دراسات إسلامية

بقلم:     الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي رحمه الله

(المتوفى 1399هـ / 1979م)

ترجمة وتعليق: الأستاذ محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)

الشيخ العلامة رشيد رضا المصري في رحاب الجامعة:

       العلامة رشيد رضا المصري(1): أحد العلماء الأفذاذ المعروفين بالتبحر العلمي والنبوغ والصيت الذائع، صاحب القلم الرشيق، منشئ مجلة «المنار» العلمية الشهيرة الصادرة في مصر. تتلمذ للقائد الإسلامي الشهير المفتي محمد عبده(2) وكان على حظٍ وافرٍ مما امتاز به العلامة محمد عبده من الفكر والاجتهاد وعمق النظر وسعته. زار العلامة رشيد رضا الهند عام1330هـ فتقدمت «دارالعلوم» بدعوته لزيارة الجامعة فلبَّى – رحمه الله – دعوتها وزارها واطلع- عن كثبٍ- على خدماتها العلمية وخصائص وميزات تعليمها وتربيتها ومذهبها الفقهي والأسس العلمية والفكرية الرصينة التي قامت عليها «دارالعلوم»، وأعرب عن غاية فرحه وعجبه مما رأى وشاهد. وألقى– بهذه المناسبة –العلامة محمد أنور شاه الكشميري (1292-1352هـ/1875-1933م)– رحمه الله- كلمةً ضافيةً طويلة النفس باللغة العربية، شرحت مذهب علماء ديوبند وخدماتهم العلمية.

       وقدم كلمة التحية والترحيب بالضيفِ المبجل الشيخُ حبيب الرحمن (ت 1348هـ/1929م)–رحمه الله – باللغة العربية، وألقى الضوء على تاريخ الجامعة ومذهب علماء ديوبند الفقهي. وردَّ السيد رشيد رضا المصري – رحمه الله- عليها بكلمة ألقاها على الحضور وقال فيما قال: «إنكم تستحقون الشكرمني ومن المسلمين كلهم على ما تقومون به من الخدمات الدينية والعلمية الغالية، لقد سررت جداً بزيارة «دارالعلوم» هذه، وأوكد لكم أني  لورجعت من الهند ولم أزرها لرجعت منها حزيناً. وقد رأيت فوق ما سمعت عن هذه المدرسة، وأعجبت بما تطرق إليه الأستاذ أنورشاه الكشميري من المبادئ التي سار عليها مشايخه، وأوافق عليها، ولاشك أن المذهب الحنفي يتصف بالمرونة»(3).

       إن حياة علماء ديوبند الساذجة وخدماتهم العلمية فَعلت في السيد رشيد رضا فعلها، مما يتجلى فيما قاله في مقدمة «مفتاح كنوزالسنة»: «لولاعناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقُضي عليها بالزوال من أمصار الشرق؛ فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز منذ القرن العاشر للهجرة»(4).

سعي «دارالعلوم» لتقديم المساعدات لصالح منظمة «الهلال الأحمر»:

