دراسات إسلامية

بقلم: محمد محمد صالح عوض (*)

       «من الناس من يمرُّ على الدنيا مرورًا عابرًا ساذجًا، لم يحظ من الدنيا بشيء سوى رقم في دفتر الإحصاء! لم يُثر الدنيا، ولم تُثره، ولم يُفدها ولم تُفده. قضى عمره كله بمعزل عن الحياة وتيارها الصاخب، حظه منها وحظها منه مطعم ومشرب وحيّز يشغله.

       ومن الناس من يقتحم الحياة اقتحامًا، ويدخل في غمارها ومشكلاتها في شجاعة وثقة، جاهد وجهر بالحق وصدع به وقذف به في وجه الباطل؛ فكتب لنفسه بنفسه تاريخ ميلاده وبقائه حتى بعد موته، ونضَّر وجه أمته وسجَّل لها إضمامة ناضرة في سِفر خلودها. فليست العبرة بالوجود في الحياة، بيد أنَّ العبرة بما يكتبه ذووالعزائم، وصادقو الهمة، والعظماء الواعون بأدوارهم على أساس من وعيهم برسالتهم، ومواريثهم البيئية والذاتية. وعلى أساس هذا التمايز في النشأة والتكوين والوعي بالمسؤولية والرسالة كان من الأسماء ما يستوقفك من بعيد، وكأنه هامة شامخة، أو قمة جبل سامقة، تستشرفك من علٍ، وتُطلُ عليك وكأن تاريخًا مُضيئًا يتملاك، ويملأ جوانحك بالعبق والنغم والضياء!.

       ومن الأعلام من يحنو عليك، ويدلِفُ إلى عالمك؛ فيأخذك على جناحه، ويضعك في دنياه، ومن هؤلاء الأعلام: الثقاة من الصحابة والتابعين، ومن عمَّقُوا نهر الحياة للإنسانية، ومن كتبوا على صفحات الخلود أسماءهم، وسجلوا بأنفسهم تراثًا مطمئنًا من الخير للناس والبشرية(1).

       كل هؤلاء، وأولئك، نماذج تُذكر فتُثري جوّنا بالإشراق والنعمى والتواريخ الفصاح: ﴿مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب:23]، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة:207].

       والدول والشعوب والبشرية كلها مدينة لهذه النماذج الصادقة المعطاءة في حركتها الدؤوب من أجل تحضر الإنسان وخيره وسعادته ورفاهيته، وتأكيد رسالته على وجه الأرض، وبعث الرجاء والطمأنينة في نفسه اللاهثة القلقة. والبشرية إنما تعيش وتستمر وتتقدم على ما قدَّمه الصادقون في كل مجال من المجالات(2).

       وهكذا الحياة: جيل يتلوه جيل، ونموذج خيّر يقفوهُ نموذج، يُضيء للإنسانية السبل، ويُجدد لها معالم الطريق.

       يقول ألكسس كاريل(3): «وتشعر الجماهير بالألم حين لا تجدُ أحدًا تُعجبُ به، ومن حُسن الحظ أن المجتمع لا يتكون من الأحياء وحدهم؛ بل من الأموات أيضًا، فعظماء الموتى لايزالون يحيون بيننا»!.

       ويقول الأستاذ/ محمد العبدة: «عندما يَقِلُ الرجال يتطلع الناس إلى الماضي؛ ليعيشوا مع أولئك الرجال العظام الذين أدّوا خدمات جليلة للأمة بحكمتهم ومواقفهم الشجاعة؛ لأن الناس لابد لهم من قدوة».

       ومما لا شك فيه أن الاطلاع على جوانب من حياة هؤلاء الرجال يُوفر قدْرًا من متعة ذهنية، ورِضْوَة نفسية. وتدبُّر ما فعلوا في رحلتهم في الحياة  يلفت أنظارنا إلى أمور كثيرة لها قيمتها منها: أخذ القدوة.. والعبرة من حياتهم لتكون نبراسًا للأجيال القادمة، تسير على هداه، وتقبس من سناه.

*   *   *

رزية موت العلماء:-

       وموت  العلماء رزية دونها كل الرزايا. فعن عَبْد اللهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ:  «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ…»(4).

