كلمة العدد
من حكمة الله تعالى أنه فَضَّلَ بعض الأزمنه والأمكنة على البعض، واختار منهاالبعض بالمزايا والخصائص التي لم يودعها الآخر. يقول الله عزّ وجلّ: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيْرَةُ» (القصص/68). وذلك لكي يُمَكِّن عبادَه المسلمين من الفوز بأكبر قدر ممكن من الثواب المذخور والجزاء الموفور، لا يتأتّى له في غير هذه الأزمنة والأمكنة. ومن هذه الأزمنة أيام العشر الأواخر من شهر ذي الحجة، ففيها من إمكانية زيادة الأجر والتقرب إليه تعالى ما ليس في غيرها من أيّام شهور السنة كلها.
فقد روى البخاري عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام» – يعني أيّام العشر – قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلاّ رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء» (أبوداود:2438؛ الترمذي:757).
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن، من هذه العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» (أحمد:4131).
وقال الله تعالى: «وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ» (الفجر/1-2).
وذلك لأن فيها يوم عرفة ويوم النحر إلى العبادات الجليلة التي تجتمع فيها، والتي تُشَكِّل «أمهات العبادة» وهي الصلاة والصيام المندوب والصدقة والحج والأضحية، ولا تجتمع هذه كلها في غيرها من الأيّام.
وبما أنها هي أفضل أيام السنة، ينبغي أن ننتهزها للإكثار من العمل فيها؛ لأن فضيلة الزمان تؤكد فضيلة العمل فيه، فلابدّ أن نجتهد في هاتي الأيام اجتهادًا بالغًا في العبادة والذكر والأعمال الصالحة الأخرى؛ علمًا بأن من العلماء المتقنين من أكدوا أنها أفضل من أيام رمضان؛ فالعمل فيها أفضل من العمل في أيام رمضان؛ ولكن رمضان له فضائل أخرى كثيرة كبيرة تحضر دائمًا في الأذهان لم تَحْظَ بها عشر ذي الحجة، ومن ذلك فريضة الصيام التي تعود على كل مسلم بالغ عاقل، وليس ذلك شأن الحج؛ لأنه إنما يفترض مرة في العمر على المسلم المستطيع، وقد ورد في فضل الصيام أحاديث كثيرة تؤكد أنه عبادة ممتازة بين عبادات الإسلام؛ فقد قال الله في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به» (مسلم:1151).
وفي رواية لمسلم: «كل عمل ابن آدم يُضَاعَفُ: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضِعْف. قال الله تعالى: «إلاّ الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي. للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقائه ربَّه. ولخلوفُ فيه أطيب عند الله من ريح المسك».
إلى غير ذلك من الفضائل الكثيرة التي وردت في صيام رمضان والتي هي كثيرة عظيمة، منها ما جاء في الحديث: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه» (متفق عليه، البخاري: 38؛ مسلم: 760).
كما أن رمضان شهر القرآن لأنه فيه نزل، وفيه سُنّ قيام الليل وتحرى ليلة القدر، إلى ما ورد في الحديث من أنه تُصَفَّد فيه الشياطين، وتُفْتَح أبوابُ الجنة وتُغْلَق فيه أبواب النيران.
وفي هذه الأيام العشرة الجليلة ينبغي أن يبدأ المسلم بالتوبة من جميع ذنوبه وآثامه التي اقترفها، وقد دعا الله تعالى إلى التوبة الخالصة الكاملة بقوله: «يٰأَيّها الَّذِيْنَ اٰمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله توبةً نَصُوحًا» (التحريم/8) والتوبة النصوح هي الإنابة إلى الله تعالى، والندم على جميع الذنوب التي أتاها، وإجماع العزم على أن لايعود إليها.
كما يجب عليه أن يؤدي فيها الحج والعمرة إذا قدر عليهما؛ لأن الحج إنما يقع فيها؛ لأن معظم مناسكه تقع فيها. والحج عبادة عظيمة إذا وقع مبرورًا فليس له جزاء إلاّ الجنة؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاء إلاّ الجنة» (متفق عليه: البخاري:1773؛ مسلم: 1349) وفي حديث آخر عنه: سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه» (البخاري:1521).
إلى فضائل كثيرة لهذه العبادة التي هي أحد أركان الإسلام؛ فقد قال – صلى الله عليه وسلم -: «بُنِيَ الإسلامُ على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» (متفق عليه: البخاري:8؛ مسلم:16).
