دراسات إسلامية

بقلم:     الأستاذ أسامة  نور/ القاسمي (*)

قد انتشرت الرشوة في العالم اليوم، فلم يبق قطر من أقطار الدنيا إلا وتجد فيه ضعاف القلوب والنفوس والإيمان يَتَعَاطَوْنَ الرشوةَ؛ حيث يَتَقَبَّلُها كثير ممن يعتلون مناصب مرموقة أو وظائف وجيهة مقابل تحقيق بعض الأغراض أو تسهيل بعض الأمور والمصالح لصالح من يطلب ذلك.

       والرشوةُ – بتثليث الراء – لغةً هي ما يُعْطَىٰ لقضاء مصلحة، أو ما يُعْطَىٰ لإحقاق باطل أو إِبطال حَقٍّ، ج: رُِشًا بضم الراء وكسرها.

       فالرشوة ما يَدْفَعه المرء من مال وغيره إِلى ذي جاه أو منصب أو سلطان أو وظيفة ذات أهمية أو مكانة أو نفوذ في مجال من مجالات الحياة ليُحَقِّق عن طريقه غرضًا من الأغراض بطريق غير شرعيّ.

       تعاطي الرشوة صار في بلادنا خاصة عادةً مُتَّبَعَةً؛ بل ضرورة مضطرة؛ لأن أصحاب الوظائف الحكومية في الغالب لا يقومون بدونها بأيّ حاجة تمسّ بأفراد الشعب إلى أيّ مصلحة من المصالح الرسميّة، أو لا يقومون بها على نحو صحيح، أو يضعون عوائق في طريق تحققها. فأنتَ لا تتمكّن من حجز مقعد في القطار بدون تقديم رشوة إلى المُوَظَّف المَعْنِيِّ، وأنتَ لا يُتَاحُ لك أن تنال بِطَاقَةً رسمية من بطاقات التموين أو الهُوِيَّة أو التصريح إلا إذا قدَّمتَ مبلغًا مطلوبًا إِلى المسؤولين وكذلك المُوَظَّفِين الذين يعملون تحتهم، وأنتَ لا تقدر على نيل وثيقة رسميّة حتى بتسجيل قطعة أرضيّة أو مبنى أو محل تجاري لدى مكتب حكوميّ مَعْنِيٍّ ما لم تُقَدِّم رشوة مُحَدَّدَة إلى كل من المُوَظَّفِين الكبار والصغار.

       وبابُ إعداد الجوازات مُغْلَقٌ دونَك إِذا لم تُقَدِّم كميّة معلومة من الروبيّات إلى كل من مصلحة الشرطة ومصلحة الاستخبارات اللتين ستقومان بفحص الأوراق المعنيّة، التي عليها يتوقف إصدار الجوازات من قبل المصلحة. فإذا خَفَّضْتَ المبلغ «المُسْتَحَقّ» أو لم تُقَدِّم المبلغ بتاتًا، فإنهما أو إحداهما التي حُرِمتِ الرشوةَ ستجعل أوراقَك مشكوكًا فيها لدى المصلحة المعنيّة بإصدار الجوازات؛ بل قد تكتب عنك تقريرًا سلبِيًّا للغاية تسدّ في وجهك باب إصدار الجوازات للأبد، مهما كانت أوراقك صحيحة، ومهما كنتَ أنتَ رجلًا بريئًا في نظر القانون، ولم تُوَجَّهْ إِليك أيُّ تهمة بارتكاب أيّ جريمة تُحَرِّم عليك الحصول على الجواز أو على أي وثيقة رسمية تعدله في الأهميّة.

