دراسات إسلامية

بقلم:  ظفر دارك القاسمي (*)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد ابن عبدالله وآله وصحبه ومن والاه. وبعد:

       قال الإمام الشافعي: «فليستْ تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها».

اسمه ونسبه:

       هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد بن يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف، ثالث الأئمة الأربعة، وصاحب المذهب الشافعي المشهور، وهو إمامٌ في الفقه والتفسير والحديث. وقد عمل قاضيا، فعُرف بالعدل والذكاء. وإضافةً إلى العلوم الدينية؛ فقد كان الشافعي فصيحا شاعرا، وراميا ماهرا، ورحّالا مسافرا.

       ولد الشافعي في غزة عام مئة وخمسين للهجرة، وتوفي أبوه وهو صغير، فانتقلت به أمه إلى مكة وعمره سنتان، ثم حفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، وحفظ موطّأ الإمام مالك وهو ابن عشر سنين، ثم أخذ يطلب العلم في مكة حتى أُذن له بالفُتيا وعمره أقل من عشرين سنة. وقد لازم الإمام مالك بن أنس ثلاث عشرة سنة يتلقى عنه العلم. ثم سافر إلى اليمن، وإلى بغداد يطلب العلم على الإمام محمد بن الحسن الشيباني الحنفي، ثم عاد إلى مكة مُدرّسا مُعلّما جامعا بين الفقه المالكي والفقه الحنفي، ثم عاد إلى بغداد وبدأ بتأصيل قواعد مذهبه القائم على الفهم السليم لمقاصد الشريعة، وعكف على التأليف والتدوين والكتابة، ثم قدم مصر وتوفي فيها عام مئتين وأربعة.

       للإمام الشافعي مذهبان: المذهب القديم والمذهب الجديد، فما المقصود بذلك؟

       • القول القديم: وهو ما قاله أو نص عليه الإمام الشافعي قبل انتقاله إلى مصر كتابة أو إملاء أوافتاء، سواء رجع عنه أم لم يرجع، ويطلق عليه المذهب القديم، ويمثل مذهب الشافعي القديم كتابه المسمى بـ«الحجة».

       • القول الجديد: وهو ما قاله الإمام الشافعي أو نص عليه بمصر، كتابة أو إملاء أو إفتاء، ويطلق عليه المذهب الجديد.

مراحل تطور الفقه عند الإمام الشافعي:

المرحلة الأولى: نشأته في مكة المكرمة:

       في هذه الفترة التي نشأت فيها طفولته بدأت تتشكل شخصيته العلمية وتظهر بدايات ملكته الفقهية، ومن أبرز من تلقى عنهم ابن عيينة ومسلم بن خالد وهو الذي أذن له بالإفتاء وهو ابن 15عامًا.

المرحلة الثانية: صحبته للإمام مالك في المدينة المنورة:

       قرأ الإمام الشافعي على الإمام مالك الموطأ وبعيدا عن تحديد التاريخ لرحلته الأولي لمالك فإنه من المتفق عليه عند علماء السير طول صحبته له، والتي امتدت لسنوات وكثر الأخذ عنه وملازمته.

المرحلة الثالثة: رحلته إلى اليمن للعمل فيها:

       بعد وفاة شيخيه الإمام مالك 179هـ، ومسلم بن خالد الزنجي في مكة في نفس العام رأى أن يتجه إلى اليمن، فعمل بها عملا إداريا متواضعا ثم ترقى في عمله حتى عَمِلَ عملا أكبر في مدينة نجران أفاد في الاطلاع على أمور ذات صلة ببعض مسائل الفقه المتعلقة بأحكام أهل الكتاب مثل مقدار الجزية وغيرها.

المرحلة الرابعة: اللقاء بمحمد بن الحسن الشيباني بغداد:

       أخِذَ الشافعي إلى الخليفة في بغداد سنة 184هـ متهما بالسعي للخروج مع العلويين – ليس الشيعة الغلاة – على الخلافة العباسية وقد نجا من العقوبة ثم استوطن بغداد بعد عفو الخليفة عنه. ولم يرجع إلى اليمن واستهوته مجالس العلم في عاصمة الخلافة، ومن أبرز العلماء الذين أخذ منهم «محمد بن الحسن ووكيع بن الجراح وغيرهما».