       ومن هؤلاء الرجال: مُصلح إسلامي ضخم من صفوات مجتمعنا، وداعية أديب أريب.. أُطلق عليه: «أديب الدعاة» لبراعته وبلاغته التي طبقت شهرتها الآفاق، وعرفه القاصي والداني، اعتلى منبرًا رفيع المستوى أسمع من فوقه الدنيا كلها صوته راعدًا ورأيه مُدويًا دِفاعًا عن الإسلام وداعيًا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. إنه نموذجٌ أزهري جليل رحل عنا، بيد أنه مازال ماثلًا في عقولنا وقلوبنا، نموذج يستحق أن نقترب منه وندنو.

       إنه الحاضر الغائب، الذي رحل عن دنيانا مؤخرًا، أديب العلماء «الدكتور/محمود محمد عمارة» الأستاذ بجامعة الأزهر، وعضو هيئة كبار العلماء.

       فبعد مسيرة علمية دعوية حافلة في خدمة الإسلام والمسلمين، وبعد صراع طويل مع المرض أسلم الدكتور/ محمود محمد عمارة روحه إلى بارئها، في صباح السبت الثامن من شهر ربيع الأول 1437هـ الموافق للثاني عشر من شهر ديسمبر 2015م.  في مؤشر جديد على انتقاص الأرض من دعاة الحق والهدى، وقبض العلم بقبض حملته!.

نشأته وحياته:-

       – ولد – رحمه الله – بقرية «سلامون» مركز الشهداء بمحافظة المنوفية عام 1929م.

       – حصل على الشهادة العالية من كلية أصول الدين بجامعة الأزهر الشريف عام 1956م.

       – حصل على تخصص التدريس من كلية اللغة العربية عام 1957م. وعين مدرسًا في نفس العام بمعهد أسيوط، ثم بمعهد دسوق، ثم بمعهد منوف.

       – أُعير للجامعة الإسلامية بليبيا من عام 1962-1966م – ومن ذكرياته عن عمله في ليبيا قصة لا تخلو من فائدة – سنذكرها بعد قليل – ثم عاد إلى معهد بني مزار ثم معهد فتيات المعادي ثم معهد منوف.

       – حصل على الماجستير في الدعوة والثقافة الإسلامية عام 1970م – ولحصوله على درجة الماجستير قصة نعرض لها بعد قليل-.

       وحصل على الدكتوراه في الدعوة والثقافة الإسلامية عام 1975م.

       – من المؤسسين الأوائل لكلية أصول الدين والدعوة بمسقط رأسه بمحافظة المنوفية.

       – عمل مدرسًا بـ«جامعة الملك عبد العزيز» بـ«مكة المكرمة»، وأستاذًا بـ«جامعة أم القرى». وفي فترة وجوده بالمملكة العربية السعودية طلبت منه الإذاعة السعودية إعداد برنامج «المنهج الإسلامي في الدعوة» وهذا البرنامج هو نفسه كتابه الموسوم بـ: «فقه الدعوة من قصة موسى – عليه السلام-».

       – كان عضوًا باللجنة المركزية وناقش الرئيس المصري الراحل أنور السادات – أثناء اشتراكه في وضع الدستور المصري- في ضرورة أن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، ووافق على اقتراحه.

       – يكتب في الصحف والمجلات منذ أن كان طالبًا بالمرحلة الثانوية. وكتب لمدة طويلة في مجلة «الوعي الإسلامي» الكويتية، ومنار الإسلام الإماراتية، ومجلة الأزهر، ومجلة منبر الإسلام المصرية، وغيرها.

       – كان له برنامج بإذاعة القرآن الكريم المصرية بعنوان «أدب الحوار في الإسلام» صدرت حلقات هذا البرنامج في كتابين، الأول بعنوان: «من أجل حوار لا يفسد للود قضية» والثاني بعنوان: «دعوة الحق بين المجادلين فيها والمجادلين عنها».

       – كلفته لجنة «العقيدة والفلسفة» بمجمع البحوث الإسلامية (هيئة كبار العلماء) بإعداد بحث عن «الجهاد في الإسلام: مفهومه وضوابطه». وكان لهذا التكلف ثمرة يعتز بها، ونوه عنها في مقدمته لهذا الكتاب.

