إلى رحمة الله
بقلم: رئيس التحرير
nooralamamini@gmail.com
بلغ كاتبَ السطور نعيُ وفاة المثقف والمفكر المسلم البارز نائب رئيس جامعة المسلمين بـ«عليجراه» سابقًا عن طريق الصحف في صباح الثلاثاء: 7/ربيع الأوّل 1436هـ = 30/ديسمبر2014م، وقد وافته المنية في نحو السادسة إلاّ ربعًا من مساء يوم الاثنين: 6/ربيع الأول 1436هـ = 29/ديسمبر 2014م في مستشفى مجيديه التابع لجامعة «همدرد» بدهلي الجديدة؛ حيث كان يتلقى العلاجَ منذ نحو عشرة أيام، إثر الحمى التي ألمت به. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. وكان لدى وفاته في 94 من عمره بالنسبة إلى الأعوام الميلادية، وفي 98 منه بالنسبة إلى السنوات الهجريّة.
وقد صُلِّي عليه مرتين: مرة فيما بعد صلاة الظهر مباشرة من يوم الثلاثاء: 7/ربيع الأول 1436هـ = 30/ديسمبر 2014م في مسجد «رابعة» في محيط جامعة «همدرد» وأخرى في مقبرة «بانج بيران» بحي «حضرة نظام الدين» حيث وُرِّي جثمانه.
وقد حضر الصلاةَ عليه وتورية جثمانه – إلى جانب عدد وجيه من المنتمين إلى جامعة المسلمين بـ«عليجراه» والجامعة الملية الإسلامية بدهلي وجامعة دهلي بدهلي وجامعة «همدرد» بدهلي وإلى المنتمين إلى المؤسسات الحكومية وغير الحكومية – عدد كبير من كبار الشخصيات الثقافية والأدبية والدينية والاجتماعية والسياسية إلى رجال الصحافة والإعلام. وعلى رأسهم نائب رئيس الجمهورية الهندية معالي سيد حامد الأنصاري، والقاضي كاتجو، وإيس وائي القريشي، وأمير الجماعة الإسلامية بالهند الشيخ جلال الدين العمري، ونائب رئيس الجامعة الملية الإسلامية بدهلي البروفيسور طلعت أحمد، ونائب رئيس جامعة «همدرد» بدهلي غلام نبي قاضي، وعضو البرلمان الهندي سابقًا سيد شهاب الدين، وسفير الجمهورية الهندية سابقًا م.أفضل، والدكتور منظور عالم، والدكتور ظفر الإسلام خان، وسيد شاهد مهدي، والبروفيسور أختر الواسع، وغيرهم.
وخَلَّفَ – رحمه الله – وراءه ابنين وبنتًا وكثيرًا من المحبين الذين أُعْجِبُوا إعجابًا كبيرًا بخدماته الجُلَّىٰ التي قدّمها نحو أمته ووطنه، وبالعنايات المكثفة التي بذلها طوال حياته من أجل تثقيف وتعليم شباب أمته تثقيفًا وتعليمًا عصريًّا، وتأهليه للوظائف والمناصب الرسمية الكبيرة، ومن أجل تحسين حالته الاقتصادية، وبناء ما يتعلق بدنياه إلى جانب الاهتمام بثباته على ثوابت دينه وعقيدته.
وقد كان يُعَدُّ في العصر الحاضر من كبار قادة حركة «سرسيد أحمد خان» (1232-1315هـ = 1817-1898م ولد بـ«دهلي» وتوفي ودفن بـ«عليجراه») مؤسس جامعة «عليجراه» للمسلمين؛ حيث عكف على إنجاز مهمة إثارة الوعي الثقافي لدى الشعب المسلم، و وقف على ذلك حياته، و رصد لذلك وقته وجهده ومُؤَهِّلاته العلمية والإدارية، وكان يبدو مُقَيَّضًا من الله لذلك، فيبذل نفسه فيه عن إخلاص وطواعية ورضا نفس، وكأنه كاد لا يعيش بدونه، فكان له غذاءً روحيًّا وقوتًا نفسيًّا.
