارها ومحبيها. وسبق أن علمت أن المسلمين داخل الهند وخارجها قد ساهموا في بنائها وتطويرها في قليل أوكثير، وخاصة دولة «أفغانستان» التي أولت خدمات دارالعلوم عناية وأهمية على مر العصور. ونظرًا إلى هذه العلاقات القديمة الوطيدة قام صاحب السعادة السيد نجيب الله خان(1)- سفير دولة «أفغانستان» في «دهلي»، الهند– بزيارة رسمية لدار العلوم في 7/رجب، وقضى ساعات عدة في مدارسات ومفاوضات حول قضايا علمية مع مسؤوليها، و تجول في مرافقها وأقسامها وفصولها الدراسية. ونزل سعادة السفير في الدورالعلوي من مبنى «بوابة ظاهر»، علمًا بأنها – بوابة ظاهر- تشكل ذكرى خالدة لما يكنه الملك الأفغاني محمد ظاهر شاه (1332-1428هـ/1914- 2007م) من الحب للعلم والمعرفة، وعقدت «دارالعلوم» حفلة ترحيب بالضيف المبجل في قاعة دارالحديث الموسعة، قُدمَت له خلالها قصائد التهنئة والتبريك، وتلاها رئيس الجامعة بكلمة التحية والترحيب للضيف المبجل، وسلط الضوء على العلاقات الثنائية بين «دارالعلوم» ودولة «أفغانستان» بالبسط والتفصيل، كما شرح مذهب «دارالعلوم» العالمي. وقال سعادة السفير الأفغاني في كلمته التي ألقاها على الحضور وهو يعرب عن ولع الأمة الأفغانية بدارالعلوم/ ديوبند وحبها لها معترفًا بمكانة دارالعلوم وعظمتها -: «إذا كان الشعب الأفغاني يرى هذه الجامعة مدرسةً شعبيةً فإنه يحق لي – فيما رأيت وشاهدت – أن أقول: إنها ليست مدرسةً فحسب؛ وإنما هي كذلك مركز للثقافة الإسلامية. لقد عملت «دارالعلوم» على الحفاظ على الإسلام والعلوم الإسلامية في حين انقرضت الحكومة الإسلامية في الهند. وأملي كبير أن تستمر وتدوم خدمات هذه الدارالعلمية في المستقبل ويتواصل مسيرها. وإن الشعب الأفغاني والأوساط العلمية الأفغانية يُثَمِّنون جهود الجامعة ويقدرونها؛ بل متعاونون مع أهل العلم، ويحبون ما فيه خير هذه الدارورقيها وتطورها».

       وأضاف قائلا: «إن الثقافة الإسلامية عمادها الصدق والحب والعدل ومعرفة الحقيقة، والجامعة قائمة على هذه المقومات الأساسية».

       واستطرد قائلا: «إن تاريخ دارالعلوم شاهد على أنها أنجبت على مر الدهور رجالًا صادقين في قولهم وفعلهم، ممن يعتز بهم دارالعلوم وحُقَّ لَهَا ذلك، وإن دارالعلوم ليس تراثًا خاصًا بالهند، وإنما يشاركها فيه العالم الإسلامي كله، وعليه أدعو الله تعالى أن يحفظها، ويكتب لها الرقي والازدهار، ويجعلها نافعةً للعالم الإسلامي».

عام1370هـ، ومولانا آزاد(2) في رحاب دارالعلوم:

       زار مولانا آزاد – وزير التعليم في حكومة الهند- ديوبند صباح 29/ربيع الآخر عام 1370هـ، وسبق زيارته هذه برقيةٌ منه إلى شيخ الإسلام حسين أحمد المدني (1296-1377هـ /1879-1957م)، تفيد بمقدمه في الثامن من يناير إلى ديوبند، وأنه سيتناول الغداء مع الشيخ محمد طيب. وقوبل مولانا آزاد بهذه المناسبة بترحيب حار.