       – اشترك في بعض المؤتمرات الإسلامية خارج مصر.

محطات في مشوارحياته

موقف المفتش المصري معه أثناء عمله بليبيا

       من الحكايات التي حكاها، وكثيرًا ما كان يذكرها قصة المفتش المصري الذي زاره أثناء تدريسه لحصة من حصص السيرة النبوية بمعهد مصراته الليبي، يحكي عن ذلك فيقول:

       «كنت أعمل بمعهد «مصراته» الديني، وزارنا ذات يومٍ العالم المصري الكبير «مفتشًا» وكانت الحصة «درسًا في السيرة النبوية» وكان من حسن حظي أن أُعجب المفتش بما رأى وبما سمع.. ثم جاء التقرير يُناشد داعيًا إدارة المعهد إلى إسناد «مقرر السيرة» وعلى كل المستويات إليَّ.. لكنه عقَّب على ذلك.. فكتب في ذيل التقرير: سألته عن «دفتر التحضير» فاعتذر بنسيانه! ومهمة «دفتر التحضير»: أن تذكر فيه ما سوف تقوله غدًا.. وقد سمع الشيخ ما أسعده: سمع ما قلته فعلًا وعلى الطبيعة.. وإذن فما فاته شيء يبكى عليه بعدما سمع مالم يكن يتوقع!

*   *   *

شيوخه وأساتذته:-

       تلقي الراحل العلم على يد كوكبة من رموز الدعوة، وفطاحل العمل الإسلامي في مصر الأزهر، وعلى رأسهم الشيخ محمد الغزالي– وكان يتباهى ويفتخر بأنه أستاذه-، والأستاذ الشيخ البهي الخولي، والدكتور محمد فتح الله بدران، الدكتور محمد سعاد جلال، وغيرهم.

قصة حصوله على درجة الماجستير، وما فيها من فوائد للطلبة والباحثين

       في مقدمتــه لكتابه «نوح أول داعٍ إلى الله من خلال آيات القرآن الكريم» يحكي قصة حصوله على الماجستير بعد أن كان قريبًا من الرسوب لولا عناية الله، وتدخل بعض أساتذته الذين يعرفون قدره ومكانته العلمية.

       يقول: «حدث ذلك منذ أكثر من ثلاثين سنة، جلست أمام لجنة الاختبار الشفهي، والمكونة من أستاذيَّ المرحومين، الشيخ محمد الغزالي، والشيخ البهي الخولي، وذلك لمناقشتي في بحث عن نوح – عليه السلام- طوله عشرون صفحة. وكانت هذه المناقشة هي المرحلة الأخيرة، والتى يتجاوزها الطالب ليكون قد حصل على درجة «الماجستير» في الدعوة والثقافة الإسلامية.

       ومضى الحوار بيني وبين الشيخين كما أهوى.. وفجأة: انعقدت في سماء اللجنة غيوم.. ثم كان ما يشبه البرق والرعد، وذلك حين واجهني الأستاذ البهي الخولي بما لم يكن لي في حساب حيث قال لي: سوف ترسب، وستعيد السنة! وكان طبيعيًا أن يتجه بصرى إلى أستاذي الغزالي، ليحسم الموقف لحسابي، فقد كان يعرفني ويعُدني من تلاميذه المقربين، ولكنه اكتفي بابتسامة دون أن يتكلم، لأنه شاهد المرحوم د/ محمد فتح الله بدران يتحفز لإنقاذي!

       ولم تكن مصيبتي عندئذٍ هي الرسوب، وإنما كانت بالدرجة الأولى هي خسارتي رجلًا كالبهي الخولي أحبه، وأجله، وكيف أصبر على جفائه الذي لم أتوقعه يومًا، وكيف ألزم قلبي بعد ذلك حبه بعد ما حدث؟ إن إعادة السنة أمر وارد في حياة كل طالب، بيد أن المشكلة أن حبيبك قد قلاك، بينما مودته وشهادته أثقل في الميزان من كل اعتبار. وقد حاول الشيخ الغزالي إنقاذي، لكن المرحوم د/ محمد بدران قفز من وراء مكتبه- وكان حينئذٍ رئيسًا لقسم الدعوة- قفز ليهمس في أذن الشيخ البهي الخولي بأن «محمود عمارة» يُرجى منه الخير، وأنا أُعده ليكون داعية، ورسوبه يعني حرمان القسم من أحد أبنائي البررة!

