دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ محمد ساجد القاسمي(*)
من سنن الله تعالى في حياة الأمم والجماعات أنَّ التنازع والاختلاف يؤدِّي إلى الفشل وذهاب القوَّة، والضعف والهزيمة، بل و إلى الهلاك والفناء. وهذه السنة مطَّردة وشاملة لا تتخلف عنها ثمارُها المرَّة وإفرازاتُها القبيحة.
تدل على هذه السنة الآياتُ التي جاء فيها ذكر التنازع والفشل مقترنَين، وهي ثلاث آيات:
الآية الأولى: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْر﴾ (آل عمران:152) في وقعة أُحد.
والآية الثانية: ﴿وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ (الأنفال:43) وذلك في غزوة بدر.
والآية الثالثة: ﴿وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال:46).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا، وفي رواية فأهلكوا(1).
لقد نهى الله تعالى في هذه الآيات المؤمنين عن التنازع والاختلاف؛ لأنَّه يُسبِّب الفشل، ويؤدِّي إلى الضعف، ويُذهب القوة، ويقضي على الألفة والأخوَّة، ويُثير التباغض والشحناء، ويُطمع العدوّ ويجرِّئه.
وأمرهم بالائتلاف، وتوحيد الكلمة، وجمع الشمل، والاعتصام بحبل الله، حيث قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا﴾ لأنَّ الفرقة هلكة والجماعة نجاة.
والتنازع عاقبته الفشل والخسران، وذهاب القوة، سواء كان في ميدان القتال ومقاومة العدو، أو في الجمعيات أو في الهيئات والمنظمات أو في الشركات. كذلك الفشل الذي يتمخَّض عن التنازع يعمُّ المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كلَّها.
وذلك لأنَّ الله عزَّ وجلّ ربط في الآيات المذكورة الفشل بالتنازع ربطَ المسبَّب بالسب، والمعلول بالعلَّة، والنتائج بمقدماتها، فكلَّما وُجد التنازع وُجد الفشل والتراجع، وكلما حصل الاختلاف والتفرق حصل الهلاك والفناء، وتلك سنَّة مطَّردة وقانون عام تقرَّر في ضوء الآيات المذكورة.
اختلاف المذاهب الفقهيّة ليس من الاختلاف المذموم:
وهنا يجدر بالذكر أنَّ اختلاف الأئمة الأربعة في المسائل الفرعية والقضايا الاجتهادية ليس من قبيل الاختلاف المذموم المهلك للأمة.
قال القرطبي في تفسير آية ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا﴾: «ليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع؛ فإنَّ ذلك ليس اختلافًا؛ إذ الاختلاف ما يتعذَّر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع؛ وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اختلاف أمتي رحمة» وإنما منع الله اختلافًا هو سبب الفساد»(2).
بل استحسن العلماء في القرون الأولى اختلاف الصحابة في الأحكام؛ لأنَّه يفتح للأمة باب التوسعة والتيسير للعمل بالسنة، فقد قال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: «ما أحبُّ أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، فإنَّه لو اجتمعوا على شيء، فتركه رجل، ترك السنةَ، ولو اختلفوا فأخذ رجل بقول أحد، أخذ بالسنة»(3).
وقال السيوطي: «.. إن اختلاف المذاهب في هذه الملة نعمة كبيرة وفضيلة عظيمة وله سر لطيف أدركه العالمون وعمي عنه الجاهلون… وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة رضي الله عنهم خير الأمة فما خاصم أحد منهم أحدًا، ولا عادى أحد أحدًا، ولا نسب أحد أحدًا إلى خطأ ولا قصور..، وورد أن اختلاف هذه الأمة رحمة من الله لها، وكان اختلاف الأمم السابقة عذابًا وهلاكا… فعُرف بذلك أنَّ اختلاف المذاهب في هذه الملة خصيصة فاضلة لهذه الأمة، وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة»(4).
هذا الاختلاف إنما هو سعة وتيسير ورحمة بعبارة أصح وأدقَّ؛ لذلك كان بعض السلف قد ألغوا كلمة الاختلاف من قاموسهم، فلا يُسمُّون ذلك اختلافًا، بل سعة، فهذا طلحة بن مصرِّف – أحد التابعين- «إذا ذكرعنده الاختلاف قال: لا تقولوا: الاختلاف، ولكن قولوا: السعة»(5).
وقد ظهرت اتجاهات وآراء من بعض الخلفاء العباسيين لتوحيد المذهب الفقهي، وحمل الناس عليه في جميع الأقطار، فلقيت آراءهم واتجاههم إنكارًا وردًّا. قال الرشيد للإمام مالك: «يا أبا عبد الله نكتب هذه الكتب [ الموطا] ونفرِّقها في آفاق الإسلام لنحمل عليها الأمة! قال مالك: يا أمير المؤمنين إن اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمة، كل يتَّبع ما صحَّ عنده، وكلٌّ على هدى، وكلٌ يريد الله»(6).