وقد أكرمه الله من المواهب بما أعانه على إنجاز ما تَصَدَّىٰ له من الأعمال التي نفعت الأمة والوطن وأبناء دينه بصفة خاصّة؛ فقد كان مُثقَّفًا ثقافة شاملة، وكان إداريًّا موهوبًا، وأديبًا متمكنًا، وشاعرًا بارعًا مقلاًّ مجيدًا، وكاتبًا متقنا ذا أسلوب رائع جذّاب آخذ بالألباب، وصحفيًّا ثاقب النظر يطّلع على الحديث الأحدث مما يهمّ الشعب المسلم والوطن، وخبيرًا تعليميًّا، وعاملاً مؤهلاً نشيطاً في مجال الخدمة الاجتماعيّة، ومفكرًا كبيرًا. وإلى ذلك كان يُسْعِده أنه كان محافظاً على الصلوات، وإنسانًا صالحاً، حلو المنطق، خازنًا للسانه إلاّ عند الحاجة، ذا شخصيّة هادئة رزينة، يصدر في جميع المواقف عن التواضع، وإنكار الذات، وموافقة الفعل للقول، والوعي الإسلامي المطلوب، والهمّ القومي المنشود.
شغل مناصب رسميّة مرموقة عن أهليّة فائقة سَجَّلَتْ له التفوّقَ والامتيازَ في كل ما أنجزه من على منبره، فقد حاز فيه قصب السبق، وظلّ رجلاً مشارًا إليه بالبنان. وقد لفت إليه انتباهَ الشعب بأدائه الناضج في الفترة التي شغل فيها منصب نائب رئيس جامعة المسلمين بـ«عليجراه» والتي امتدّت على 10/يونيو 1980م (24/رجب 1400هـ) و26/مارس 1985م (3/شعبان 1405هـ) ومن قبل كان قد أمضى في مجال الخدمات المدنية على المستوى الإقليمي 6 سنوات وفي مجال الخدمات الإدارية 31 سنة. وفي كل من المجالين ظلّ ذا هويّة ممتازة، واحتلّ مكانة رفيعة فيما بين المثقفين المسلمين خصوصًا، وبين القطاع العريض ذي الوعي القومي من الشعب المسلم عمومًا.
كانت الجامعة عندها تخوض معركة حامية من أجل الحصول على وضع الأقلية Minarity status ، فكانت مسرحًا للاهتمام السياسي لدى الشعب المسلم، ورغم أنها عن طريق محبيها غير القابلين للحصر، خاضت نضالاً متصلاً مكثفًا، لم تنل «وضع الأقلية» أي لم تمنحها الحكومة الهندية مرتبة أنها جامعة لها نوع خاصّ من الهوية الإسلامية ليس لغيرها من الجامعات الكثيرة في البلاد؛ لأنها كان قد أسّسها المصلح الهندي المسلم الكبير «سرسيد أحمد خان» (1232-1315هـ = 1817-1898م) للنهوض بالمسلمين على مستوى التعليم العصري.
وبذل الفقيد «سيد حامد» بصفته نائب رئيس للجامعة جهودًا مضنية حكيمة للحصول على «وضع الأقلية» ولكن الحكومة اكتفت بالموافقة على قانون تعديل في يناير 1981م/ ربيع الأول 1401هـ. وكان – رحمه الله – سعى من خلال وضع مشروع للقانون أن يعود دور الشعب المسلم والجامعة فعالاً فيما يتعلق بالجامعة و بالشباب معًا، كما منح هذا القانون طلابَ الجامعة حقَّ التمثيل في الهيئة الإدارية التشاوريّة للجامعة.