المرحلة الخامسة: في مكة وظهور مذهبه:

       بعد وفاة شيخه محمد الشيباني غادر الشافعي إلى مكة، واتخذ حلقة للتدريس بفناء زمزم قبالة ميزاب الكعبة يعلم الفقه ويفتي الناس. وفي هذه الحلقة بدأ يظهر فقه الشافعي مستقلا عن غيره وخاصة شيخه مالك وأصحاب أبي حنيفة. وكان من أبرز من اتصل بالشافعي في إقامته بمكة أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.

المرحلة السادسة: رحلته الثانية إلى بغداد وعرضه لمذهبه فيها:

       غادر الشافعي مكة عام 195هـ بعد أن أمضى فيها ست سنوات قضاها في تعليم الفقه. وصار ببغداد أهل الرأي وأهل الحديث معا. ويبدو أن هدفه من هذه الرحلة هو البدء بتدوين مذهبه أصولا وفروعا وعرضه على الأمة بعد أن استقلّ به. وكان من أبرز تلاميذه في هذه المرحلة: أبو ثور الكلبي وأبو علي الكرابيسي والحسن الزعفراني.

       دوّن الإمام الشافعي في هذه المرحلة كتابه الفقهي وسمّاه «الحجة» وهو الذي مثل مذهبه القديم ودون كذلك كتابه «الرسالة» بصورة موجزة وسمي بـ«الرسالة القديمة» وقد أضاف إليه الكثير في مصر فسمي بـ«الرسالة الجديدة».

المرحلة السابعة: تنقله بين مكة وبغداد:

       غادر بغداد إلى مكة وأقام فيها قليلا حوالي عام ثم عاد إلى بغداد حيث أقام أشهرا. ولعل سبب قصر إقامته في بغداد ما حصل من فتن في خلافة المأمون مما حمله على الابتعاد إلى مصر -التي كانت تنعم باستقرار سياسي- متفرغا لنشر وتدوين مذهبه الجديد.

المرحلة الأخيرة: في مصر ووفاته فيها:

       رحل الشافعي إلى مصر سنة 199هـ واستوطنها ناشرا ومدونا فيها مذهبه الجديد خلال السنوات الأربع التي قضاها فيها.

       ومما يميز تلك المرحلة هي إنتاجه الضخم العلمي والتي تمثلت في نقل فقهه وأصوله إلى عدد كبير من التلاميذ، والأمر الثاني: هو تدوين مذهبه الجديد في كتابي «الأم» و «الرسالة الجديدة».

       ومن أبرز تلاميذ الشافعي في هذه الفترة: أبو يعقوب البويطي وأبو إبراهيم المزني والربيع بن سليمان وغيرهم.

الشافعي الإمام الفقيه:

       لم يتجه الشافعي إلى تكوين مذهب مستقل، أو آراء فقهية مستقلة عن آراء مالك، إلا بعد أن غادر بغداد في رحلته الأولى إليها سنة 184هـ؛ فإنه قبل ذلك كان يعدّ من أصحاب مالك، يدافع عن آرائه، ويناهض أهل الرأي دفاعا عن فقه أهل المدينة، حتى سمي ناصر الحديث، وقد بلغ في ذلك غايته، وأنطق المحدثين بحجتهم.

       إن الشافعي يمثل فقهه تمام التمثيل الفقه الإسلامي في عصر ازدهاره وكمال نموه، فهو يجمع بين فقه أهل الرأي وفقه أهل الحديث بمقادير متعادلة، وهو الفقيه الذي ضبط الرأي ووضع موازين القياس، وأول من حاول ضبط السنة، ووضع موازين لها ومقاييس، ووضع الطرق لفهم الكتاب والسنة، وبيان الناسخ والمنسوخ، وبهذه المحاولات، وسائر ما وضعه من أصول الفقه قد وضع المبادئ الثابتة لصناعة الاستنباط، وأصول التخريج، فالدارس له، ولطريقة استنباطه، يدرس الفقه الإسلامي، وقد تكامل نموه، ووضحت معالمه، واستقامت مناهجه.