على هذا فلا ينبغي لأتباع المذاهب الأربعة أن يتنازعوا فيما بينهم ويتخاصموا مدعين أنهم هم على الحق، وغيرهم من أتباع المذاهب الأخرى على الباطل. وهذا هو التنازع والتخاصم الذي نهي عنه في الشرع. بل كل على الحق والصواب مع احتمال الخطأ.
أمثلة وشواهد لسنة التنازع:
ولهذه السنة وآثارها السيئة أمثلة وشواهد ومشاهد كثيرة لاتُحصى في تاريخ الأمم والشعوب بما فيها الأمة الإسلامية، وحكوماتها وحركاتها، ومنظَّماتها وهيئاتها، وجمعيَّاتها وشركاتها. فقد لحقت بهاخسائر كبيرة بسب التنازع والاختلاف. فأوَّل مثال للتنازع ظهر في الأمة الإسلامية في معر كة أحد، حيث تنازع الرماة، وخالفوا الأمير، ففشلوا وذهبت ريحهم ولحقتهم خسائر جسيمة. قال مجاهد: «ذهبت ريح أصحاب محمد ﷺ حين نازعوه يوم أحد»(7).
وقد حدث التنازع بين ملوك الطوائف في الأندلس مما أدَّى إلى سقوطها في أيدى النصارى، والقضاء على وجود المسلمين فيها رغم حكمهم قرونًا طويلة.
وفي التاريخ الحديث للأمة الإسلامية مشاهد ومناظر كثيرة كذلك، فقد طارد المجاهدون الأفغان الأخطبوط الروسي من أرض أفغانستان بعد جهاد طويل وتضحيَّات كبيرة، ثم اختلفوا على الحكم، فتقاتلوا وسفكوا الدماء، وأشمتوا بأنفسهم الأعداء. هنالك قامت حركة طالبان الإسلامية وأنقذت البلاد من الدمار، وقضت على عناصر النزاع، وتسلمت زمام الحكم.
لقد أقضَّ انتصارُها المدهش وحكمُها القائم على الأسس الإسلامية مضاجعَ أعداء الإسلام والمسلمين، فنسجوا ضدَّها مؤامرات بَشِعة، حتَّى قضوا على الحكم الإسلامي فيها.
كذلك حصل التنازع في الصومال بين الزعماء والقادة الذين أخرجوا الأمريكان من بلادهم وحرروها من أيديهم، ممَّا أدى إلى دمار البلاد وفسادها.
وما تشهده الأقطار الإسلامية من مصر وسورية واليمن وتونس وليبيا من انقلابات وثورات بالاسم الجميل البراق: الربيع العربي هو نتائج سيئة للتنازع والاختلاف بأنواعه الضارب بجذوره في تلك البلاد، فاستغلَّه الأعداء، وجعله مِسعر حرب داخلية لاتنتهي، ووسلية دمار شامل لاينقطع.
لقد كان الثوار والانقلابيون يحسبون أنَّهم بانقلابهم وثورتهم يحرِّرون بلادهم من أيدي الطغاة الجبابرة الذين يتربَّعون على كرسي الحكم، وسيكون لبلادهم وأمتهم وضع أفضل دينيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا. لكنهم أخطأوا الهدف وما نالوا الغرض؛ لأنَّهم لم يُدركوا أنَّ أعداءهم الذين كانوا وراء المسرح والذين أشعلوا نيران الثورة لايريدون أن يتغير وضع هذه البلاد من سوء إلى أحسن، بل إلى أسوء وأبشع.وقد نجحوا فيما أرادوا كلَّ النجاح.
كذلك نرى التنازع والاختلاف في رؤساء وقادة حركات الأمة الإسلامية ومنظَّماتها، وهيئاتها وجمعيَّاتها، فتفقد حيويَّتها وفعاليَّتها، وينتهي دورُها، ويُطوى بساطُها.
موانع التنازع والاختلاف:
إنَّ التنازع والاختلاف ممكن وقوعه بين الناس، ولو لم يكن ممكن الوقوع لما قال تعالى: «ولاتنازعوا» لأنَّ الله لايكلِّف المستحيل، ولما أخبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بوقوعه، فقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة»(8).
وقد وقع التنازع والاختلاف وسيقع بين المسلمين.
وإذا وقع التنازع والاختلاف، فيمكن الوقاية منه بالرجوع إلى تعاليم الكتاب والسنة التي وردت في هذا الشأن، وإلى الأحكام المستنبطة منهما.
قال الله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال:46)
أمر الله عزَّ وجلَّ بطاعته وطاعة رسوله قبل النهي عن التنازع وبيان عاقبته الوخيمة؛ لأنَّه بطاعتهما يتلاشى التنازع والاختلاف في أفراد الأمة، وتعود إليهم الوحدة والائتلاف.