       الرشوة صارت لا تُعَدُّ جريمة في العرف الاجتماعي والأوساط الحكومية على مستوى التعامل، وإن كان القانون والدستور يُحَرِّمانها. كنتُ أيّام تحصيلي ببعض الجامعات الرسمية العصرية منذ سنوات بدهلي، فوجدت أن بعض الأحياء ممنوعٌ فيها دخول الشاحنات قبل الساعة الحادية عشرة ليلًا للحدّ من الزحام الذي يحصل كثيرًا في تلك الأحياء من المدينة؛ ولكني رأيت الشاحنات تدخل إليها قبل الميعاد المذكور بوقت كافٍ؛ لأنّ السائقين كانوا يُقَدِّمُون إلى رجال شرطة المرور المنشورين في الأحياء مبلغًا مُحَدَّدًا، والذين كانوا لايرمون إليهم ذلك المبلغ كانوا يُوقَفُون مع شاحناتهم بحجة القانون الذي لا يسمح بدخولهم إلى الأحياء قبل الميعاد. وذات يوم رأيتُ بعضَ السائقين قد أُوقِفُوا رغم تقديم المبلغ فسألتُ أحدًا منهم: لماذا أُوقِفْتَ وقد رميتَ إليهم المبلغ؟ قال: إنهم يقولون: إن المبلغَ «الْمُسْتَحَقَّ» قد زيد قدرُه؛ لأنّ المسؤولين الذين هم فوقنا يطلبون منّا الآن أكثر من الكمّ الذي ظِلْتُ أدفع إِليهم في الماضي. قلتُ له: إدْفَعْ إِليهم المبلغَ الذي يطلبونه الآن. قال: أصحاب الشاحنات لم يعطوننا أكثر من المبلغ الذي ظلنا ندفع إِليهم قبل اليوم.

       كثيرًا ما نشرت الصحف أنباء تقول: إن أفرادًا من الجيش هَرَّبوا بعض المعلومات الحسَّاسة العسكريّة إلى الأعداء مقابل مبالغ كبيرة باهظة ربما وصلت إِلى الملايين؛ وأنباء أخرى تقول: إن بعض المسؤولين رفيعي المستوى سمحوا بإدخال العناصر الإجرامية لبعض الممنوعات – كالمُخَدِّرَات والكتب الماجنة أو الممنوعة من قبل الحكومة – إلى داخل البلاد؛ لأن هؤلاء العناصر قَدَّمَتْ إليهم مبالغ لا تُصَوَّر.

       إنّ الرشوة سادت وأحكمت سيطرتها حتى على المستشفيات الرسمية ومراكز الصحة، فأنتَ لا تجد سريرًا في بعض المستشفيات التي أوصاك الأطباء بتلقى العلاج فيها وحدها؛ لأن المرض النازل بك لا يوجد علاجه إلا فيها، لكونها مزودة بكامل التسهيلات العلاجية التي أنت تحتاج إليها؛ ولكنك إذا قدمت رشوة إلى العاملين فيها والمتحكمين في شؤونها فإنك تجد فيها أكثر من سرير، وأوفرَ من التسهيلات التي قد تحتاج إليها وقد لا تحتاج.

       حتى عَمَّ الأنباء أن الأصوات الانتخابية هي الأخرى تُشْتَرَىٰ من شعوب الدوائر الانتخابية بمبالغ تُنْثَرُ عليهم في الليلة الأخيرة التي يطلع بعدها اليوم الذي يجري فيه التصويتُ. ويصنع ذلك من هم يُرَشِّحُون أنفسهم ليكونوا نُوَّابًا في البرلمان، أو أعضاء في المجالس الإقليميّة، أو رؤساء للشؤون البلدية، أو مسؤولين حكوميين يُنْظَرُ إليهم أنهم سيراعون القانون والنظام، ويحرسون شرعيّة الجهات الرسمية، التي عن طريقها يَتِمُّ تنفيذُ القانون والنظام والانضباط الاجتماعي، الذي بدونه يفقد المجتمع التوازن والتماسك، ويصبح كل فرد فيه مستقلاً حبلُه على غاربه في اتخاذ كل قرار وفعل كل ما تهواه نفسه مما يضرّ العبادَ والبلادَ.