انتصار الشافعي لأهل الحديث:

       يقول الإمام الرازي – رحمه الله-: الناس كانوا قبل زمان الشافعي فريقين: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي. أما أصحاب الحديث فكانوا حافظين لأخبار رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل، وكلما أورد عليهم أحد أصحاب الرأي سؤالا أو إشكالا سقطوا في أيديهم عاجزين متحيرين، وأما أصحاب الرأي فكانوا أصحاب النظر والجدل، إلا أنهم كانوا عاجزين عن الآثار والسنن، وأما الشافعي -رضي الله عنه- فكان عارفا بسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- محيطا بقوانينها، وكان عارفا بآداب النظر والجدل قويا فيه، وكان فصيح الكلام، قادرا على قهر الخصوم بالحجة الظاهرة، وآخذا في نصرة أحاديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وكل من أورد عليه سؤالا أو إشكالا أجاب عنه بأجوبة شافية كافية، فانقطع بسببه استيلاء أهل الرأي على أصحاب الحديث.

       يقول الشافعي – رحمه الله-: والعلم من وجهين اتباع، أو استنباط. والاتباع اتباع كتاب، فإن لم يكن فسنة، فإن لم تكن فقول عامة من سلفنا لا نعلم له مخالفا، فإن لم يكن فقياس على كتاب الله – عز وجل-، فإن لم يكن فقياس على سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإن لم يكن فقياس على قول عامة من سلف لا مخالف له. ولا يجوز القول إلا بالقياس. وإذا قاس من له القياس فاختلفوا. وسع كلا أن يقول بمبلغ اجتهاده ولم يسعه اتباع غيره فيما أدى إليه اجتهاده بخلافه، والله أعلم.

أدلة الأحكام عند الإمام الشافعي:

       يقول الإمام الشافعي- رحمه الله- في كتابه «الأم»: والعلم طبقات شتى:

       الأولى: الكتاب و السنة إذا ثبتت.

       ويضع السنة مع الكتاب في مرتبة واحدة؛ لأنها في كثير من الأحوال مبينة له مفصلة لمجمله.

       الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة.

        والمراد بالإجماع إجماع الفقهاء الذين أوتوا علم الخاصة.

       الثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم- و لا نعلم له مخالفا منهم. فرأي الصحابة خير من رأينا لأنفسنا.

       الرابعة: اختلاف أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في المسألة، فيأخذ من قول بعضهم مايراه أقرب إلى الكتاب والسنة، أو يرجّحه قياس، ولا يتجاوز أقوالهم إلى غيرها.

       الخامسة: القياس على بعض الطبقات، ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى.

       قال الكرابيسي: «ما كنا ندري ما الكتاب والسنة نحن والأولون حتى سمعنا من الشافعي».

الأصول التي أنكرها الإمام الشافعي:

       • الاستحسان:

       أنكر الشافعي (الاستحسان)، وهاجم القائلين به هجوما عنيفا، و يعني بالاستحسان الاستحسانَ المطلق أي مجرد الرأي من غير أن يكون مستندا إلى أصل شرعي، فقد قال الشافعي – رحمه الله-: من استحسن فقد شرع.

       والحقيقة أن ما أنكره الشافعي ليس هو الاستحسان الذي توسع فيه الأحناف وأخذ به المالكية، وإنما يرجع إلى الأخذ بأقوى الدليلين أو ترجيح بعض الأدلة على بعض، وهو بهذا المعنى يدخل في الأدلة التي يأخذ بها الشافعي.

