إشراقة

الإسلامُ — وهو دين الله الأخير الخالد، الذي جاء رحمةً بالإنسانية وليُصْلِح كلَّ ما فسد من المجتمع البشري، ويُقَوِّمَ كلَّ ما اعْوَجَّ منه، ويستقيم به على الصراط العادل المستقيم، فلا ينحرف ولا يتطرف فيَجْلُب له المهالك — يأخذ بالقصد والوَسَطِيَّة، ويحثّ عليها، وينهى عن الغلوّ والتطرف، والتشدّد والمبالغة، وكل معنى من المعاني التي تُجَانِب الاعتدالَ والتوسّطَ والاستقامةَ، وما إلى ذلك، مما يُثْقِل في النهاية كاهلَ الإنسان، ويجعله يَمَلُّ ويَسْأَم، ويَنْبَتُّ عن العمل الذي كان يعنيه ويَتَصَدَّىٰ له ويغلو فيه ويُشَادُّه.

       قال المُعْجَمِيُّون: العدل: ضد الجور، وما قام في النفس أنه مستقيم. وعَدَلَ في أمره: استقام؛ وفي حكمه: حَكَمَ بالعدل؛ والشيءَ: أقامه وسَوَّاه؛ ومنه عَدَلَ الميزانَ وعَدَلَ السهمَ. وعَدَّلَ الشيءً: أقامه وسَوَّاه، ومنه عَدَّلَ المِكْيَالَ والميزانَ؛ وعَدَّلَ الحكمَ أو الطلبَ: غَيَّره بما هو أَوْلَىٰ عنده؛ والشاهدَ أو الراويَ: زَكَّاه. أما اعْتَدَلَ، فمعناه: تَوَسَّط بين حالين في كمّ أو كيف. يقال: ماءٌ مُعْتَدِلٌ أي بين الحارّ والبارد، وجوٌّ معتدل أي بين الحرارة والبرودة، وجسم معتدل أي بين الطولِ والقِصَرِ أو بين البَدَانَة والنَحَالة.

       أما اصطلاحًا فهو: التزامُ المنهج العَدْلِ الأَقْوَمِ، والحقِّ الذي هو وَسَطٌ بين الغُلُوِّ والتَّنَطُّع وبين التفريط والتَقصيرِ، فالاعتـدالُ وَسَطٌ بين طـرفين: هما الإفراطُ والتفريطُ، ويعني التوسّطَ والاقتصادَ في الأمور كلها الدينية والدنيوية.

       والاعتدالُ يُرَادِف الوَسَطِيَّةَ، تلك التي مَيَّزَ اللهُ بها هذه الأمة، وأَشَادَ بها بالنسبة إلى هذه المزيّة، فقال: «وكَذَلِكَ جَعَلْنٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيْدًا» (البقرة/143).

       والوَسَطِيَّةُ لا تعرف معنى من معاني التفريط في أي من القيم والثوابت، وأصول التشريع، وأسس العبادات، كما لا تعرف أبدًا معنى من معاني المغالاة والتنطّع والتطرّف. إذًا فالوسطيّةُ والاعتدالُ والاقتصادُ مَعَانٍ مترادفة – وإن كان بين كل منها فرق دقيق – في كل من المفهوم اللغوي والشرعي والاصطلاحي.

       على كل فالاعتدالُ أو الوسطيّةُ أو الاقتصاد ظلّ منهجَ الأنبياء وأتباعهم جميعًا؛ ولذلك نجد الإسلام يأمر أمرًا مُؤَكَّـدًا بالاعتدال والقسط، والتزام الصراطِ المستقيم والمَحَجَّة البيضاء، واتّخاذ ذلك منهجًا في الحياة. واللهُ تعالى أمَرَنا بالاعتدال في كل شيء حتى في البذل للآخرين وعطائنا لهم، فقال: «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا» (الإسراء/29).