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ (النساء:59)
أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله، والردِّ إلى الله ورسوله عند وقوع التنازع في شيء بين المؤمنين. وهذا هو السبيل الوحيد الناجع للوقاية من النزاع ومايترتب عليه من المغبَّات السيئة.
وقد وردت أحاديث كثيرة في الحفاظ على الوحدة والائتلاف، وتجنب التنازع والاختلاف في جميع مجالات الحياة. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى من أميره شيئًا يكرهه، فليصبر عليه؛ فإن من فارق الجماعة شبرًا فمات مات ميتة الجاهلية(9). جاء في شرحه: الحديث حجة على ترك الخروج على السلطان ولوجار(10).
وعن عبادة الصامت: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال: فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان(11). وأخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك السمع والطاعة في عسرك و يُسرك و منشطك ومكرهك وأثرة عليك»(12).
قال النووي في شرحه لهذا الحديث: قال العلماء، معناه: تجب طاعة ولاة الأمور فيما يشق وتكرهه النفوس وغيره مما ليس بمعصية، فإن كانت لمعصية فلا سمع وطاعة. والأثرة هي الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا، اسمعوا وأطيعوا وإن اختصَّ الأمراء بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم.
يُستفاد من الأحاديث الأمور الآتية:
1- أن الخليفة ومن دونه من ولاة الأمور إذا تصرَّف في شؤون الدولة برأيه واجتهاده فيما لم يرد فيه نص من الكتاب أوالسنة، مهما كان رأيُه مخالفًا لرأي غيره من الناس، لا يجوز انتقاده والطعن عليه والخروج عليه وتجميع الناس ضدَّه؛ لأنه اجتهد برأيه فيما يسوغ فيه الاجتهاد، والاجتهاد وإعمال الرأي حقُّه كغيره من أصحاب الرأي والاجتهاد، ولا لومَ على من استعمل حقه.
2- وإن كان تصرُّفه يقع في دائرة الظلم مثل غمط الناس حقوقَهم، أوسلبها منهم، أو تقديم من حقه التاخير، وتاخير من حقه التقديم. فهنالك يجب الإنكار عليه بشكل متكرر، ورفع الشكوى ضدَّه إلى المحكمة حتى يُقلع عن الظلم، ولا يجوز التمرُّد والخروج عليه بحمل السلاح عليه إيثارًا للمصلحة العامة: (وحدة الأمة وائتلافها) على المصلحة الخاصة: (الحق الذي حرم منه).
3- وإن كان تصرفه يقع في دائرة الكفر البواح فعلى الأمة الإسلامة بأفرادها وجماعاتها المسلمة أن يعملوا على قلع هذا الحاكم، كما جاء في الحديث النبوي الشريف عن عبادة الصامت: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال: «فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهلَه إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان» أي لا ننازع من بيده الملك والأمارة إلا إن يرى المسلمون من هذا السلطان كفرًا صريحًا واضحَا بينًّا عندهم به نص من آية أو خبر صحيح لايقبل التأويل، ففي هذه الحالة لا تجوز طاعته بل تجب مجاهدته وخلعه إذا توافرت القدرة على ذلك(13).
وتفاديًا بالمسلمين من الاختلاف دعا الإسلام إلى اختيار الأمير لجماعة مهما كانت قليلة العدد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدهم» قال الخطابي: أمرصلى الله عليه وسلم بذلك ليكون أمرهم جميعًا ولا يتفرق بهم الرأي ولايقع بينهم الاختلاف(14).
* * *
الهوامش:
(1) صحيح البخاري بشرح القسطلاني،ج9، 102، 103.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج: 4، ص:159.
(3) أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين، ص:34.
(4) أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين، ص: 29.
(5) أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين، ص: 35.
(6) أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين، ص: 43.
(7) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي تفسير آية ولا تنازعوا، ج: 8، ص:25.
(8) سنن الترمذي، باب ماجاء في افتراق هذه الأمة، رقم: 2564. ج:9، ص:234.
(9) صحيح البخاري بشرح القسطلاني، 13، ص: 5.
(10) صحيح البخاري بشرح القسطلاني، 13، ص: 7.
(11) صحيح البخاري بشرح القسطلاني، 13، ص: 5.
(12) صحيح مسلم بشرح النووي، ج:12،ص:224.
(13) صحيح البخاري بشرح القسطلاني، 13، ص: 7-8.
(14) عون المعبود شرح سنن أبي داود، ج: 7، ص: 267.
* * *
(*) أستاذ قسم الأدب العربي بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم ديوبند (الهند)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1436 هـ = مايو – يونيو 2015م ، العدد : 8 ، السنة : 39