       نحن في غنى – هنا- عن شرح ما تتسم به علاقة مسلمي الهند بالخلافة العثمانية من الوفاء والإخلاص. والخلافة هي المنوط بها عز الإسلام والحفاظ على الحرمين الشريفين وخدمتهما. ولايخفى على أحدٍ أن تعرض الخلافة العثمانية للخطر ومعاناتها معاناةً يخاف معها على قوتها وشوكتها أو تُستهدف حرمةُ الحرمين الشريفين؛ يثير القلق والأسى في العالم الإسلامي لحد لايقادر قدره. ولم تكن الجروح التي أصابت قلوبَ المسلمين في أحداث طرابلس – قد اندملت وأزفت حتى تمخضت حربُ بلقان الدامية عن منظر رهيب مفزع. وتناقلت الصحفُ الأنباء عما مرَّعلى الأتراك المظلومين الجرحى المهجَّرين من الفواجع والأحداث والمصائب التي تقشعر لها الجلود؛ فقد كابدَ الآلاف من المسلمين: رجالهم ونسائهم وأطفالهم وشيوخهم البردَ القارص والجوع المدقع وغيرهما من المتاعب والمظالم، مما أثار في عامة العالم الإسلامي موجةً من الاستياء والقلق والاضطراب. فاشتعلت في قلوب المسلمين – أينما كانوا وفي أي بلد قطنوه – عواطفُ المؤاساة والحمية الإسلامية تجاه هؤلاء المسلمين المضطهدين المغلوبين على أمرهم. فحملوا على عواتقهم – ما وسعهم- أعباء مساعدة هؤلاء المسلمين المضطهدين المنكوبين والمهجرين الذين عضهم الجوع وأناخ عليهم الدهر بكلكله. وكان في طليعة هؤلاء مسلمو الهند، وقامت بذلك «دارالعلوم/ديوبند» كعادتها المستمرة. فأصدرت ووزعت مئات الآلاف من الفتاوى والمطويات في مختلف أنحاء البلاد. وقام أساتذتها وطلابها بجولات غطت أنحاء البلاد يُلقون الخطبَ التي تتناول أهمية الموضوع، وبعثوا في الناس الرغبة في المساعدة لهم في أقصى البلاد وأدناها. وأنشؤوا لجاناً في مختلف أنحاء البلاد تقوم بجمع التبرعات لصالح منظمة «الهلال الأحمر». وقاموا بتقديم ما تجمع لهم من التبرعات التي تقدر بمئات الآلاف من الروبيات إلى تركيا. وتأكيداً من  الطلاب على حميتهم الدينية وحماسهم، أهدوا قيمة الجوائز التي ينالونها من الجامعة في كل عام لمنظمة «الهلال الأحمر» كدأبهم عام 1294هـ ، ثم زادوا على ذلك بأن تبرعوا بالأثاث والحاجيات اللازمة للحياة لصالح المنظمة. وإضافةً إلى هذه المبالغ، أرسلوا تبرعات كثيرة تلقوها من مختلف مناطق البلاد بمساعي جميلة منهم. وبذلك تم إرسال مبالغ تقدر بخمسة وستين ألف روبية هندية.

عام 1331هـ ،وإصدار مجلة «القاسم» الأردية:

       قامت «دارالعلوم» بإصدار مجلة أردية شهرية باسم«القاسم» عام 1328هـ، تهدف إلى تزويد عامة المسلمين بعلوم علماء ديوبند ومعارفهم وتوجيهاتهم، وإطْلاعهم على العقائد الدينية الصحيحة والأحكام الإسلامية، وذلك بإشراف فضيلة الشيخ حبيب الرحمن – رحمه الله- وغيره من كبار علماء الجامعة. وكانت مجلة «القاسم» تشكل أداةً فاعلة في نشر المواد العلمية والتاريخية بجانب تعريف الشعب المسلم بأهداف «دارالعلوم» وخدماتها الدينية والعلمية والتربوية. وكان ذلك يتطلب إصدارَها من الجامعة نفسهاإلا أن الشيخ حبيب الرحمن كفى «دارَالعلوم» مؤنتها تخفيفا عنها إلى أن توفرت لها موارد مالية آمنة. وصدرت مجلة «القاسم» في الوقت الذي لم تشهد مدينة «ديوبند» مطبعةً تقوم بطبعها، فكانوا يطبعون أعدادها الأُوَل في مدينة «علي كره»(5). فلما تغلبوا على هذه الصعوبات مع مرور الأيام، واستغلظت مجلة «القاسم» واستوت على سوقها وصلوا حبلها بحبال «دارالعلوم»، وأصبحت مجلة صادرة فيها.