عندما تولى الفقيد منصب نائب رئيس الجامعة، كانت الجامعة – جامعة المسلمين بـ«عليجراه» – تعاني مفاسد كبيرة؛ حيث كانت البيروقراطية مستبدة بها، وقد عالجها لحدّ كبير بفضل كونه خبيرًا بها وعارفًا بدقة متناهية المورد إلى علاجها والمصدر عنه. وأوّل ما صنع أنه استدعى 150 من أعضاء طاقم هيئة التدريس وهيئة الموظفين كانوا يعملون أساتذة وموظفين خارج الهند على إجازات خاصّة حصلوا عليها عن طريق امتيازات ممنوحة لهم لكونهم أساتذة وموظفين في مثل هذه الجامعة العريقة الكبرى – التي هي أكبر جامعة مركزية رسمية على مستوى البلاد – وقد أدت خطوته هذه الإيجابية لصالح الجامعة إلى استياء عدد كبير من هيئة التدريس والتوظيف بالجامعة، حتى أقدم بعضهم على إطلاق تصريحات عنيفة ضدّه أثارت ضجة كبيرة في الوسط الجامعي.
كما أنه سارع إلى العودة بالجامعة إلى الخطّ الهادئ المتزن الذي كانت قد شذّت عنه لحدما خلال الستّ عشرة سنة خاضت فيها نضالاً مكثفًا للحصول على «وضع الأقلية» الذي لم تنله لحد كتابة هذه السطور يوم الخميس: 19/جمادى الآخرة 1436هـ = 9/أبريل 2015م.
وقد شهدت الجامعة في عهده إنجازات إدارية وبنائية وإصلاحية ونهضة تعليمية ملموسة مَيَّزَت عهده عن عهود معظم نائبي رئيس الجامعة الذين سبقوه؛ فهو الذي أعاد إصدار مجلة «تهذيب الأخلاق» الأردية الشهرية التي كان قد أسسها وأصدرها مؤسس الجامعة «سرسيّد أحمد خان». وذلك انطلاقًا من عاطفة إنعاش مهمته التعليمية والإصلاحية.
كما أنه أنشأ مبنى إداريًّا ضَخمًا ليسع جميع المكاتب المركزية بالجامعة، ومبنى آخر لقسم الهندسة الكيميائية، ومباني مستقلة لعلم الحاسوب واللغات الهندية الجديدة. واتخذ خطوات عديدة لتعزيز البنية التعليمية والإدارية، كما حاول بأساليب أن يوجد لدى طلاب الجامعة روحَ الانضباط والتقيد بالنظام والقانون والصدور في حياتهم عن الأدب الشامل والصبغة الخاصة التي تمتاز بها الجامعة عن غيرها من جميع الجامعات الرسمية في البلاد. وكل ذلك لحد كان قد أصبح حديث المجالس؛ فقد كانت الألسنة رطبة بذكر حسناته الكثيرة التي صنعها لصالح الجامعة بصفته نائب رئيس لها شاعرًا بالمسؤوليّة، حاملاً للأهلية، بارعًا في الإدارة والضبط، إلى كونه خبيرًا بالتعليم والتربية مشارًا إليه بالبنان على مستوى البلاد. كما أثار لدى الأساتذة والموظفين روح الشعور بالمسؤوليّة حتى عادوا يقومون بواجباتهم مدفوعين بها بشكل عفوي وطيب نفس باستثناء بعضهم الذين ظلوا يحسبون أن الفقيد فرض عليهم ما قَيَّدَهم بما كانوا متحررين منه في السابق.
وللتحسين الإداري وزّع السكن الطلابي التاريخي المبني منذ عهد مؤسس الجامعة «سرسيد أحمد خان» المعروف بـ«إيس إيس هال» بين جزئين: شمالي وجنوبي. وعلى عهده أنشئ سكن الطالبات الكبير باسم «عبد الله هال» الذي يسع 500 طالبة. ورواق تي دبليو لـ200 طالبة داخل سكن الطالبات المسمى بـ«عبد الله هال». كما أنشأ دار ضيافة جديدة، ومبنى يسع لـ150 سريرًا، تابعًا لكلية ومستشفى جواهر لال نهرو، كما تم إنشاء مبنى مخصص لقسم التجارة وآخر لقسم الحقوق، كما طوّر باهتمام خاصّ مركز دروس خصوصية لتأهيل الطلاب لأداء الامتحانات للخدمات المدنية والإدارية الهنديّة.