       • الاحتجاج بعمل أهل المدينة:

       أنكر الشافعي الاحتجاج بعمل أهل المدينة، حيث قال في الرسالة: «ولست أقول ولا أحد من أهل العلم: هذا مجتمع عليه إلا لما تلقى عالماً أبداً إلا قاله لك وحكاه عمن قبله، كالظهر أربع، وكتحريم الخمر وما أشبه ذلك. وقال: وقد أجده يقول: المجمع عليه، وأجد من المدينة من أهل العلم كثيراً يقولون بخلافه، وأجد عامة أهل البلدان على خلاف ما يقول: المجتمع عليه».

       • المصالح المرسلة:

       ورد الإمام الشافعي – رحمه الله – المصالح المرسلة، واستغنى عنها بما سماه «المناسبة»، أي أن يكون هناك مشابهة بين ما يسمى بالمصلحة المرسلة والمصلحة المعتبرة بإجماع أو نص، ومن ثم يكون لديه وجه من وجوه القياس فلا تكون أصلا قائما بذاته.

       • أقوال الصحابة:

       ولا يحتج الإمام الشافعي – رحمه الله- بأقوال الصحابة، لأنها تحتمل أن تكون عن اجتهاد يقبل الخطأ. والشافعي بمنهجه الأصولي كان وسطا بين الحنفية والمالكية، فهو يتسع في الاستدلال بالحديث أكثر مما فعل أبوحنيفة ومالك، كما أنه حد من الرأي والقياس وضيق دائرة الأخذ بهما، ومن ثم عدل بعض أهل الرأي عن مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي – رحمهما الله-، كذلك كان أهل الحديث أميل إلى هذا الإمام، ولا غرو إن كان من أنصاره الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهما من كبار المحدثين.

       • شرع من قبلنا:

       فقد ذهب بعض العلماء إلى أننا متعبدون بما صح من شرائع من قبلنا، بطريق الوحي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – بما في شرعهم، لا بطريق كتبهم المبدلة. ولكن رد الشافعية هذا القول؛ لأن الإسلام قد نسخ كل الشرائع التي قبله، فلم يبق فيها حجة.

المسائل التي يفتي بها على القديم:

       فائدة: المسائل التي يفتي بها على القول القديم تبلغ اثنتين وعشرين مسألة، منها عدم وجوب التباعد عن النجاسة في الماء الراكد والتثويب في الأذان وعدم انتقاض الوضوء بمس المحارم وطهارة الماء الجاري الكثير ما لم يتغير، وعدم الاكتفاء بالحجر إذا انتشر البول، وتعجيل صلاة العشاء، وعدم مضي وقت المغرب بمضي خمس ركعات، وعدم قراءة السورة في الأخيرتين، والمنفرد إذا أحرم بالصلاة ثم أنشأ القدوة، وكراهية قلم أظفار الميت، وعدم اعتبار النصاب في الركاز، وشرط التحلل في الحج بعذر المرض، وتحريم أكل جلد الميتة بعد الدباغ، ولزوم الحد بوطء المحرم بملك اليمين، وقبول شهادة فرعين على كل من الأصلين، وغرامة شهود المال إذا رجعوا، وتساقط البينتين عند التعارض، وإذا كانت إحدى البينتين شاهدين وعـارضها شاهـد ويمين يرجح الشاهدان على القديم وعدم تحليف الداخل مع بينته إذا عارضها بينة الخارج، وإذا تعارضت البينتان وأرخت إحداهما قدمت على القديم وهو الصحيح عند القاضي حسين، وإذا علقت الأمة من وطء شبهة ثم ملكها الواطئ صارت أم ولد على أحد القولين في القديم واختلف في الصحيح، وتزويج أم الولد فيه قولان واختلف في الصحيح والله أعلم.

       وقد صح عن الإمام الشافعي – رحمه الله- أنه قال: (إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عرض الحائط).

الأطوار التي مرّ بها المذهب الشافعي:

       الطور الأول: التأسيس ونشأة المذهب في حياة الإمام الشافعي 195هـ -270هـ.