       والمقالات التي كانت تنشرها مجلة «القاسم» على صفحاتها كلها نافعة هامة غزيرة المواد إلا أن الشيخ حبيب الرحمن كان يكتب مقالا يعنونه بـ«كيف انتشر الإسلام في العالم» يمتاز عن غيرها من المقالات المنشورة. ونشرت مجلةُ «القاسم» هذا المقالَ في حلقات كثيرة لمدة استغرقت أعواما طوالاً، وتم جمعُها ونشرها في صورة كتاب سمي بـ«انتشار الإسلام» بعد ما توفي صاحبه. ولك أن تدرك أهمية هذا المقال وقبوله لدى الشعب المسلم بأن الكتاب – رغم عدم اكتماله – صدرت له طبعات كثيرة.

تداعيات التبرعات لصالح منظمة «الهلال الأحمر» على«دارالعلوم»:

       آثرت «دارالعلوم» العام الماضي على نفسها المسلمينَ المظلومين الأتراك فَسَعَت سعياً حثيثاً لتقديم المساعدات والمعونات لهم. وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك سلباً على مواردها، فلقي الجهاز المالي لـ«دارالعلوم» جَهداً وبلاء وصعوبات كثيرة في الأشهر السبعة أو الثمانية الأوَل من العام الدراسي الجاري. ثم تبدلت الحال غير الحال–والحمد لله على ذلك- وانقضى العام دون أن تتعثر مشاريعها رغم ما واجهت من التناقص في الموارد المالية بالنظر إلى نفقاتها. و كانت «دارالعلوم» تتلقى ألفي روبية هندية من قِبَل «الدولة الآصفية» فارتفعت هذه الكمية وصارت ضِعفَيْ ما كانت عليه اعتباراً من شهر رمضان المبارك لهذا العام.

عام 1332هـ، ومجمل أوضاعه:

       واستمرت شؤون «دارالعلوم» وأقسامها التعليمية والإدارية، والحفلات التي كانت تقام والمكتبة والمطبخ والبناء وغيرها – على أحسن مايرام كعادتها. ورغم أن بعض العوائق وقفت في سبيل تقدمها ورقيها إلا أن قوة «دارالعلوم» الفطرية وسلامتها الطبيعية تغلبت عليها جميعاً، وشهد هذا العام في مواردها ونفقاتها ونتائج الاختبارات تحسنًا يفوق السنواتِ الماضيةَ.

       وتم تدشين المطبخ في «دارالعلوم» عام 1328هـ على نطاق ضيق جداً يقوم بإعداد وتقديم الوجبات الغذائية للطلاب إلا أنه شهد اتساعاً حَمَلَ القائمين على «دارالعلوم» على تخصيص طاقم بمفرده يقوم بشؤون المطبخ نظراً إلى تنامي عدد الطلاب مع مرور الأيام.

إصدارمجلة «الرشيد»:

       شهد العامُ الماضي تولي «دارالعلوم» إصدارَ «القاسم» واعتبارها مجلةً صادرةً فيها بعد أن كان يتولى إصدارَها الشيخُ حبيب الرحمان، وشهد هذا العام إصدار مجلة شهرية أخرى سميت بـ«الرشيد» في ذكرى الشيخ «رشيد أحمد الكنكوهي» – رحمه الله تعالى – (ت1323هـ/1908م). وبما أن أنصار «القاسم» كان قد ارتفع  عددهم كثيراً فتولت «دارالعلوم» إصدار مجلة «الرشيد» منذ اليوم الأول. ونوَّهت التقارير الدورية لهذا العام بفائدة مجلتي «القاسم» و«الرشيد»، ومستوى المقالات المنشورة فيهما بما يشير إلى مكانة هاتين المجلتين العلمية والدينية فتقول: «ولكي تدرك الخدمات العلمية الإسلامية التي قامت بها المجلتان: «القاسم» و«الرشيد»، وتعرف قدر المواد الصافية النقية، ومدى توجيهاتهما في كل مسألة- علميةً كانت أو غيرها – توجيهاً حقاً مخلصاً، ما عليك إلا أن تطلع على أعدادهما السابقة المتوفرة. فمن شاء فليرجع إليها ولينظر فيها بإمعان. ثم انظر إلى الجرائد التي تصدر اليوم سواء كانت علمية أو تاريخية أو أدبية، تَجْتَلِ ما بين هاتين المجلتين وبين المجلات الأخرى من البون الشاسع. فلم تطرُق هاتان المجلتان موضوعاً من المواضيع لأي فَنٍ يرجع إليه إلا ناقشتاه بأسلوب تحقيقي مع احترام وتقدير للسلف الصالح وإعطائهم حقهم، وتنويهٍ بوجوب احترامهم والتأسي والاحتذاء بهم. ولم تجارِ العصرَ واحدةٌ من هاتين المجلتين في التقول على الناس بما تشاء باجتهاد ورأي منها، أو تستبد في مسألة من المسائل برأي يمليه عليهما الهوى. كما التزمت المجلتان فيما يخص الآدابَ والتاريخ أن تضع كل واقعة على محك التاريخ الصحيح وتعجم عودها قبل نشرها، ثم توصلت إلى نتائج هامة تستفيد منها الأمة أعظم الثمرات والفوائد التي ترجع إلى المجتمع والمدنية والدين.