ويحضرني بهذه المناسبة ذكرى طيبة؛ فقد زرتُ الجامعة ومدينة «عليجراه» في عهده لأوّل مرة؛ حيث قد قررت الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند عقد اجتماع موسع لممثلين شعبيين وآخرين علماء ومثقفين من أنحاء البلاد ليشاهدوا ما آل إليه أمر الجامعة من التحسّن والاستقرار بعد ما تغيّرت الإدارة وتولى منصب رئاسة الجامعة فضيلة الشيخ مرغوب الرحمن – رحمه الله (1332-1432هـ = 1914-2010م) بعد ما استقال منها الرئيس السابق العالم الهندي الكبير فضيلة الشيخ المقرئ محمد طيب – رحمه الله – (1315-1403هـ = 1897-1983م).
وحَمَّلَ المسؤولون وأعضاء هيئة التدريس بالجامعة عن تشاور مسؤوليةَ تبليغ خطاب الدعوة نائبَ رئيس جامعة المسلمين بـ«عليجراه» الفقيد «سيد حامد» كاتبَ السطور والكاتب والصحفي الإسلامي الأردي الكبير فضيلة الشيخ سعيد أحمد الأكبر آبادي – رحمه الله – (1325-1405هـ = 1907-1985م) الذي كان عضوًا في مجلس شورى الجامعة، وكان قد سبق أنه شغل سنوات منصب مدير قسم الدينيات بجامعة المسلمين بـ«عليجراه» – فسافر كاتبُ السطور بصحبة فضيلة الشيخ الأكبر آبادي – رحمه الله – إلى «عليجراه» وكانت أول رحلة قام بها الكاتب إلى المدينة وأقام بها نحو أسبوع. قصد خلاله ذات يوم بصحبة الشيخ مكتب سعادة نائب رئيس الجامعة الفقيد «سيد حامد» بمحيط الجامعة فاستقبلنا بترحاب حارّ وحفاوة بالغة وبسمة عريضة، وظلّ قائمًا عن كرسيّه مالم نجلس على كرسيين أشار إليهما لنجلس عليهما، وبعدما تبادلنا التحية واستخبار الأحوال، قدمنا إليه خطاب رئيس جامعتنا فضيلة الشيخ مرغوب الرحمن – رحمه الله – وفتح من فوره الخطاب وألقى عليه نظرة سريعة، فوافق على حضوره الاجتماعَ. وقال لنا في حديث ودّي عفويّ معنا: إنّه سرّنا جدًّا توجيه رئيس دارالعلوم/ديوبند الدعوة إلينا لنشارك في الاجتماع المزمع عقده، وسأحضره – إن شاء الله – مُلَبِّيًا دعوته الكريمة. ثم وجّه عنان حديثه إلى الشيخ الأكبر آبادي خصيصًا وقال له: فضيلة الشيخ! إنكم من مشايخ كثير من أساتذة جامعتنا – جامعة المسلمين بـ«عليجراه» – وهم خصوصًا والوسط الجامعي عمومًا يكنون لكم احترامًا وتقديرًا بالغين، ويتطلعون دائمًا إلى الاستفادة منكم، وحبّذا لو تكرمتم عليهم بإتاحة فرص من حين لآخر للاستفادة من علمكم وتجاربكم وخبراتكم في مجال التعليم والتربية عن طريق محاضرات نتخذ لها برنامجًا في فترات فراغكم من الأعمال العلمية والكتابية الرتيبة التي تقومون بها. وقد وافق الشيخ على اقتراحه.