       وأحسست بأمارات الرضا على وجه «البهي» والتي سرت إلى شيخي «الغزالي» ثم تحقق رجاء د.«بدران» بتنازل «البهي» عن تهديده لأحصل على درجة الماجستير. واستدعاني «البهي» بعد المناقشة لأصاحبه في دعوته إلى منزله بشارع القصر العيني ثم فاجأني بما يلي:

       هل تعرف لماذا كنت عازمًا على إسقاطك في الامتحان؟

       لقد ورد في بحثك بعض المصطلحات العصرية، والمنسوبة إلى كاتب صحفي معروف مثل قولك «قضية الساعة» و «سياسة الأمر الواقع» إلى غير ذلك مما يجري على ألسنة المحدثين من الكاتبين. والمفروض ألا يقلد الدعاة غيرهم، وإنما عليهم أن يلتزموا لغة خاصة تميزهم عن غيرهم، وتحدد ملامحهم التي يجب ألا تغيب في الزحام. وقلت له يا مولانا: إننا أبناء البيئة التي نعيشها: نشرب من مائها، ونتنفس هوائها، ولابد من أن تجري على ألسنتنا بعض ما يفرضه علينا إعلام يلح علينا بالليل والنهار. لكن الولاء أولًا وأخيرًا للحق الذي يجب أن يظل محتفظًا بوجوده المتفرد.

       ولقد سعدت حقًا، لا بما حصلت عليه قبل قليل من درجة علمية، وإنما كانت سعادتي بما قال الشيخ مما لا يعبر عن سقطة علمية. أما سعادتي الحقيقية فقد تمت بما أفضاه إليَّ ونحن نأخذ سمتنا إلى بيته العامر. فقد سلمني النسخة – نسخة البحث- التي كانت معه وقال: اقرأ رأيي فيك يا «عمارة»:

       1- أسلوبك من نوع نادر.

       2- فيك لمحات ذكاء.

       3- وفيك غيرة على الإسلام.

البهي الخولي أستاذه، يدعوه لزيارته في بيته!

       ثم يقول: «وبعد أن انتهيت من قراءة هذا التعليق قال: وعليك أن تزورني في منزلي بين الحين والآخر!

       وقلت له عندئذٍ: يا مولانا: ما حدث الآن يعدل في نظري الحصول على الدكتوراه، فضلًا عن الماجستير، فشهادة «البهي الخولي»، ورغبته في زيارتي له شرف عظيم لم أكن أحلم به! لكنه الآن يتحقق.

       ثم يقول: وقد توالت اللقاءات، والتي كنت أعود منها إلى بيتي محملًا بأطيب الثمار، ومن بين ما كنت أحمله هذه التجارب التي نعيشها، وعلى الطبيعة، والتي تؤكد لك أنك لا تسبرُ غور عالم وإن قرأت له مئة كتاب، حتى تعيش معه لترى من تصرفاته ما هو أبلغ في الدلالة على عظمته.

اكتبني من جملة تلاميذ الشيخ/ محمد الغزالي!

       يالله على تواضع العلماء!

       يقول الإمام ابن الصلاح في مقدمته «علوم الحديث»(431) في أثناء حديثه عن بعض آداب طالب الحديث: «…ولا يأنف من أن يكتب عمن دونه ما يستفيده منه. روينا عن «وكيع بن الجراح» أنه قال: «لاينبل الرجل من أصحاب الحديث حتى يكتب عمن هو فوقَه وعمَّن هو مثلُه، وعمن هو دونَه».

       وإن تعجب! فلتعلم أن الراحل- يرحمه الله- حينما علم بأن أحد الباحثين يُعِدُ رسالةً للدكتوراه عن الشيخ/ محمد الغزالي، اتصل به هاتفيًا قائلًا له «رجائي أن تكتبني في رسالتك من جملة تلاميذ الشيخ الغزالي، رغم أن فرق العمر بينهما سنوات!(12سنة)!