       وهذا الطور شهد ظهور المذهب القديم للشافعي – رحمه الله – من سنة 195 حتى 199هـ، وخلالها ظهرت شخصيته العلمية الاجتهادية المستقلة، عن طريق الفتاوي المستقلة في حلقته بالمسجد الحرام وعن طريق كتابي «الحجة» في الفقه و«الرسالة» القديمة في أصول الفقه.

       ثم ظهر المذهب الجديد للشافعي – رحمه الله – من 199 حتى وفاته 204هـ ففي هذه السنوات غيّر كثيرًا من اجتهاداته وأعاد تصنيف كتبه مثل «الأم» في الفقه و«الرسالة» في أصوله.

       ثم توفي الإمام الشافعي – رحمه الله- سنة 204هـ مخلفا وراءه ميراثاً فقهياً ضخماً ورثه عنه عدد من التلاميذ المصريين المخلصين النجباء، الذين أخذوا عنه العلم، ورووا مصنفاته، وساروا على طريقته، منهم: حرملة التجيبي راوي كتاب «السنن» (ت243هـ)، ويونس بن عبد الأعلى (ت264هـ)، وابن نصر الخولاني (ت267هـ)، والربيع بن سليمان (ت275هـ).

       وتجدر الإشارة إلى أن تلاميذ الشافعي لم يكن لهم مصنفات في هذه المرحلة في أصول الفقه؛ إذ بقي اعتمادهم على كتب الشافعي.

       الطور الثاني: ظهور المذهب واستقراره 270هـ – 505هـ:

       أولا: إنتشار المذهب: 270- 404هـ:

       لقد انتشر تلاميذ أصحاب الشافعي في الشرق الإسلامي، يدرسون الفقه ويفتون الناس وربما يجتهدون، ويتدارسون مصنفات الشافعي المصرية ومصنفات تلاميذه المصريين وفي مقدمتها مختصر المزني.

ومن أبرز العلماء الذين قاموا بنقل المذهب ونشره: أبوالقاسم الأنماطي، وأبو العباس ابن سريج البغدادي، وأبو زرعة الدمشقي، والحافظ أبو عوانة، وأبو العباس الأصم، وأبو بكر القفال الكبير وغيرهم.

       وتفقه عدد من كبار المحدثين في هذه الفترة على المذهب الشافعي منهم: الحافظ أبو بكر ابن خزيمة وابن أبي حاتم الرازي والحافظ أبو الحسن الدارقطني وغيرهم.

       وقد بلغ عدد من علماء الشافعية درجةَ الاجتهاد المطلق من أبرزهم: الإمام أبو بكر ابن المنذر النيسابوري والإمام أبو جعفر الطبري.

       ثانيا: استقرار المذهب وثباته 404- 505هـ:

       أبرز العوامل التي أدّت إلى استقرار المذهب وثباته وفرة عدد العلماء المتبحرين الذين حملوا المذهب وأجادوا خدمته وأكثروا من التصنيف.

       وقد ظهرت في تلك الفترة طريقتان في التصنيف في فقه الشافعية: طريقة العراقيين وطريقة الخراسانيين، وقد وصف الإمام النووي الفارق بينهما في مقدمة المجموع: اعلم أن نقل أصحابنا العراقيين لنصوص الشافعي وقواعد مذهبه ووجوه متقدمي أصحابنا أتقن وأثبت من نقل الخراسانيين غالبا، والخراسانيون أحسن تصرفا وبحثا وتفريعا وترتيبا. وأول من جمع بين الطريقتين : أبو علي الحسين بن شعيب بن محمد السنجي. وأعظم عمل في هذا الصدد هو عمل الجويني في «نهاية المطلب في دراية المذهب». ثم من بعده الغزالي وختم هذا الجهد بالرافعي والنووي.

طبقات المذهب الشافعي:

       في المذهب طبقتان : 1- طبقات الخراسانيين 2 -طبقات العراقيين.