وفي فبراير 1983م حضر سعادته جامعتنا، وألقى كلمته الثمينة في الاجتماع المذكور، وكانت كلمة جادة رزينة زَيَّنَها الأسلوب الأدبي الأردي الرائع الذي كان يتعامل به في كل من كتاباته وخطاباته، وقال فيها: إنه يزور هذه الجامعة الإسلامية الأهلية العريقة المعروفة بـ«دارالعلوم/ديوبند» نائب رئيس لجامعة المسلمين بـ«عليجراه» متمثلاً في شخصي العاجز بعد نحو 80-90 عامًا؛ حيث كان قد زارها نائب رئيس لها في وقته. فالأمر مؤسف حقًّا، لأن هاتين المؤسستين التعليميتين العريقتين اللتين هما أكبر وأعرق جامعات المسلمين في شبه القارة الهندية وكلتاهما فريدتان في مجال اختصاهما، ينبغي أن تظلاَّ على تواصل وتضامن دائم، ومن وسائله الفعالة تبادل الزيارات بين المسؤولين والأساتذة في الجامعتين.
وقد قررتُ بصفتي رئيسًا لجامعة المسلمين بـ«عليجراه» أن نستقبل جميع الطلاب المتخرجين في جامعة ديوبند إذا ودّوا أن يتلقوا التعليم العصري في جامعتنا، وسنهيئ لهم جميع ما يمكننا من التسهيلات والامتيازات، وسيكون ذلك من سعادتنا وسعادة جامعة «عليجراه» التي تكن دائمًا لجامعة ديوبند كامل الاحترام والتقدير بصفتها أكبر مركز ديني للمسلمين في شبه القارة الهندية؛ ولذلك يسعدني جدًّا أن أزور هذه الجامعة الإسلامية الدينية وأن أتحدث بين هؤلاء العلماء الأعلام المنتمين إلى الجامعة والمتوافدين من أنحاء البلاد.
وحصد إعجاب المستمعين جميعًا بكلمته القيمة الفكرية والأدبية التي كانت مصدرها خبراته التعليمية والإدارية الطويلة الناضجة التي ظلت لحياته علامة بارزة على شخصيته، ودلّت على الهم الصادق الذي كان يعيشه دائمًا نحو النهوض بالمسلمين تعليميًّا؛ حتى يزاحموا الأغلبية الهندوسيّة بمؤهلاتهم وأهليّاتهم بالتفوّق عليهم عن طريق المؤهلات العالية والاجتهاد البالغ والإتقان الذي امتاز به المسلمون في تاريخهم عن غيرهم، فكانوا معلمين للعالم كله عبر قرون طويلة.
وجمعتني وإيّاه مناسبة سعيدة، وهي مناسبة اليوبيل الفضي الذي عقدته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة على مضي 25 عامًا على إنشائها بعنوان «الدعوة الإسلامية وسبل تطويرها نظرة إلى المستقبل». وذلك في الفترة ما بين 18-22/صفر 1408هـ الموافقة لـ11-15/أكتوبر 1997م في فندق «انتركونتيننتال» بمكة المكرمة.