       الإفراطُ والتفريطُ أزمتان خطيرتان للغاية تُفْسِدَان على الإنسان حياتَه، وتُضِيعان أغراضَه الأصيلة، وتَحْرِمَانه السعادةَ الدينيةَ والدنيويةَ، وتَسْلُبَانه العافيةَ والهدوءَ، وتجعلانه يتيه في صحراء الحياة؛ لأنّ الإفراط والغلوّ بينما يُسَبِّب إرهاقَ النفس والفكر، ويسلب التفكير الإنسانيَّ الاستقامةَ في كل مناحي الحياة، إذ التفريطُ والتقصيرُ يُعَطِّل مواهب النفس البشريّة وقُدُرَاتها الطبيعيّة، ويؤدي إلى عجزها عن نشاطها وتحرّكها.

       مقابلَ ذلك كانت الوَسَطِيَّةُ – التي هي سمةُ هذه الأمة التي تُعْرَف بها وتَفْضُلُ بها على سائر الأمم – حالةً مطلوبةً تدفع أهلَها للالتزام بهدي الإسلام في إقامة العدل بين الناس، ونشر الخير، وتحقيق عمارة الأرض، وعبوديّة الله، وحقوق الإنسانية، وإعطاء كل ذي حقّ حقَّه. وأوّل ما تتمثل ملامحها في كل من العدل والإحسان، والرفق والحكمة، ورفع الحرج، والخيريّة والتيسير، والاستقامة والأمان، والقوة والوحدة، وإقامة الدين، والبَيْنِيَّة المعتدلة، وعمارة الأرض، وطاعة ولي الأمر، وما إلى ذلك من مقومات الحياة الإسلاميّة وعناصرها اللازمة.

       ومظاهر الوَسَطِيَّة والاعتدال تَشْمُلُ الحياةَ الإسلاميّةَ كلَّها، ففيما يتعلق بالعقيدة تتجلى الوسطيّة في توحيد الله وإفراده بالعبادة والعبوديّة، وتنزيهه عن الشرك، فيُشَنِّع الإسلام على دعاة الغلو في التكفير، الذين يبالغون فيه حتى يُكَفِّرون المسلمين، وعلى المتساهلين فيه الذين يَأْبَوْنَه حتى من صرحاء الرِّدَّة، ويُشَنِّع على الخرافيين الذين يُسْرِفون فيُصَدِّقون بكل شيء إلهًا، ويؤمنون به بغير برهان، وإلى ذلك يُشَنِّع على المادِّيِّين الذين ينكرون ما وراء الحسِّ.

       وتتجلّى في التشريع، فيُبِيح الإسلامُ الطَّيِّبات، ويُحَرِّم الخَبَائِث، ويُرَاعِي التوازنَ بين مطَالب الروح والجسد، والعمل للدنيا والآخرة معًا.

       وتَتَجَلَّى الوَسَطِيَّةُ – كذلك – في أن الإسلام وَسَطٌ بين الدهريين والملاحدة الذين لايؤمنون بوجود إله ما وبين المشركين والوثنيين الذين يُعَدِّدُون الآلهةَ حتى يعبدون كل شيء في الكون من الحيوانات والنباتات والجمادات من الأغنام والأبقار، والثعابين والحيات، والأشجار والأحجار، وكل العجائب والغرائب في الكون، ويدعو – الإسلام – إلى الإيمان بإله واحد فرد صمد لاشريك له، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.

       وتَتَجَلَّىٰ وَسَطِيَّة الإسلام في أنه وَسَطٌ بين الذين يُقَدِّسُون الأنبياء والأولياء والصالحين حتى يرفعونهم إلى مرتبة الألوهيّة، وبين الذين يُكَذِّبُونَهم وَيتّهمُونَهم ويصفونهم بأوصاف دنيئة يترفع عنها عامة البشر.