قال عن نفسه

       «بعض الناس قد يُطرون أحاديثي، فأنا أقول لهم: ليست هذه شارة العلم بقدر ماهي شارة الصدق فيما أعرض، وأنني أقول ما أنا مقتنع به، فإذا تحدثت عن الظلم فلأنني مظلوم ، وإذا تحدثت عن الحب، فأنا أُقدر هذه العاطفة التي تربطني بالآخرين، فأنا لا أتحدث عمن كتب، وإنما عن كثب! أعيش الحياة، وقد يكون هناك مشوار طويل يحتاج سيارة خاصة فأُفَضِلُ القطار؛ لأن دوي القطار، والنماذج التي تتقلب في القطار الطالعة والنازلة، والأحاديث التي أسمعها، كلها تمنحني بعض الملاحظات التي تخرج رطبة حية في أحاديثي، فإذا سمعها حتى الفلاح الذي لا يفهم ما أقول؛ فانه يطربُ؛ لأن الذي يتكلم إنما يتحدث من قلبه.

علاقته بالشيخ محمد الغزالي، وإنفاقه نصف راتبه حتى يستمع للشيخ الغزالي، ونصيحته للدعاة اليوم

       سألته في حوارٍ أجريته معه منذ عدة سنوات ونشرته مجلة «الوعي الإسلامي» الكويتية في العدد (532) قلت له:

       كانت تربط بينكم وبين الشيخ محمد الغزالي– رحمه الله – علاقة وآصرة طيبة فما هي طبيعة هذه العلاقة، وما هي ذكرياتكم مع الشيخ الغزالي، وماهي نظرتكم الدعوية في هذه المدرسة المتفردة؟

       فقال: عقب تخرجي عُينت مدرسًا في الأزهر، وفي العام التالي نُقلت إلى معهد دسوق الديني، فعلمت أن الشـيخ الغزالي سيُلقي محاضرة في الإسكندرية و المسافة بعيدة بين بـلدة دسوق و الإسكندرية، وكان عليَّ أن أنفق في السفر نصف راتبي الشهري!، فبذلته راضيًا لأراه وأستمع إليه.

       كنت قرأت له قبل ذلك لكن «فما راءٍ كمن سمع»، كان يُعجبُني فيه سجيته التلقائية، ووضوحه، ونشأته الريفية، ولذلك تعجب أنّ علاقتي به توطدت عندما علمت  أنه فلاح مثلي، وتلمح آثار هذه الخضرة، وهذه الطلاقة وهذه الحرية في أسلوبه، في تعبيراته، فلما التقيت به وكنت في مجموعة خصني بالحديث، وتذكرت حينئذٍ: أن «الأرواح جنود مجندة». فلما عملت معه في جامعة أم القرى إلى مدى أربع سنوات وجدت الأهداف متفقة، وأنني يُسعدني أن أكون تلميذًا في مدرسة الشيخ محمد الغزالي، وقد تعلمت منه خلق السماحة على الفارق الهائل بيني و بينه، فحينما كان في وزارة الأوقاف وهو مدير تأتيه الورقة فيوقع عليها دون أن ينظر لما فيها، ويساعد دائمًا ذوي الحاجات، كان الشيخ الغزالي يقول: أنا أميل إلى الدعابة، وأنا أيضًا أميل إلى الدعابة، وكان يقول: أنا فِيَّ شيءٌ من الحِدّة، وأنا أيضًا فِيَ شيءٌ من الحِدّة، وهذه طبيعة من نشأ في الريف، يُعبِّر عن شعوره بتلقائية و بدون مراجعة.

       الشيخ الغزالي صوته من قلبه، ويعني ذلك أنه طرف في القضية التي يعرضها، هذا ما أزعُمه، والحقيقة عند الله. هذا ما يربطني بالشيخ الغزالي، ومنه أنطلق إلى نصيحة أقدمها للدعاة: ألا يتكلموا في حديثه إلا إذا درسوه، وانسجموا معه أولًا عاطفيًا؛ لأن ما خرج من القلب وصل إلى القلب.