       وأول شيء بدأ به في ديوبند أن زار «دارالعلوم»، ودخل مكتب رئيسها وتنحى قليلًا عن مجلسه احترامًا لهذا المجلس، وتجاذب أطراف الحديث حول القضايا العلمية طويلًا ثم قام – الشيخ آزاد- من مجلسه ليتجول في مرافق الجامعة، فشاهد بأم عينيه أقسامها وفصولها الدراسية، واستمر في التعبير عن مكانة و أهمية كل قسم من أقسامها بأسلوبه الخاص. وعُقدت حفلة التحية والترحيب عقب صلاة الظهر، و قُدِّمَت له قصائد التهنئة وكلمة الترحيب، وقام رئيس دارالعلوم بتعريفها تعريفًا مفصلًا، وأخيرًا ألقى «مولانا آزاد» كلمة فصيحة بليغة ضافية تحدث فيها عن ميزات وخصائص حياة مؤسسها المثالية وأهمية «دارالعلوم» و مكانتها العلمية، وعلاقته الوطيدة بها، وخاطب الطلاب وزودهم بنصائح غالية، والشطر الآتي من كلمته يبلغ من الأهمية ما لوجعله الطلاب دستور حياتهم لخلق ذلك في عالم العلم ثورةً حيويةً، قال فضيلته: «أعزائي الطلبة، هل تأملتم يومًا في العلم الذي تتلقونه، ما هدفه؟ وهذا العلم غاية أو وسيلة؟ فكم من شيء في الدنيا وسيلة وليس غاية، نعم الغايات لاتتحقق إلا بوسائل، فكانت الوسائل هي الأخرى مطلوبة، كالعملات التي تتخذ من  الذهب والفضة، وهي وسائل كسب المال، ولكن كيف نستفيد من هذه الفضة والذهب في حاجاتنا الحيوية؟ وهل تبُلُّ الفضةُ غُلتَنَا إذا ما أصابنا عطش؟ وهل يغني الذهبُ من جوع؟ ومن الصعوبة بمكان أن نحصل على المواد الغذائية ما لم نملك هذه الوسائل. فكان الذهب و الفضة شيئًا مطلوبًا كذلك. وأصدرت الحكومة الأوراق النقدية، وهذه الأوراق لاتعدل النقير، فإذا ما طبعت عليها الحكومة ألف روبية فأصبحت هذه الورقة وسيلة نحصل بها على النقود والدينار، فصارت الورقة النقدية يتوسل بها إلى ألف روبية. واستبدل الناس بالدينار والدرهم هذه الورقة النقديةَ التي تضمن لصاحبها ألف روبية مثلًا. ومن المعلوم أن الوسائل لاتتصف بالاستقرار والديمومة حتمًا، وأما المقاصد و الغايات فلاتتبدل؛ فالغذاء مثلا غاية ومقصود في الجوع، ولايغيره الوسيلة.

       إنكم غادرتم دياركم وأهاليكم إلى هذه الجامعة، والبلاد لاتعدم مناهج وطرق تعليم ودراسة أخرى، والناس يتسابقون إليها، وأغمضتم أعينكم عن المدارس والكليات العصرية رغبةً في التمكن من علوم الدين، فهنيئًا لكم هذه الرغبة والنية، ولكن نتساءل هنا: هل العلم الذي تتلقونه وسيلة أو غاية و مقصد؟ وإن كنتم ما وعيتموه فأنبهكم على أنكم على خطإ. إن الأمم- غير المسلمين- اعتبرت العلم وسيلة في كل عصر وأما المسلمون؛ فإنهم يتميزون عن غيرهم باعتباره غاية لا وسيلة، وسيلة كسب العيش. وهذه الهند تحتضن أربعًا وعشرين جامعة، وكليات عديدة ومئات الآلاف من المدارس العصرية يمتد نطاقها إلى القرى والأرياف، والتعليم الذي تعلمه يُعتبر وسيلةً لا غاية. إذ تزود طلابها بالعلوم للحصول على الوظائف الحكومية، وشغل المناصب العليا، والمقبلُ على هذه الجامعات والكليات و المدارس على يقين بأنه يعزُ عليه كسب العيش ما لم ينَل شهاداتها. وأذَكركم بأن العلم الذي حبستم أنفسكم لأجله هو غاية، لا وسيلة، وإن هذا العلم لا يتلقى على أنه وسيلة؛ بل لأن تلقيه فريضة من الفرائض. ودأب المسلمون على أن تلقي العلم للعلم لا لأنه وسيلة، ولم يتلقوا العلم يومًا من الأيام ليتوسلوا به إلى كسب العيش، واكتسب المسلمون العيش لا بالعلم. ولايخفى على من له إلمام بقصص حياة العلماء أن الإمام أبا حنيفة – رحمه الله- الذي قام بتدوين الفقه الذي يأخذ به ملايين الملايين من المسلمين-كان بزازًا ، لم يتخذ علمه الغزير وسيلة كسب العيش، وهذا معروف الكرخي(3)، يخصف نعال السابلة، و يعيش حياته على أجرته، وذلك شمس الأئمة الحلواني(4)– ذلك العلامة – كان يكسب عيشه ببيع الحلوى.

       وقس عليه غيرهما من أعلام العلماء الذين فجروا عيون العلم والمعرفة، دون أن يكسبوا به عيشهم، فكانوا يتلقون العلم للعلم، لا لنيل زخارف الدنيا وبهجتها، فكان أحدهم يتحرج أن يتلقى العلم للدنيا، وكان يرى من واجبه أن يسقي عطاشى العلم بنميره الفياض ويضيء سبيله بنوره، وامتاز علماؤنا- رحمهم الله- بأنهم عدُّوا خدمة الدين ونشر العلوم الدينية واجبًا عليهم، ولم يعملوا على تنشيط سوق البيع والشراء؛ فإن أنتم أدركتم هذه الحقيقة فقد نجحتم في صياغة تاريخ حياتكم.