       وتَتَجَلَّىٰ وَسَطِيَّتُه في كل من عباداته مقابلَ جميع الأديان التي تُلْغِي جانبَ العبادة، كالبوذيّة مثلاً – التي تنحصر فروضها في الجانب الأخلاقي – وبين الأديان التي طلبت من أَتْبَاعِها التفرغ من جميع الأشغال الدنيوية للعبادة وحدها والانقطاع عن قضايا الحياة كلها إليها وحدها، كالرهبانية التي ابْتَدَعَتْها المسيحيةُ، ولم يكتبها الله عليها؛ فالإسلام يأمر المسلم بالاقتصاد والوسطيّة بين هذا وذاك، ويُكَلِّفُه أداء عبادات محدودة في اليوم والليلة، أو في السنة مرة كالصيام، أو في العمر مرة كالحج، وبعد ذلك يجعله حرًّا طليقًا يمشي في مناكب الأرض ساعيًا منتجًا له ولعائلته ولمجتمعه والخلق جميعًا، ويبتغي من رزق الله الذي بَعْثَرَه؛ فقد قال الله عز وجل:

       ﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُوْدِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ج ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوٰةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ (الجمعة/9-10).

       بل الإسلام يُؤَكِّد دائمًا على الاعتدال والاقتصاد في العبادة، وقد كان رسوله – صلى الله عليه وسلم- قدوةً في ذلك؛ بل كان مقتصدًا في كل أمر من أمور حياته، في كلامه ووعظه وخطبته، وفي صلاته وصيامه، فكان يصوم ويفطر، وكان ينام جزءًا من الليل ويقوم جزءًا منه. وكان يأمر بذلك الاعتدال أصحابه ليكونوا أسوة لمن بعدهم من المسلمين، فعن أنس – رضي الله عنه – قال: جاء ثلاثةُ رهط إلى بيوت أزواج النبي –صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي –صلى الله عليه وسلم- فلمّا أُخْبِرُوا كأنهم تَقَالُّوها، وقالوا: أين نحن من النبيّ –صلى الله عليه وسلم- قد غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر؟. قال أحدهم: أمّا أنا فأصلّي الليلَ أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أَعتزل النساءَ فلا أتزوّج أبدًا، فجاء رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إليهم، فقال: «أَ أَنتم قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له؛ لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوّج النساءَ؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني». (البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، رقم الحديث: 5063؛ ومسلم في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسُه إليه، رقم الحديث:3469).

       فالإسلام لم يحبّ تعذيبَ الجسد وتحميلَه ما لايطيق، ولم يشرع هذا المنهجَ لبلوغ الكمال؛ لأن الكمال لا يقتضي أن يقوم الإنسان بتعذيب جسده وإيلام روحه، وتكليف نفسه الامتناعَ عما أباحه الله للإنسان من نعم لا تُحْصَىٰ. فعن ابن عبّاس – رضي الله عنهما – قال: بينما النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبوإسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظلّ ولا يتكلّم، ويصوم، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- «مُرُوا فليتكلَّمْ، ولْيَسْتَظِلَّ، ولْيَقْعُدْ، ولْيُتِمَّ صومَه». (البخاري، كتاب الإيمان، باب النذر فيما لايملك وفي معصية، رقم الحديث: 6704؛ وأبوداود، كتاب الأيمان والنذر، باب ما جاء في النذر في المعصية، رقم الحديث: 3302).

       وعن أنس – رضي الله عنه – قال: دخل النبي –صلى الله عليه وسلم- المسجدَ فإذا حبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟. قالوا: هذا لزينب تصلي، فإذا فترت تعلقت به، فقال –صلى الله عليه وسلم-: «حُلُّوه، لِيُصَلِّ أحدُكم نشاطَه، فإذا فتر فليقعد». (البخاري، كتاب التهجد، باب ما يُكْره في التشديد في العبادة، رقم الحديث: 1150؛ النسائي، في السنن، كتاب قيام الليل وتطوّع النهار، باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل، رقم الحديث: 1643 واللفظ له).