كنتُ خارجًا من قاعة المؤتمر بعد انتهاء إحدى جلساته، فلفتني رجل مهذب مؤدب بسحنته الهندية وزيّه الثقافي «شيرواني» وشخصيته الجذّابة وقدّه الرشيق ومشيته الوقورة ووجهه الوجيه الذي كان ينطق بأنه رجل مثقف. وكانت قد التبست عليّ سحنته بعد مرور سنوات على لقائي إيّاه الأوّل، فصرت لا أتبين من هو؟ فتساءلت إليه قائلاً: من هو سيادتكم؟ هل أنتم سعادة الأستاذ سيد حامد نائب رئيس جامعة المسلمين بـ«عليجراه» سابقًا؟ قال: نعم، أنا سيد حامد. وأضاف: ويبدو أنني قد رأيتُك في مكان. قلت: نعم قد اجتمعنا بكم في مكتبكم في جامعة «عليجراه» عندما كنتم نائب رئيس لها، ودعوناكم من قبل جامعتنا: جامعة ديوبند لحضور اجتماع موسع عقدته الجامعة عام 1983م، وكنتم قد شاركتم فيه بكلمة ذات أهمية بالغة ألقيتموها أمام جمع حاشد من المستمعين الذين أصغوا لها، و وعوها و ردّدوها على ألسنتهم طويلاً. وكان منهم أخوكم هذا. فسّر جدًّا، ثم ظلنا نتقابل خلال أيام المؤتمر داخلين إلى قاعة المؤتمر أو خارجين منها أو واردين المسجد الكائن بمحيط الفندق لأداء صلاة الظهر، التي كانت تُزَامِن مواعيد جلسات المؤتمر.
في صفر 1416هـ الموافق يوليو 1995م صدرت الطبعة الأولى لكتابنا باللغة الأردية «وه كوه كن كى بات» (حديث عن مغامر) وهو كتاب انطباعيّ عن أستاذنا معلم اللغة العربية العبقري فضيلة الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي – رحمه الله – (1349-1415هـ = 1930-1995م) فتَلَقَّاه القراء – ولله الحمد والمنة – بقبول حسن على مستوى واسع، وأرسلنا نسخة نسخة منه إلى كبار العلماء والكتاب والمثقفين. وارتأينا أن نوافي سعادة الأستاذ «سيد حامد» بنسخة منه بيدنا مباشرةً، فقصدنا «تغلق آباد» بدهلي وأديناها إليه في مكتبه بالمدرسة النموذجية التابعة لجمعية «همدرد»، فتلقّانا بحرارة بالغة وببسمته الجميلة المعهودة. وكان لديه زحام شديد لكثرة المراجعين والزوار الذين كان يمنحهم مواعد للاجتماع به في مثل هذه الساعة؛ ولكنه اقتطع بعض الوقت ليتحدث معنا، ويسائلنا عن موضوع الكتاب وغرضه، وأصرّ علينا أن نتناول الشأي أو القهوة؛ ولكننا اعتذرنا إليه عن ذلك بحجة قلة الوقت.
ويوم 3/أكتوبر 1995م (7/جمادى الأولى 1416هـ) كتب إليّ خطابًا انطباعيًّا عن الكتاب، أبدى فيه إعجابه وأشاد بمحتوياته وأكّد في ضوء ما توصّل إليه خلال الدراسة أن مؤلف الكتاب لديه عناية بالغة باللغة الفارسية، وقد صاغ أسلوبه الأردي في قالب الأسلوب الأردي الكتابي لدى مولانا أبي الكلام آزاد – رحمه الله – (1305-1377هـ = 1888-1958م). ومن عجيب الأمر أن المؤلف كاتب السطور – الذي كان له الكتاب المذكور باكورة مؤلفاته باللغة الأردية وقد ألّفه في نحو أقل من شهر، وصار رمزًا على أسلوبه الأردي الخاصّ– لم يقرأ مولانا آزاد قطّ، وإنما قرأ دائمًا غيره من الأدباء الأرديين اللامعين.