قالوا عنه يرحمه الله

       جاء في نعي الأزهر الشريف له: «ينعى الأزهر الشريف وعلماؤه العالم الجليل الأستاذ الدكتور محمود محمد عمارة، عضو مجمع البحوث الإسلامية، وأحد علماء الأزهر البارزين، وصاحب المؤلفات التي عمقت للفكر الإسلامي الوسطي، وأثرت المكتبة الإسلامية. والأزهر الشريف، إذ ينعى فقيد الأزهر وأحد علمائه الكبار، يَتقدَّم بخالص العزاء والمُواساة للعالم الإسلامي، ولأسرة الراحل، سائلًا الله – عزَّوجلَّ- أن يتغمده بواسع رحمته جزاء ما قدَّم، وأن يُلهم أهله وذويه الصبر والسلوان، و«إِنَّا لِلّٰهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ».

       ويذكر أحد تلاميذ الراحل، الدكتور/ محمد عشماوي «مدير إدارة العلاقات الخارجية لدول أوروبا والأمريكيتين بوزارة الأوقاف المصرية» حين سألته عن ذكرياته مع الراحل فقال:

       «أعتقد أن لدي الكثير، ولكن ربما قَدْحُ زناد الفكر وتجميع الذكريات يحتاج إلى وقت، لكن أستطيع أن أقول: إن الدكتور محمود عمارة كأستاذ لعلم الدعوة ومناهجها كان يمثل ثروة حقيقية، للأسف الشديد لم يلتفت إليه، ولم يستفد منه بالقدر المطلوب، كان الرجل يؤسس لأجيال من الدعاة الشباب يقفون على حقيقة هذا الاضطراب الفكري والدعوي الذي أصاب الساحة فأطاح بالوسطية وأهلها وهمش أصحاب الفكر الرصين والدعاة المتمكنين فيما رفع وقدم وصدر فئة من أنصاف القراء أو إن شئت فقل: المتطفلين على الدعوة وساحاتها، تلك الفئة التي قدَّمت الفرعيات محل الأصول وأقامت معارك عنيفة حول المستحبات أو المباحات التي يسع فيها الخلاف ويعتبر. أذكر أنه مرة التقى شابًا من أصحاب السمت المعروف إعلاميا بالملتزم وإذا بالشاب يعرض ويلغو في مسألة اللحية ضاربًا حدود الأدب مع شيخنا – رحمه الله- تجاوز سنه وبينهما سابقة بالإيمان والعمل تمتد لخمسين سنة وتجاوز فوارق ضخمة من العلم والقراءة والدراسة المتأصلة الرصينة على يد عمالقة العلم والفقه، فكان جواب شيخنا على هذا الشاب الغر اليافع الذي حسب الدين إطالة شعر اللحية أو تقصير الثوب، قال يا بني: تذكر أن تربية الشعر في الإسلام ليست أولى من تربية الشعور!يالله ما ألطفه من توجيه وأحلمه من تعليم.

       كان شيخنا كثيرًا ما يعلمنا قائلًا: وراء كل حُكمٍ حكمة، ودوري كداعية يبدأ بعد معرفة الحكم أن استبطن حكمة الحكم. و بمثل هذه اللفتات الحكيمة كان شيخنا يواجه بعضًا من طيش الشباب المتحمس كما كان شيخنا يصفهم، إذ كان – رحمه الله- عف اللسان ما سمعنا منه إساءة في وجه أو حق من أساء إليه، رحمك الله شيخي الحبيب، ويعلم الله كم افتقدك.