       إن الاعتدال في الواقع خلق يتجذّر في داخل الإنسان ويدخل في كل أعماله فضلًا عن الأعمال التي تُصَنَّف ضمن الأخلاق، التي يُعْمِلُ فيها هي الأخرى التوسطَ والاعتدالَ، فيكون وَسَطًا بين غُلَاة المثاليين – الذين تخيّلوا الإنسان مَلَكًا أو شِبْهَ مَلَكٍ، فقرروا له من القِيَم ما لا يطيقه – وبين غُلَاة الواقعيين – الذين ظنّوه حَيَوَانًا أو شِبْهَ حَيَوَانٍ – فوضعوا له من السلوك ما لا يليق به، فالفريق الأوّل بَالَغَ فِي إحسان الظنّ بالفطرة الإنسانيّة؛ فعَدَّها خيرًا محضًا، والفريق الثاني بَالَغَ في إساة الظنّ بها، فعَدَّها شرًّا لا يشوبه خير. أما الإسلام فكانت نظرته واقعيّة بمعنى الكلمة، فكان الإنسان لديه بين هذا وذاك، فهو مخلوق فيه العقل وفيه الشهوة، وهداه اللهُ النجدين، وهَيَّأه بما فطره عليه من سلامة الطبع لسلوك السبيلين، حيث وضع فيه مواهب تعينه على جهاد نفسه الأمارة بالسوء وعلى سلوك طريق التقوى ومخافة الله. قال تعالى:

       «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّﯨـٰﮩﺎ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَﯨـٰﮩﺎ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّـٰهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّـٰهَا» (الشمس/7-10).

       وقد كان من مظاهر التوسط والاعتدال في الإسلام، أن المسلم يتوسّط حتى في الإنفاق؛ فلا يُنْفِق المالَ إنفاقًا أَخْرَقَ يدخل في باب الإسراف الذي حَرَّمَه اللهُ تعالى، وإلى ذلك لا يضيق على نفسه وعياله وعلى من له الحقوق عليه؛ بل يَتَّخِذ منهجًا وسطًا بَيْنِيًّا، أخذًا بقوله تعالى:

       «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا» (الإسراء/29).

       والاعتدال والاقتصاد في الإنفاق يحول دون الفقر والاحتياج إلى الناس وسؤالهم، فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «ما عَالَ من اقْتَصَدَ» (أحمد في المسند:4269) وقال –صلى الله عليه وسلم-: «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة» (البيهقي في شعب الإيمان:6148) أمّا الذي يُسْرِف في إنفاقه لما في يده من المال فإن إسرافه يُؤَدِّيه إلى الفقر ويُحَوِّله عالةً على غيره.

       وكذلك يَتَوَسَّط المسلم في الطعام والشراب، فلا يتناول منهما إلاّ قدر حاجته إليهما؛ لأن الإسراف في تناولهما يُؤَدِّي إلى أمراض شتى قد تكون فتّاكة، مثل السمنة وانسداد الشرايين. وهو مرض قد استشرى اليوم بشكل مُرَوِّع. كما يُؤَدِّي الإفراط في ذلك إلى الضعف والانهيار الجسمي والعقلي؛ ولذلك نهى النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- عن ذلك قائلاً:

       «مَا مَلَأَ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقَيْمَاتٌ يُقِمنَ صلبَه، فإن كان لامحالة، فثُلُثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنفسه» (الترمذي: 2380، وابن ماجه: 3349).

       والمسلم مأمور كذلك بالاقتصاد والتوسط فيما يتعلق بالملبس، فعليه أن لا يُسْرِف في ذلك بأن يختار من الملابس الفاخرة الثمينة ما يَتَبَاهَىٰ به وفي المجتمع من لا يجد من الملابس ما يستر به عوراته؛ فيجب عليه أن يعتدل في ملابسه ويختار ما يكون بين الثمين والرخيص، وما يناسب له بالنسبة إلى اللون والموضة والتفصيل؛ ولا يَجعلَنَّ نفسه مَعْرِضًا للأزياء ليفتخر بها بين أفراد المجتمع. وقد نهى النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: «من لبس ثوبَ شهرة، ألبسه الله يوم القيامة ثوبًا مثله، ثم تُلْهَبُ فيه النار» (أبوداود: 4029 واللفظ له، وابن ماجه: 3606) وقد قيل فيما يتعلق بالملابس: اِلْبَسْ من ثيابك ما لايزدريك فيه السفهاءُ وما لا يعيبك به الحكماء.