وأحيل الفقيد «سيد حامد» في 65 من عمره إلى التقاعد من منصب نائب رئيس جامعة «عليجراه» يوم 26/مارس 1985م (3/شعبان 1405هـ) فلم يقعد عن العمل والتحرك، وإنما ظل يعمل على النهوض بالشعب المسلم الهندي تعليميًّا وتربويًّا ولاسيّما في مجال التعليم العصري الذي كان يهمّه كثيرًا، وظل يتخذ لذلك تدابير عديدة. وخلال ذلك وقع عليه نظر الفقيد الحكيم عبد الحميد رحمه الله (1326-1420هـ = 1908-1999م) مؤسس مؤسسة «همدرد» الشهيرة في شبه القارة الهندية، فعيّنه الأمين الفخري لجمعيّة «همدرد» التعليمية عام 1992م (1412هـ) وقد ظلّ يقوم بأعباء هذه المسؤولية لحين وفاته. كما عيّنه رئيسًا لجامعة «همدرد» بدهلي عام 1999م (1420هـ) وقد ظل يشغل هذا المنصب لحين وفاته. وخلال عمله بالجمعيّة والجامعة أسس لتأهيل الشباب المسلم لأداء امتحانات الخدمات الإدارية الهندية حلقة «همدرد» الدراسيّة، كما أنشأ مدرسة نموذجية باسم مدرسة «همدرد» الأهلية. ويُعَدُّ من حسناته أنه قام بحركة منظمة على مستوى الهند باسم «الركب التعليمي» عام 1995م (1416هـ) وقام من على منبره بزيارات وجولات مكثفة في أرجاء الهند النائية لتوعية عامة المسلمين بأهميّة التعليم العصري.
وإلى ذلك أصدر مجلة إنجليزية باسم «Nation and the World» كتب فيها افتتاحيات ومقالات إصلاحية وتعليمية نفعت الأمة والمواطنين و أوجدت لدى الشباب همة وطموحًا نحو التعليم وصناعة الذات.
كان الفقيد يجيد كلاًّ من اللغات الإنجليزية والأردية والهندوسيّة؛ بل كان يتقنها، ويكتب بها؛ ولكنه أكثر من الكتابة باللغتين الأردية والإنجليزية. وكانت لغته الأردية عذبة رشيقة ذات أسلوب أدبي رائع يشف عن تذوقه للغة الفارسية التي كان يصدر عنها أحيانًا لصياغة جمل وتراكيب تسع كاملاً المعاني والأفكار التي كان يريد أن يودعها محببةً إلى القراء وداعية لهم دعوة قوية إلى التفاعل معها والاستجابة لها في حياتهم.
وقد أكثر من الكتابة في القضايا الحية الساخنة التي كانت تهم الشعب المسلم الهندي، وكانت مقالاته تنشرها الصحف الكبرى السيارة في البلاد، وكان القراء يقرؤونها في نهم شديد ورغبة بالغة؛ لأنه كان يتعرض للقضايا بأسلوب جذاب، كان يُعْنَىٰ به بصفة خاصّة، وكان يحرص على الإكثار من الاستشهاد والاستدلال، وكان يهتم بأن يكون أسلوبه مُلَقِّنًا لما يريد توصيله إلى القراء.
وقد صدر بقلمه نحو ألف مقال حول شتى الموضوعات الاجتماعية والفكرية والأدبية والسياسيّة إلى جانب قصص و روايات ومقالات ذات صبغة أدبية محضة، وكانت له مشاركة في قرض الشعر. وشعره كذلك ينمّ عن الهمّ الذي كان يعيشه من أجل الشعب المسلم. وقد صدرت مجموعة مقالاته حول قضايا المسلمين مُفْرَدَةً باسم «فرياد».
صدرت مجموعة كتاباته حول الانتقاد الأدبي باسم «نگارخانهٔ رقصاں» (معرض الصور يرقص) عام 1984م (1404هـ) وألفت الدكتورة نجمة محمود – قسم اللغة الإنجليزية بجامعة المسلمين بـ«عليجراه» – ترجمة له بالأردية باسم «سيد حامد كه گم اس میں ہیں آفاق» (سيد حامد الذي تغيب فيه الآفاق) كما ألّف عنه البروفيسور أصغر عباس والدكتور شهاب الدين ثاقب – قسم الأردية بجامعة المسلمين بـ«عليجراه» – كتابًا باسم «عرفانِ سيد حامد».