من مؤلفاته رحمه الله

       بارك الله في قلم وعمر الراحل، حتى أن مؤلفاته تجاوزت التسعين كتابًا في مختلف فنون الثقافة والدعوة الإسلامية، إضافة إلى أكثر من 95 ساعة صوتية ومرئية من الأحاديث واللقاءات الإذاعية والتليفزيونية، ومن مؤلفاته مايلي:-

       نوح عليه السلام، نحو أسلوب أمثل للدعوة الإسلامية، صفحات من تاريخ المرأة المسلمة، الخطابة في موكب الدعوة،   من فقه عمر في العزل والتعيين والمساءلة، تأملات في السيرة، من الذي يغير المنكر وكيف، فقه الدعوة من قصة موسى عليه السلام، مؤمن آل فرعون، ودروس في الدعوة، الحج بين الدوافع والمنافع، الهجرة والإعداد للمستقبل، الدعوة بين كيد الطغاة وحكمة الدعاة، أصول الدعوة من قصة إبراهيم عليه السلام، الإعلام الإسلامي في مواجهة الإعلام المادي، تقدمة التلاوة، نحو مجتمع بلامشكلات، نحو أسرة بلامشكلات، تأملات في غزوة تبوك، تائبون يغسلون بالدموع خطاياهم، المتقون هم المتحضرون، وغيرها جزاه الله عن الدعوة والدعاة خيرالجزاء.

سر فصاحته وبلاغته وبراعته

       تمكن الراحل من اللغة العربية، فكانت طوع بنانه، يشكلها ويطرزها كما يفعل الصائغ الماهر مع حُليه التي تخطف الأبصار، فكان لعباراته رنين جذاب، تخلب الألباب، وتشنف الآذان، وصدق الصادق المصدوق –صلى الله عليه وسلم- حين قال: «إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا» (البخاري: 5146)، وقد كان لعباراته وقع السحر، يعرف ذلك كل من قرأ له أو استمع إليه، مما حدا بالإذاعي الراحل «أحمد فراج» أن يقدمه للجمهور العربي بلفظ: «أديب العلماء».

       وقد صدق فراج فيما قال، فقد نهل الراحل في أول حياته من الأدب والبلاغة حتى كرع، وشرب حتى ارتوى، وسبح في بحارها واستعذب المرواستسهل الصعب حتى بلغ المراد. وذلك جنبًا لجنب مع العلوم الشرعية والدراسة الأكاديمية الأزهرية، ولذلك تفتق لسانه عن عبارات قلما يصيغها أديب أريب، فضلا عن أستاذيته في أصول الدين.

       ويؤكد كلامي هذا لماسئل – رحمه الله- عن سر بلاغته وحسن تراكيبه وحلاوة ألفاظه. فأجاب: بقراءة كتب الرافعي وكتب الشيخ محمد الغزالي، والبهي الخولي، وحسبك بهؤلاء أدبًا وبلاغةً وفصاحةً وفكرًا.

       وإنه- والله- ليؤلمنا أن نفقد صوته العذب، وعباراته الحلوة المنتقاة، ونحته لحلو العبارات وجميل الكلمات، وعلو كعبه في الأدب، وامتلاكه لناصية البلاغة، وأستاذيته في أصول الدين والدعوة، مع تواضعٍ جمٍ وأدبٍ راقٍ، وموفور حياء، ورقة طبعٍ، وحسن سمتٍ.

       رحم الله العلامة الأديب الدكتور محمود محمد عمارة رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته… وجزاه عما قدم لدينه وأمته خير الجزاء.

*  *  *

الهوامش:

(1)       مجلة الأزهر: الجزء العاشر، السنة (69)، شوال: 1417هـ، فبراير: 1197م من مقال: للدكتور: سعد عبد المقصود ظلام، ص: (1478-1479). 

(2)       السابق.  

(3)       العشرة المبشرون بالجنة: (5) محمد صالح عوض، ط مؤسسة المختار بالقاهرة، 1999م، وقد قرظ وقدم للكتاب الراحل يرحمه الله. وألكسس كاريل: طبيب فرنسى الأصل عاش في أمريكا، وحصل على جائزة نوبل في العلوم، وله كتاب شهير بعنوان: «الإنسان ذلك المجهول».

* * *


(*)             رئيس القسم الديني بصحيفة «الوعي العربي»

                باحث «ماجستير في الدراسات الإسلامية»

                مصر-المنصورة- طلخا- بساط

                ص ب 35582   جوال 01008556700

                Dr_mmsaleh@outlook.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1437 هـ = أبريل – مايو 2016م ، العدد : 7 ، السنة : 40

Related Posts