       وكذلك لدى تبليط الشوارع والطرق، وإنشاء الجسور، أو مَدّ خطوط السكة الحديدية، أو إنشاء المباني الحكومية، يتم التظاهر بطرح مناقصة عامّة، ولكن لاتتاح فرصة القيام بهذه المسؤوليات وأمثالها إلاّ لمن يقدمون رشوة باهظة للوزراء والمسؤولين المعنيين.

       وقد اشتهر في الأوساط الشعبية كالأمثال الكثيرة التداول أن الحكومة المركزية أو الحكومة الإقليمية ترصد لصالح الفقراء أو الذين يعيشون تحت خطّ الفقر مبلغ البلايين، فيصير خلال الوصول إلى المديريات مبلغًا لا يجوز أن يُقَدَّرَ إلاّ بملايين، ويصير لدى الوصول إلى القرى الجامعة شبه المدن ألوفًا، فلا يصل إلى القرى العامة إلّا قدرَ مئات، ولايكون نصيب الفقراء منها إلّا روبيات معدودة. أي أن كُلًّا من الوزراء والمسؤولين والمُوَظَّفِين والذين يكون لهم أيُّ تدخّل في إمرار المبالغ الرسمية إلى من هم دونهم يتقاسمون مُعْظَمَها. وكأن ذلك صار عرفًا مُتَّبعًا، فعاد لا يسترعي انتباهًا ولايثير عجبًا.

       أمّا المسؤولون في مصلحة ضريبة الدخل، فهم يعتلون أعلى رتبة في الشهرة بتقاضي الرشوة الخيالية التي يقدمها لهم أصحاب الشركات الكبيرة ورجال الأعمال والمال وأصحاب الوظائف ذات الرواتب المرتفعة، حتى يتستروا عليهم في نظر الحكومة وحتى يمكنهم الاحتفاظ بكثير من المبالغ التي كان عليهم ليدفعوها ضريبة لدخلهم الكبير.

       إن العالم العربي منذ ما قبل سنوات كان على نجوة من هذا الداء الخبيث المستشري في جسم هذه القارة المعروفة بشبه القارة الهندية؛ ولكن سكان هذه الديار الذين يعملون في أقطاره وسكان ديار العجم الآخرين المتواجدين على أرض العالم العربي قد نقلوا إليها هذا المرض السيّء الذي لم يعمَّ عمومَه في هذه الديار، ولكن الخطر يتفاقم مع الأيّام؛ لأن العمال والموظفين العجم لايزالون يتوافدون إلى بلاد العرب بعدد متزايد.

       الإسلام حَرَّم كل طريق للكسب الحرام، فحرّم الرشوةَ. فشَنَّع على الراشي – الذي يعطي الرشوة، وعلى المرتشي – الذي يقبل الرشوة – وعلى الرائش – الذي يتوسط بينهما – فعن ثوبان – رضي الله عنه – قال: «لعن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي والرائش» (شرح مشكل الآثار:5655).

       وذلك لأن الرشوة من أشنع أنواع الظلم، كما أنه استغلال لأموال الناس دونما إذن شرعي بوجه باطل.

       وجاء في الحديث فيما يتعلق بالرشوة ما حدث على عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه بعث عبد الله بن رواحة إلى يهود بني خيبر؛ ليُقَدِّر ما يجب عليهم في نخلهم من خراج، فأرادوا أن يرشوه، فقال لهم ابن رواحة: «فأمّا ما عرضتم من الرشوة، فإنها سحت، وإنا لانأكلها» (الموطأ:2595).

       و وَرَدَ في الحديث أنه –صلى الله عليه وسلم- قال: «من شفع لأخيه بشفاعة، فأهدى له عليها هدية، فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا» (سنن أبي داود:3541).

       ورُوِيَ أن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال:  «السُّحْتُ أن تطلب لأخيك الحاجة فتقضيَ، فيهدي إِليك هديةً، فتقبلها منه» (كتاب الكبائر للذهبي 1/132).

