دراسات إسلامية
بقلم: أسامة نور/ القاسمي (*)
جرثومة الشائعات ظلّت فتّاكةً في كل زمان ومكان؛ ولذلك وقف لها الإسلامُ بالمرصاد؛ لأنها تقف مانعةً من كل نهضة وتقدم، وتُؤَدِّي إِلى هزيمة في كل معركة في الحياة وفشل في كل جولة مصيريّة، تنال الصفوف فتُمَزِّقها، والقلوبَ فتُفْسِدها، والعزائمَ فتُضْعِفها، ومُهِمَّةَ الإصلاح فتمحوها، ومجال الاقتصاد والاجتماع فتُدَمِّره، والمجتمع الإنساني فيملأ جنباته بالفساد والدمار؛ ولذلك لم يَدَعِ الإسلام أَيَّ طريق مفتوحًا لها لتُوقِفَ مسيرة الحياة الإنسانية، وتُكَدِّر صفوَ العيش في وجه الإنسان.
ولذلك تَوَعَّدَ الإسلامُ بالعذاب الشديد والعقاب الأليم كل من يقوم بالشائعة ويساهم في انتشارها بين الناس، فعن أبي الدرداء – رضي الله عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ ذَكَرَ امْرَءًا بِمَا ليس فيه ليُصِيبَه بما ليس فيه، حبسه الله في نار جهنم، حتى يأْتي بنفاد ما قال فيه» (الطبراني في الأوسط، رقم الحديث:8936).
وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «ما من امرئ يخذل امرءًا مسلمًا في موضع تُنْتَهك فيه حرمتُه ويُنْتَقَص فيه من عرضه إلا خَذَلَه اللهُ في موطن يجب فيه نصرتُه» (أبوداود، رقم الحديث: 4884).
ولا شكّ أن القيام بنشر الشائعات هو سلوكُ مَنْ هو مُجَرَّدٌ من القيم الخلقية الإسلامية؛ ولذلك فالمجتمع الإسلامي الصحيح الذي كان آخذًا بها وعاضًّا عليها بالنواجذ كانت قد ماتت فيه الشائعات حتف أنفها؛ لأنّ أبناءه – المجتمع الإسلامي الصحيح – كانوا لا يُصَدِّقون إلا ما قام الدليل على صدقه. وقد أكّدت التجارب أنّ تصديق الشائعات والأراجيف كثيرًا ما يُؤَدِّي إِلى زوال النعمة وانتشار القلق والاضطراب والبلبلة. وكلُّ ذلك مما يسلب المجتمعَ الهدوءَ والطمأنينةَ التي لابدّ منها للحياة الإنسانية المنتجة التي يتحقق بها غرض عمارة الأرض وخلافة الله عليها.
ولذلك يلتجئ إليها المبطلون والكفرة والمشركون وأعداء الله في كل عصر ومصر، فهذا قوم نوح – عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام – كانوا يعتمدون عليها للفساد والإفساد في الأرض وصدّ الناس عن دعوة نوح – عليه السلام – والإيمان بالرسالة الإلهية التي كُلِّفَ تبليغَها إيّاهم؛ ولكنهم أعرضوا عنها علوًّا واستكبارًا، وأطلقوا ضدّه تُهَمًا وشائعات، فقالوا: إنه في ضلال مبين، وإنه من الكاذبين، وإنه مجنون، وإنّه يودّ من خلال دعوته أن يعلو علينا ويتفوّق، ويسود ويتسلّط. وقد حَكَى اللهُ تَعَالى ذلك في كتابه المجيد، فقال:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥٓ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَقَالَ ٱلْمَلَؤُا۟ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِن قَوْمِهِۦ مَا هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَٰٓئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِىٓ ءَابَآئِنَا ٱلْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌۢ بِهِۦ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا۟ بِهِۦ حَتَّىٰ حِينٍ» (المؤمنون /23-25).
وعلى شاكلة قوم نوح ما ترك المشركون العرب من تهمة باطلة وشائعة كاذبة إلا وألصقوها بالنبي الأكرم محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم- حتى ينصرف الناس عنه، ويُعْرِضُوا عن دعوته، فقالوا: إنه ساحر، إنه كذّاب، إنّه مجنون، إنه شاعر، وإن قرآنه أساطير الأوّلين. وقد حكى ذلك ربنا – تبارك وتعالىٰ- في آيات كثيرة، منها ما جاء في الآيات الآتية:
«وَعَجِبُوٓا۟ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ ٱلْكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ ٱلْءَالِهَةَ إِلَٰهًا وَٰحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُوا۟ وَٱصْبِرُوا۟ عَلَىٰٓ ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَشَىْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلْءَاخِرَةِ إِنْ هَٰذَآ إِلَّا ٱخْتِلَٰقٌ أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِنۢ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُوا۟ عَذَابِ» (ص/4-8).
وللتغلب على خطر الشائعات والتوقي منها أوصى الإسلامُ أبناءه بالتزام ما يأتي:
إحسان الظن بالمسلم، الذي يعني تَحَرِّي الدليل الباطني الوجداني وإنزال غيره من المسلمين بمنزلته هو. وقد تَجَلَّى ذلك الموقفُ في قوله تعالى:
« لَّوْلَآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا۟ هَٰذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ » (النور/12).