       والمسلم يعتدل في الكلام كذلك، فهو يجانب الكلام الزائد عن الحاجة، لأن هذا النوع من الكلام يُعَدّ «ثَرْثَرَةً» ونهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الثرثرة والكلام الزائد عن الحاجة، لأنه يضيع وقت المسلم الذي وجب عليه أن يحافظ عليه. قال –صلى الله عليه وسلم-: «إن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون – الذين يكثرون الكلام دونما حاجة – والمُتَشَدِّقون – الذين يتحدثون بالغريب من الألفاظ – والمُتَفَيْهِقُون. قالوا: يارسول الله! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المُتَفَيْهِقُون؟. قال: المتكبرون» (الترمذي:2018).

       التوسط والاقتصاد في الكلام يتفادى بالمسلم من الوقوع في الخطإ؛ لأن الكثير الكلام يكون عادةً الكثيرَ الخطإ. وقد أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بقول الخير أو السكوت، فقال: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت» (البخاري:6018 ومسلم:75) وقد قيل: إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. وقيل: الكلام في الخير كلُه أفضل من الصمت، والصمت في الشر كلُه أفضل من الخير.

       إن المسلم يتعامل بالوسطيّة – صدورًا عن تعاليم دينه – حتى مع الأعداء، من النصارى واليهود، فلا يميل إليهم كلَّ الميل ولايداهنهم في عقائدهم الخرافية الباطلة، فيظلّ حَذِرًا كلَّ الحذر في تعامله معهم، ويجعل العداوة معهم تظلّ محكومةً بضوابط شرعيّة وأحكام دينية. الحقُّ أن المعارك والحروب والسلم والمهادءة بين المسلمين وأعدائهم نموذج عملي للوسطية والاقتصاد الذي لايشوبه غلوّ أو تطرف. وكلُّ ما يخالف ذلك المنهج الحكيم ليس من تعاليم الإسلام في شيء.

       وبالجملة إن الاعتدال والتوسط من أخلاق الأنبياء والرسل – عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام – فقد قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:

       «إنّ الهديَ الصالح، والسَّمْتَ الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة» (أبوداود:4776؛ وأحمد في المسند:2698). والاعتدال يجعل صاحبه محبوبًا لدى الله ولدى خلقه وعزيزًا في المجتمع الذي يعيشه، ويعينه على أداء كل وظيفة من وظائف حياته بنصابها المطلوب دونما تفريط وإفراط. ومن طبيعة الإنسان أنه إذا أسرف في أداء جانب معين من فرائض دينه أو دنياه، فإنه يضطر أن يُقَصِّر في أداء جانب آخر. فمن يُفْرِط في أداء عبادته، فإنه سيُقَصِّر في أداء عمله، ومن يُفْرِط في أداء عمله، فإنه سيُقَصِّر في إراحة بدنه. وقد أُثِرَ عن سيدنا معاوية – رضي الله عنه – أنه قال: «ما رأيتُ إسرافًا في شيء إلّا وإلى جانبه حق مُضَيَّع (عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري 1/454، ط: دارالكتب العلمية، بيروت).

       وقد وَرَدَ في الخبر عن النبي الأبرّ –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «وأمّا الذين اقْتَصَدُوا وتَوَسَّطُوا فأولئك يُحَاسَبُون حِسابًا يسيرًا» (أحمد:21727).

       فالاقتصاد والاعتدال له فضائل لا تُحْصَىٰ، فمن أخذه وجعله منهجًا في حياته فقد أخذ بحظ وافر، وعاش حياة مغبوطة وسَهَّلَ على النفس العمل بمتطلبات دينه ودنياه معًا.

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

(تحريرًا في الساعة 9 من الليلة المتخللة بين الأحد والاثنين: 18-19/جمادى الأولى 1437هـ  = 28-29/فبراير 2016م)

* * *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1437 هـ = مايو – يونيو 2016م ، العدد : 8 ، السنة : 40

Related Posts