       وقد رُويَ أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بعث واليًا له من الأزد يجمع الصدقَة، فلما رجع الرجل إِلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أمسك بعضَ ما معه من المال. وقال: هذا لكم وهذا أُهْدِيَ إليَّ، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «مابال الرجل نستعمله على العمل مما وَلَّانَا اللهُ، فيقول: هذا لكم، وهذا أُهْدِيَ إِليَّ، فهَلَّا جلس في بيت أبيه، في بيت أمّه، فينتظر أَيُهْدَىٰ إِليه أم لا؟!. والذي نفسي بيده لا يأخذ منه شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تبعر. ثم رفع يديه حتى رأيتُ عفرتي إبطيه، وقال: اللهم هل بلّغتُ ثلاثًا» (صحيح البخاري: 7174، صحيح مسلم: 1832).

       والرشوة مثل جميع مكاسب الحرام تحول دون استجابة الدعاء مهما بالغ في التضرّع إلى الله تعالى والإنابة إليه، فقد روي أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ذكر «الرجل أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السماء، يقول: ياربِّ ياربِّ ومطعمه حرام ومشربه حرام وغُذِّي بالحرام، فأنى يستجاب له» (صحيح مسلم:1015).

       والرشوة من كبائر الذنوب، ونهى الله تعالى عنها نهيًا قاطعًا ضمن النهي عن جميع أنواع المال الحرام، فقال تعالى: «سَمَّـٰعون لِلْكَذِب أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحْتِج» (المائدة/42) وقال عزّ وجلّ: «وتَرَىٰ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَـٰرِعُونَ فِيْ الإثْمِ والْعُدْوَانِ وأَكْلِهِمُ السُّحْتَ  ج لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (المائدة/62). والسُّحْتُ: هو كل ما خَبُثَ وقَبُحَ من المكاسب فلزم عنه العار.

       وقد نهى الله تعالى عن أكل أموال الناس بالباطل نهيًا شمل جميع أنواع المكاسب الخبيثة الحاصلة عن طريق الربا والرشوة والابتزاز والسرقة والاختلاس والخداع والخيانة، فقال تعالى:

       وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَـٰطِلِ وتُدْلُوا بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوٰلِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (البقرة/188).

       على كل فالرشوة تُدَمِّر حياة الفرد والجماعة، كما تُدَمِّر موارد المجتمع المالية؛ لأن الراشي قد يُقَدِّم الرشوة إلى المسؤولين المعنيين للحصول على ترخيص لإنتاج دواء غير صالح لصحة الإنسان، ويبيع صاحب الصيدلية أدوية منتهية الصلاحية، وعندما يُؤَاخَذ على ذلك يُقَدِّم رشوة إلى السلطات المعنية ليواصل بيعَ أمثال هذه الأدوية للمرضى الذين يزدادون مرضًا باستخدامها بل قد يفقدون حياتهم. كما أن المقاولين الرسميين ينشئون مباني وجسورًا ومحطّات ومواقف بموادّ ناقصة أو فاسدة أو لا يستخدمون المواد بنصاب مطلوب، فتأتي المباني والجسور والمحطات والمواقف أو … ضعيفة مُعَرَّضة لخطر الانهيار كل وقت، وقد تنهدم فعلاً فتُؤَدِّي إِلى مصرع أو إصابة عدد لا يُحْصَىٰ من أفراد الشعب الأبرياء.

       وعلى ذلك فالرشوة مفاسدها لا تُحْصَىٰ، ومضارّها لا تُحَدُّ، وأخطارها جسيمة مُدَمِّرة لأفراد المجتمع؛ ولذلك حَرَّمَها الإسلام، وعَدَّتها الشريعة من كبائر المعاصي.

* * *


(*)     المتخرج من الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند والحامل لشهادة الماجستير في الفلسفة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دهلي.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1437 هـ = مايو – يونيو 2016م ، العدد : 8 ، السنة : 40

Related Posts