وأن لا يُحَدِّث بكل ما سمع؛ لأن ذلك يكون منه مساهمة فعالة في نشر الشائعات، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «كَفَىٰ بِالْـمَرْءِ إثمًا أن يُحَدِّث بكل ما سمع» (المستدرك، رقم الحديث: 382).
وقد سَدَّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كل باب في وجه انطلاق الشائعات، ففي حديث: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرجل: زَعَمُوا» (مصنف ابن أبي شيبة: رقم الحديث: 25791).
وأن يَتَأَكَّدَ من صحة الأخبار التي ترد إليه، فلا يرويها حتى يَتَثَبَّت من صدقها وصحّة مصدرها، قال تعالى:
«يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌۢ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوٓا۟ أَن تُصِيبُوا۟ قَوْمًۢا بِجَهَٰلَةٍ فَتُصْبِحُوا۟ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَٰدِمِينَ » (الحجرات/6).
و أن يتمسك في التعامل مع الشائعات بالأسلوب الحكيم الذي هداه إِليه القرآن الكريم:
«وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلْأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُوا۟ بِهِۦ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُو۟لِى ٱلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لَٱتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَٰنَ إِلَّا قَلِيلًا » (النساء/83).
إن هذا الأسلوب يقف سدًّا منيعًا دون انتشار شائعة وعموم اضطراب فكري وبلبلة اجتماعيّة.
وأن لا يُصْغِي لما يقوله في المجالس والنوادي المنافقون والمغتابون، والكذابون والمفسدون، والفضوليّون وأصحاب القلوب المريضة.
وأن يراقب الله تعالى في السرّ والعلن، فلا يسيء بأحد ظنًّا، ولا يهتك له عِرْضًا، ولا يثق في شأنه فاسقًا، ولا يُشِيع خبرًا قبل أن يَتَأَكَّدَ من صحته وصدق راويه والوسائط التي بينه وبينه.
وكان الصحابة – رضي الله عنهم – نموذجًا في التثبت من صحة الأخبار، ولهم في ذلك مواقف كثيرة سَجَّلَها كتبُ الحديث والسيرة، منها أن أبابكر – رضي الله عنه – عندما سُئِلَ عن ميراث الجدة، فلم يعرف في ذلك علمًا، فسأل الصحابة – رضي الله عنهم – فأخبره المغيرةُ بن شعبة – رضي الله عنه – أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أعطاها السدسَ، فطلب الصِّدِّيقُ شاهدًا لقول المغيرة، فشهد على ذلك محمد بن مسلمة – رضي الله عنه – (سنن أبي داود برقم 2894؛ وسنن الترمذي برقم 2100).
إنّ الإعلام اليوم الذي أصبح ألعوبةً ماكرةً بيد الشيطان، صار أكبر وأقوى وأفعل وسيلة لترويج الشائعات التي يعتمد عليها في الإيقاع بين الدول والأمم، والجماعات والأفراد، ولتخدير العقول والتعتيم على الحقائق ولنشر الأساطير والأكاذيب وتردادها مرّات لا تُحْصَىٰ حتى تصير عند الناس حقائق.
والحاجة ماسة إلى تعزيز وترسيخ وترويج الإعلام الإسلامي الذي يقوم دائمًا على أساس التصوّر الواقعي الصحيح عن الإنسان والحياة والكون، ويتقيد بنشر معلومات صحيحة مجردة من قول الزور والإساءة إلى أي فرد أو جماعة.
مُعْظَم المفاسد في المجتمع العالمي ترجع اليوم إلى الإعلام الفاسد المفسد الذي تديره الصهيونية والصليبية والوثنية التي لا تعير أي قيمة للقيم الخلقية والمثل الإنسانية. وصارت الشائعات والأراجيف أداة فعالة بيد هذا الإعلام الذي يتصدى لسلب المجتمع البشري البقية الباقية من الهدوء والأمن.
والإعلامُ الذي يديره الْيَوْمَ تَلاَميذ الشياطين من اليهود والنصارى والوثنيين والملحدين يختلق الأكاذيب ويَفْتَعِل الأنباء الكاذبة ويُسِيءُ باستمرار إلى الآخرين، ويُشِيع الفاحشة في المجتمع الإنساني، ويُفْسِد المجموعةَ البشريَّةَ بتكرار أنباء الفحشاء والمُنْكَر والجهر بالقول السوء، وكُلُّ ذلك نهى عنه الإسلامُ نهيًا باتًّا. قال تعالى: «لاَ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ج وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا» (النساء/148).
وقال: «إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَٰحِشَةُ فِى ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ » (النور/19).
وقال: «وَلَا تَسُبُّوا۟ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّوا۟ ٱللَّهَ عَدْوًۢا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ» (الأنعام/ 108).
على كل فالإسلامُ رَكَّزَ تركيزًا بالغًا لا مزيدَ عليه على إبانة أخطار الشائعات وفتكها بالمجتمع البشري، وانتهج منهجًا حكيمًا صريحًا في مواجهتها.
ودل على طرق واضحة للحيلولة دونها ودون نشوئها وإلحاقها أضرارًا فتّاكة بالفرد والمجتمع.
* * *
(*) المتخرج من الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند والحامل لشهادة الماجستير في الفلسفة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دهلي.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1437 هـ = أبريل – مايو 2016م ، العدد : 7 ، السنة : 40