طبقات الخراسانيين:

       إذا ألقينا الضوء على خراسان نجد أن مدائن خراسان كانت أربعًا: نيسابور، وهراة، وبلخ، ومرو، ومرو أعظمها ولهذا يعبر أصحابنا بالخراسانيين تارة، وبالمراوزة أخرى. وهم طبقات:

       الطبقة الأولى: منهم إسحاق بن راهويه الحنظلي، ومنهم حامد بن يحيى بن هانئ البلخي، وقد أخذ عن الشافعي، وأكثر عن سفيان بن عيينة، ومات 202 هـ  في حياة الشافعي، ومنهم أبو سعيد الأصفهاني الحسن بن محمد بن يزيد، وهو أول من حمل علم الشافعي إلى أصفهان، ومنهم أبو الحسين النيسابوري علي بن سلمة ابن شقيق، ومات 252 هـ.

       الطبقة الثانية: طبقة تلامذتهم، وعلى رأسهم: أبوبكر بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح، ومنهم أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي، الذي ولد ببغداد سنة 202 هـ، ونشأ بنيسابور، وتفقه بمصر على أصحاب الشافعي، وسكن بسمرقند إلى أن توفي سنة 294 هـ، ومنهم أبو محمد المروزي عبدان بن محمد بن عيسى، تفقه على المزني، ومنهم أبو عاصم فضيل بن محمد الفضيلي الكبير الفقيه، فقيه هراة ومفتيها، ومنهم أبو الحسن الصابوني، ومنهم أبو سعيد الدارمي، ومنهم أبو عمرو الخفاف رئيس نيسابور، ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم العبدي البوُشنجي.

       الطبقة الثالثة: هي طبقة تلامذة هؤلاء، وعلى رأسهم: أبو علي الثقفي، وأبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب الصبغي، وأبو بكر المحمودي المروزي، وأبو الفضل يعقوب بن إسحاق بن محمود الهروي.

       الطبقة الرابعة: هي تلامذة الطبقة الثالثة، ومنهم أبو إسحاق المروزي تلميذ ابن سريج، والذي تلتقي عنده سلسلة الطريقتين كما ذكرنا عن النووي سابقًا، ومنهم أيضا أبو الوليد حسان بن محمد القرشي النيسابوري، ومنهم أبو الحسين النسوي، ومنهم أبوبكر البيهقي، ومنهم أبو منصور عبد الله بن مهران، وهو من أكابر أصحاب الوجوه.

       الطبقة الخامسة: وعلى رأسهم: أبو زيد المروزي، وأبو سهل الصعلوكي، وأبو العباس الهروي، و أبو حفص الهروي وغيرهم.

       الطبقة السادسة: من تلامذتهم، وعلى رأسهم: وأبو بكر القفال المروزي شيخ الطريقة، وأبو الطيب الصعلوكي، وأبو يعقوب الأبيوردي، وأبو إسحاق الإسفراييني.

       الطبقة السابعة: وعلى رأسهم: القاضي الحسين، وأبو علي السنجي، وأبو بكر الصيدلاني.

       الطبقة الثامنة: وعلى رأسهم: إمام الحرمين والذي ألف كتابه الكبير «نهاية المطلب في دراية المذهب».

       الطبقة التاسعة: وهي من أواخر طبقات هذه السلسلة، فمنهم إلكيا الهراسي، وأبو سعد المتولي، ومحيي السنة البغوي، والروياني، ومنهم أيضًا إمام الحرمين، وحجة الإسلام الغزالي.

طبقات العراقيين:

       الطبقة الأولى: كان منهم: أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي الذي تفقه على الإمام مباشرة، ومنهم أحمد بن حنبل الإمام المشهور، ومنهم أبو جعفر الخلال أحمد بن خالد البغدادي، ومنهم أبو جعفر النهشلي ثم البغدادي، ومنهم أبو عبد الله الصيرفي، ومنهم أبو عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن عبد العزيز البغدادي، ومنهم الحارث بن سريج النقال وهو الذي نقل كتاب الشافعي «الرسالة» إلى عبد الرحمن بن مهدي ومات 236 هـ، ومنهم الحسن بن عبد العزيز المصري نزيل بغداد، ومنهم الكرابيسي الحسين بن علي البغدادي الذي مات في 248 هـ.