كما ينبغي أن يحافظ فيها على الفرائض بصفة خاصّة؛ لأنه لاشيء يتقرب به العبد إلى ربّه من الفرائض التي افترضها عليه، فقد روى أبو هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرب إليّ عبد بشيء أحبّ إلي مما افترضتُه عليه» (البخاري:6502).
وأن يكثر من النوافل؛ لأن الأعمال الصالحة التي يحبها الله تعالى، تتأكد محبوبيتها لديه في الأيام المختارة من قبله والزمان الذي فَضَّله على غيره. كما ينبغي له – كما أسلفنا – من الإكثار من الذكر، من التهليل والتكبير والتحميد؛ لأنها الأيام المعلومات التي أمر الله تعالى بذكر اسمه فيها، وذلك قوله تعالى: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَّعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَّأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْم بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ» (الحج/27-28).
وكذلك ينبغي أن يصوم يوم عرفة أي اليوم التاسع من ذي الحجة.
فقد ورد في الحديث أنه يُكَفِّر السنة الماضية والباقية (رواه مسلم عن أبي قتادة:1162).
كما أن أيّام العشر يقوم فيها المسلم بتقديم الأضاحي، والأضحيةُ واجبة على من قدر عليها عند أبي حنيفة – رحمه الله-، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حافظ عليها، فقد قال ابن عمر – رضي الله عنهما – أقام النبي – صلى الله عليه وسلم – بالمدينة عشر سنين يُضَحِّي. (مسند أحمد:4955)
وقد قال غيره من الأئمة بكونها سنة مؤكدة للمستطيع.
وكذلك هذه الأيام المباركة فيها يوم العيد الذي يؤدي فيه المسلمون ركعتي صلاة العيد وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم بر وصلة رحم ويوم شكر وعرفان بجميل الله وكل عمل صالح، كما أنه يوم مسرّة تعم المسلمين جميعًا: الفقراء والأغنياء معًا.
أمّا فضل يوم عرفة أي اليوم التاسع من ذي الحجة الذي هو من أيام العشر، فحَدِّثْ عن البحر ولا حرج؛ لأنه اليوم الذي أكمل الله تعالى فيه الدين وأتم فيه علينا نعمته، قال تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِينًا» (المائدة/3)؛ ولأنه يوم عيد؛ حيث قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب» (أبوداود:2419) ولأن صيامه يُكَفِّر سنتين كاملتين، كماأخبر بذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – حيث قال: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يُكَفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده» (مسلم:1162) ولأنه يوم العتق من النار؛ فقد قالت عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء» (مسلم:1348).
ويستحب في يوم عرفة الإكثار من الدعاء والابتهال والذكر؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلاّ الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» (الترمذي:3585).
كما أُمِرَ المسلم في يوم عرفة بالتكبير الذي يبدؤه من صلاة الفجر فيه ويواصله إلى آخر أيام التشريق.
ومن أيام العشر يوم الحجّ الأكبر وهو يوم النحر والعاشر من ذي الحجة، وهو أفضل أيام السنة وأعظمها لما ورد في الحديث الذي رواه أبوداود: «إن أعظم الأيّام عند الله – تبارك وتعالى – يوم النحر ثم يوم القرّ» (أبوداود: 1765) ويوم القرّ هو اليوم الذي يلي يوم النحر؛ لأن الناس يستقرّون فيه بـ«مني» فالقر بمعنى الاستقرار. وقد قال العلماء: إن يوم عيد الأضحى وهو يوم النحر أفضل من يوم عيد الفطر؛ لأن الأول تجتمع فيه الصلاة والنحر، والثاني إنما يجتمع فيه الصلاة والصدقة. والنحر أفضل من الصدقة. وهو اليوم الذي يتمّ فيه معظم أعمال الحج بالإضافة إلى الصلاة والتكبير والأضحيّة.