       والله – سبحانه تعالى- وفقكم لعلم الدين، ومن واجبكم أن تبلغوا صوته مسامع الناس جميعا، و أوشك أن تقطعوا مراحل تلقي العلم وتتخرجوا فيه، ويرى الناس فيكم عالـمًا دينيًا، فلايغيبن عن بالكم هذه الفريضة يومئذ، فإن فعلتم ذلك؛ فإني أوكد لكم بأن العلم الذي تتلقونه لايعدله مكانةٌ ورفعةٌ على ما أظلت الغبراء.

       أدعو الله تعالى أن يوفقكم جميعًا له، آملًا أن يكتب لي المشاركة في مثل هذه المناسبات مرات و كرات(5).

*  *  *

الهوامش:

(1)   الدكتور محمد نجيب الله (1947-1996م). رابع رئيس لجمهورية «أفغانستان» الديمقراطية الشيوعية سابقا، ويعتبره البعض ثاني رئيس للجمهورية الأفغانية. حکم نجيب الله أفغانستان من 30/سبتمبر 1987م إلى 16/أبريل 1992م، تلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة الحبيبية العليا بـ«کابول» ثم التحق بالجامعة وتخرج من کلية الطب بجامعة «کابول» عام 1975م، وانتخب رئيسًا لجمهورية «أفغانستان» في نوفمبر 1986م، ثم تم صياغة دستور جديد في فترته الرئاسية لاحقًا والتعديلات التي أدخلها البعض إلى الدستور الجديد شملت نظامًا سياسيًا تعدديًا، وحرية الرأي ونظامًا قانونيًا إسلاميًا ترأسه سلطة قضائية مستقلة. قضى بقية حياته قيد الاحتجاز حتى سبتمبر 1996م بعد أن استولى طالبان على «کابول»، وقتل شنقًا، و وري جثمانه الثرى من قبل عشيرة أحـمد زي لاحقًا.للاستزادة من أخباره راجع: https://ar.wikipedia.org/wiki/% 

(2)   أبو الكلام آزاد  هو محي الدين أحمد بن خير الدين(1306-1377هـ/1888- 1958م) من علماء المسلمين ورجال السياسة، دعا إلى فكرة الوحدة بين الهندوس والمسلمين ، أول وزير للتعليم في الهند، هاجرت أسرته من الهند بعد احتلال الإنجليز لها واستقر بهم الحال في مكة المكرمة ثم عاد أبوه إلى الهند بعدما قضى حوالي 30 عام في مكة.  أخذ مبادئ العلوم على أبيه ثم تعلم اللغة الإنجليزية والفارسية. أبعد عن مدينته «كالكوتا» ومنع من دخول ولايات «بنجاب» و«دلهي» و«مومباي» ومن ثم سجن في عام 1920م، وأسس جماعة دينية سماها بـ«حزب الله» وقام بإصدار مجلة اسمها «الهلال» و بلغ توزيعها 25 ألف نسخة أسبوعيا، قضى في السجن 3 سنوات ومن ثم بعد خروجه أسس بما يسمى «جمعية الخلافة» لمساندة الدولة العثمانية. ومن أهم أعماله والتي قد تلقي ظلالاً على ثقافته الدينية ترجمته لمعاني القرآن إلى اللغة «الأردية» في كتابه الذي سماه (ترجمان القرآن ). للاستزادة من ترجمته راجع: http://mawdoo3.com/

(3)   معروف بن فيروز الكرخي، أبو محفوظ(000 – 200 هـ/ 000 – 815 م): أحد أعلام الزهاد والمتصوفين. كان من موالي الإمام علي الرضى بن موسى الكاظم. ولد في «كرخ»، «بغداد»، ونشأ وتوفي ببغداد. اشتهر بالصلاح وقصده الناس للتبرك به حتى كان الإمام أحمد بن حنبل في جملة من يختلف إليه. ولابن الجوزي كتاب في (أخباره وآدابه). راجع: الأعلام 7/269.

(4)   عبد العزيز بن أحمد بن نصر بن صالح الحلواني البخاري، أبو محمد، الملقب بشمس الأئمة (000 – 448 هـ = 000 – 1056م): فقيه حنفي. نسبته إلى عمل الحلواء، وربما قيل له «الحلوائي» كان إمام أهل الرأي في وقته بـ«بخارى». من كتبه: «المبسوط» في الفقه، و «النوادر» في الفروع، و«الفتاوى» و«شرح أدب القاضي» لأبي يوسف. توفي في «كش» ودفن في «بخارى». راجع: الأعلام 4/13.

(5)   للاستزادة منه راجع: تقارير عن الترحيب بمولانا آزاد، إعداد: السيد محبوب الرضوي، الناشر: مكتب الرئاسة بدارالعلوم/ ديوبند.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1437 هـ = مايو – يونيو 2016م ، العدد : 8 ، السنة : 40


(*)    أستاذ التفسير واللغة العربية وآدابها بالجامعة.

Related Posts