       الطبقة الثانية: كان على رأسهم: أبو القاسم الأنماطي، وأبو بكر النيسابوري، وأبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي، والقاضي أبو عبيد علي بن الحسين بن حربويه البغدادي، وأبو إسحاق الحربي، وأبو الحسن المنذري.

       والطبقة الثالثة: كان على رأسهم: ابن سريج وهو شيخ الأصحاب، وسالك سبيل الإنصاف، وصاحب الأصول والفروع، وناقض قوانين المعترضين على الشافعي: أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج القاضي البغدادي شيخ الشافعية في عصره، ومنهم أبو سعيد الأصطخري، ومنهم أبو علي بن الخيران، ومنهم أبوحفص المعروف بابن الوكيل: عمر بن عبد الله البغدادي.

       الطبقة الرابعة: وهم تلامذة الثالثة، على رأسهم أبو إسحاق المروزي، ومنهم أبو علي بن أبي هريرة، وأبو الطيب محمد بن فضل بن مسلمة البغدادي، وأبو بكر الصيرفي البغدادي، وأبو العباس بن القاضي، وأبو جعفر الأستراباذي، وأبو بكر أحمد بن الحسين بن سهل الفارسي صاحب «عيون المسائل في نصوص الشافعي».

       الطور الثالث: تحرير المذهب وتنقيحه: التنقيح الأول 505- 676هـ:

       إن المقصود بتنقيح المذهب تهذيبه من الأقوال المرجوحة والشاذة وبيان المعتمد عند فقهائه في الفتوي. فبرز في أواخر القرن السادس الإمام عبد الكريم الرافعي (ت623هـ)، ليقوم بجهد ضخم في تنقيح المذهب، مهد به الطريق لجهود الإمام أبي زكريا النووي، لتشكل جهودهما بعد ذلك وحدةً واحدةً تمثل التنقيح الأول والأهم لفقه الشافعية في تاريخ تطور المذهب الممتد لأكثر من ألف ومئتي عام.

       فقد قال النووي في مقدمة كتابه «روضة الطالبين»: وكانت مصنفات أصحابنا – رحمهم الله – في نهاية من الكثرة فصارت منتشرات، مع ما هي عليه من الاختلاف في الاختيارات، فصار لا يحقق المذهب من أجل ذلك إلا أفراد من الموفقين الغواصين المطلعين أصحاب الهمم العاليات، فوفق الله سبحانه وتعالى – وله الحمد – من متأخري أصحابنا من جمع هذه الطرق المختلفات، ونقح المذهب أحسن تنقيح، وجمع منتشره بعبارات وجيزات، وحوى جميع ما وقع له من الكتب المشهورات، وهو الإمام الجليل المبرز المتضلع من علم المذهب أبو القاسم الرافعي ذو التحقيقات، فأتى في كتابه «شرح الوجيز» بما لا كبير مزيد عليه من الاستيعاب مع الإيجاز والإتقان وإيضاح العبارات.

جهود الإمام الرافعي في خدمة المذهب الشافعي:

       صنف الرافعي العديد من المصنفات النافعة التي خدم بها المذهب، من أبرزها:

       كتاب المحرر، وهو مأخوذ من كتاب الوجيز للإمام الغزالي، ويعتبر كتاب المحرر من الكتب المعتمدة في تحقيق قول المذهب في سائر أبواب الفقه، وما زال مخطوطا حتى الأن.

       كتاب العزيز شرح الوجيز ويسمي بـ«الشرح الكبير» وهو موسوعة فقهية ضخمة تجلت فيها قدارت الرافعي في خدمة المذهب وتحقيقه والانتصار له وهو مطبوع.

       كتاب الشرح الصغير وهو أيضا شرح لكتاب الوجيز للغزالي؛ لكنه دون الشرح الكبير.