موجز ترجمته
● الاسم «سيد حامد» ● الولادة 28/مارس 1920م (7/شعبان 1338هـ بمدينة «فيض آباد» إحدى مديريات «أترابراديش» بالهند ● اسم الوالد سيد مهدي حسن ● اسم الوالدة ستاره شاه جهان بيغم ● له أخوان: سيد محمد وسيد مصطفى وهما متخرجان من جامعة «عليجراه» ● اسم زوجته: ثريّا حامد ● الأولاد: ثمر حامد، ثمن حامد (ابنان) فراز حامد (بنت).
التعليم:
● تلقى التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي في كل من كلية مراد آباد، الحكومية والمدرسة الثانوية الحكومية بـ«أُنَّاؤ» والمدرسة الثانوية الإقليمية بمدينة «رامبور» ● وتلقى شهادة B. A (الليسانس) من جامعة المسلمين بـ«عليجراه» في الفترة ما بين 1937-1939م ونال شهادة ايم اے M. A (الماجستير) في اللغة الإنجليزية من الجامعة في الفترة ما بين 1939-1941م، وشهادة M. A في الفارسية من الجامعة نفسها في الفترة ما بين 1941-1947م.
● وخلال التحصيل العلمي ظل يمارس هواية اللعب بالهوكي، وظل من اللاعبين البارعين لهذا النوع من الألعاب وعضوًا في فريق الهوكي على مستوى الجامعة.
العمل
● في الفترة ما بين 1943-1949م عمل في مجال الخدمات المدنية الإقليمية في كل من مدن بجنور، ومرادآباد، وبلند شهر ● في عام 1949م انضم إلى قطاع الخدمات الإدارية الهندية Indian Administrative Services التي تعتبر خدمات رفيعة المستوى، وتتحلب لها أفواه الشباب من المثقفين بالثقافة العصرية ● وعمل نائب سكريتر للصناعات والتجارة الهندية الخارجية في الفترة ما بين 1960-1965م ● كما عمل مديرًا للثروة السمكية عام 1966م ● ومديرًا للشؤون البلدية بمدينة «الله آباد» في الفترة ما بين 1966-1968م ● وسكريترًا مشتركاً للجنة التخطيط بدهلي الجديدة في الفترة ما بين 1968-1971م ● و وكيلاً مشتركاً لوزارة الشؤون الداخلية بدهلي الجديدة في الفترة ما بين 1971-1975م ● و وزيرًا إضافيًّا بوزارة الاتصالات الهندية بدهلي الجديدة في الفترة ما بين 1975-1976م ● ومؤسسًا ورئيسًا لمجلس إدارة لجنة اختيار الموظفين في الفترة ما بين 1976-1980م ● وعمل نائب رئيس لجامعة المسلمين بـ«عليجراه» في الفترة ما بين 10/يونيو 1980م الموافق 24/رجب 1400هـ = 26/مارس 1985م الموافق 3/شعبان 1405هـ ● وعمل سكرتيرًا فخريًّا لجمعية «همدرد» التعليمية منذ عام 1992م حتى وفاته ● وعمل عضوًا في المجلس الإداري لمؤسسة دارالمصنفين أكاديمية شبلي بـ«أعظم جراه» منذ 2000م حتى وفاته ● وعمل رئيسًا لجامعة «همدرد» منذ 1999م حتى وفاته.
وفاته
● توفي – رحمه الله – في نحو الساعة السادسة إلاّ ربعًا من مساء يوم الاثنين: 6/ربيع الأول 1436هـ الموافق 29/ديسمبر 2014م في مستشفى مجيـديه التابع لجامعة «همدرد» بدهلي الجديدة. ودفن بمقبرة «بانج بيران» بدهلي الجديدة بعد صلاة الظهر من يوم الثلاثاء: 7/ربيع الأول 1436هـ الموافق 30/ديسمبر 2014م.
(تحريرًا في يوم الخميس: 19/جمادى الآخرة 1436هـ = 9/أبريل 2015م).
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1436 هـ = مايو – يونيو 2015م ، العدد : 8 ، السنة : 39