والحجُّ الذي يُؤَدَّىٰ معظم أعماله في أيام العشر فريضة من فرائض الإسلام يلتقي فيها العقيدةُ والإيمانُ العملَ وأداءُ المناسك التطبيقَ العمليَّ، وهو مدرسة تزخر بمناهج تهذيب النفس وإعادة بناء حياة المسلم؛ لأنه عبارة عن مجموعة من المناسك والأعمال والأقوال التي تنتظم في أطر زمنية ومكانية تجسد معنى تعبّديًّا وعمليّة تربويّة تساهم في بناء شخصية المسلم، وتعمل على إعادة صياغتها. وذلك لأن لفريضة الحج أهدافًا تربوية تُعدّ المسلم نفسيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا وروحيًّا؛ فالأعداد الحاشدة من المصلين يجتمعون في أدائه من كل جنس ولون وعرق تختلف لغاتهم وتتباعد أوطانهم؛ ولكن تتوحد قلوبهم، وتتناغم مشاعرهم وعواطفهم، وتتجانس أفكارهم، ويتلاشى الفرق بين الغني منهم والفقير، والقوي والضعيف، والأبيض والأسود، والعربي والأعجمي؛ حيث لايتفاضلون اليوم إلاّ بالتقوى والعمل الصالح.
إذا كانت العبادات في الإسلام منطلق تغيير جذري يؤدي إلى البناء، فإن الحج يحدث ثورة شاملة داخل كيان المسلم، تكتسح جميع الرواسب الفاسدة والانحراف والضلال، وتجعله كيوم ولدته أمه. وذلك هو مِحَكٌّ يمكن أن يقاس به مدى كون الحج مبرورًا ليس له جزاء إلاّ الجنة، ومدى كونه تعبًا ومشقة وهدرًا للمال وإجهادًا للنفس في غير مرضاة الله إذا أساء الحاجّ أداء المناسك، وفسدت نيته، وقصد إلى الرياء والتظاهر، وأراد أن يكسب لقب «الحاج» فقط.
وقد صَرَّح العلماء أن الحج مدرسةُ تدريب على السمع والطاعة. كما أن فيه تدريبًا على تحمل الصعاب والمكاره، وعلى السخاء والعطاء، وحسن الخلق والتعامل الحسن والمشاركة الإيجابية للمسلمين بعضهم بعضًا في صنع الخير للإنسان ولنفسه معًا، وإلى ذلك إن في الحج تعويدًا للمسلم التجردَ من بلده ووطنه، وما له وأهله وأصدقائه، وذلك يُمَثِّل نموذجًا ساميًا للتجرد لله عزوجلّ، وللتضحية في رضاه وابتغاء وجهه بجميع العلائق الأرضية والمصالح الماديّة إذا دعا لذلك داعي الإسلام، واقتضته حاجة الدين.
إن الحج تنطلق منه المعاني الحضاريّة للفكر الإسلامي، حيث يُمَثِّل أعظم مظاهر الوحدة رغم اختلاف الأجناس والأعراق، واللغات واللهجات، والبلدان والأوطان. والوحدةُ قيمة كبيرة أعلى الإسلام منارها؛ لأن انتصار الأمة على غيرها وفرض سيادتها عليه رهن بوحدتها وتماسكها؛ فالمسلم من خلال تجربة الوحدة وتقاسم المشاعر التي يعيشها خلال أدائه الحج يعود أكثر نفعًا لنفسه ولمجتمعه؛ حيث يتدرب على التمسك بالخلق الطيب، والتعاون مع أخيه، والحبّ له ما يحبه لنفسه، واحتمال المشاق والمكاره، والتضحية بالمال والمصالح المادية في سبيل الله، فتتهذّب نفسه، وتتأصل قيمه، ويعتدل سلوكه، وينصهر في بوتقة الدين على المستوى المطلوب.
الحق أن المسلمين إذا استثمروا هذه الفريضة بشكل دقيق لما وجد الأعداء سبيلاً إلى الإضرار بهم من خلال اختراق صفهم؛ كما يصنع الصهاينة والصليبيون الذين يستغلون تشتت شمل المسلمين ويعملون دائمًا على إثارة خلافات وتناحرات بين الصف الإسلامي، حتى يظل المسلمون متشاغلين بالصراع الداخلي ولا يتفرغوا لمقاومة مكائدهم ودسائسهم.
وقد صدق الله عز وجل إذ قال: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ» (الحج/28).
(تحريرًا في الساعة 12 من ظهيرة يوم الاثنين: 11/رمضان 1436هـ = 29/يونيو 2015م)
نور عالم خليل الأميني
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالحجة 1436 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2015م ، العدد : 12 ، السنة : 39