جهود الإمام النووي في خدمة المذهب الشافعي:

       كان الإمام النووي من أبرز فقهاء الشافعية في زمانه بلا منازع، إذ كان – رحمه الله – واسع الاطلاع على كتب المذهب المتدوالة في عصره، دقيق النظر فيها، ومن أبرز مصنفاته:

       كتاب «روضة الطالبين»، و«عمدة المفتين» وهو اختصار لكتاب العزيز شرح الوجيز.

       كتاب «منهاج الطالبين» وهو اختصار لكتاب المحرر.

       كتاب «المجموع شرح المهذب» «لأبي إسحاق الشيرازي» وهو موسوعة في الفقه المقارن.

       وهكذا كان جهد النووي – رحمه الله – امتدادًا لسلفه الرافعي ومكملا له، فأصبحت مصنفاتهما الفقهية وحدةً واحدةً. وقد حصل الاتفاق بين الأئمة الأعلام من الشافعية على أن المعتمد ما اتفق عليه الشيخان: النووي والرافعي، فإن اختلفا؛ فالمعتمد ما قاله النووي – رحمه الله تعالى-، فإن وُجد للرافعي ترجيح دون النووي؛ فهو المعتمد، ومحل هذا ما لم يجمع المتأخرون على أن ما قالاه سهو، وإلا؛ فالمعتمد حينئذٍ ما قاله المتأخرون، فإن لم يتعرض الشيخان لذلك الحكم فالكتب المتقدمة على الشيخين لا يعتمد على شيء منها إلا بعد الفحص والتحري حتى يغلب على الظن أنه المذهب.

       وفي «فتح المعين»: «المعتمد في المذهب للحكم والفتوى ما اتفق عليه الشيخان، فما جزم به النووي فالرافعي، فما رجحه الأكثر فالأعلم والأورع».

       ويقول ابن حجر الهيثمي – رحمه الله-: إن الكتب المتقدمة على الشيخين يعني الرافعي والنووي؛ فلا يعتمد شيء منها إلا بعد مزيد الفحص والتحري، حتى يغلب على الظن أنه المذهب، ولا يغتر بتتابع كتب متعددة على حكم واحد، فإن هذه الكثرة قد تنتهي إلى واحد، ألا ترى أن أصحاب القفال أو الشيخ أبي حامد مع كثرتهم لا يفرعون ويؤصلون إلا على طريقته غالبًا وإن خالفت سائر الأصحاب، فتعين سبر كتبهم. وهذا كله في حكمٍ لم يتعرض له الشيخان أو أحدهما، وإلا؛ فالذي أطبق عليه محققو المتأخرين ولم تزل مشايخنا يُوصُون به وينقلونه عن مشايخهم وهم عمَّن قبلهم، وهكذا فالمعتمد ما اتفقا عليه، أي ما لم يجمع متعقبو كلامهما على أنه سهو، فإن اختلفا فالمصنف، فإن وُجد للرافعي ترجيح دونه فهو.

       ويقول النووي – رحمه الله – في المجموع: لا يجوز لمفتٍ على مذهب الشافعي إذا اعتمد النقل أن يكتفي بمصنف ومصنفين ونحوهما من كتب المتقدمين وأكثر المتأخرين؛ لكثرة الاختلاف بينهم في الجزم والترجيح؛ لأن هذا المفتي المذكور إنما ينقل مذهب الشافعي، ولا يحصل له وثوق بأن ما في المصنفين المذكورين ونحوهما هو مذهب الشافعي أو الراجح منه؛ لما فيهما من الاختلاف، وهذا مما لا يتشكك فيه مَن له أدنى أنس بالمذهب، بل قد يجزم نحو عشرة من المصنفين بشيء وهو شاذ بالنسبة إلى الراجح في المذهب ومخالف لما عليه الجمهور، وربما خالف نص الشافعي أو نصوصًا له.

***


(*)  الباحث في قسم الديانة السنية بالجامعة الإسلامية علي كره، الهند.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1436 هـ = يونيو – أغسطس 2015م ، العدد : 9-10 ، السنة : 39

Related Posts