       هذا، وليس أقل عجباً أن تسلك المجلتان في إعداد المواد سبيلاً وسطاً متزناً للغاية على رغم أنهما تتناولان موضوعات ومسائل شتى. ولم يجد أحد متنفساً ينفذ منه إلى الطعن فيهما من غير وجهٍ. وربما لم يصل الأمر – أو ندر وعزَّ– إلى أن تدعا-المجلتان – أحدًا يدخل معهما في متاهات ونزاعات من غير سبب».

*  *  *

الهوامش:

(1)       هو محمد رشيد بن علي رضا بن محمد القلموني، البغدادي، الحسيني(1282-1354هـ/1865-1935م): أحد  رجال الإصلاح الإسلامي، من الكتاب، العلماء بالحديث والأدب والتاريخ والتفسير.لازم الشيخ محمد عبده وتتلمذ له. و أصدر مجلة (المنار) لبثّ آرائه في الإصلاح الديني والاجتماعي. وأصبح مرجع الفتيا في التأليف بين الشريعة والأوضاع العصرية الجديدة. وأنشأ مدرسة (الدعوة والإرشاد) ثم قصد سورية في أيام الملك فيصل بن الحسين. ورحل إلى الهند والحجاز وأوربا. ومن أشهر آثاره: مجلة (المنار) أصدر منها 34 مجلداً، و (تفسير القرآن الكريم- ط) 12مجلداً منه، ولم يكمله. للاستزادة من ترجمته راجع: الأعلام 6/126. (المترجم)

(2)       الشيخ محمد عبده بن حسن خيرا الله (1266 – 1323 هـ / 1849 – 1905 م):مفتي الديار المصرية،ومن كبار علماء الإسلام.ولد في شنرا (من قرى الغربية بمصر) ونشأ في محلة نصر (بالبحيرة) وتعلم بالجامع الأحمدي بطنطا ثم بالأزهر.وتصوف وتفلسف.وعمل في التعليم، وكتب في الصحف ولا سيما جريدة (الوقائع المصرية) وقد تولى تحريرها.وجعل مستشارًا في محكمة الاستئناف،فمفتيًا للديار المصرية (سنة 1317 هـ) واستمر إلى أن توفي بالإسكندرية،ودفن في القاهرة.له (تفسير القرآن الكريم – ط) لم يتمه،و(رسالة التوحيد – ط) و(رسالة الواردات – ط) صغيرة،في الفلسفة والتصوف، و(حاشية على شرح الدواني للعقائد العضدية- ط) .للاستزادة من ترجمته راجع:الأعلام للرزكلي 6/126. (المترجم)

(3)       هذا ملخص ما قاله الشيخ السيد رشيد رضا بهذه المناسبة ولم أعثر على نصه.(المترجم)

(4)       مقدمة مفتاح كنوز السنة لسيد رشيد رضا ص 25ط :إدارة ترجمان السنة ،باكستان .

(5)       كان يدير هذه المطبعة الشيخ رشيد أحمد الأنبيتهوي شقيق الشيخ خليل أحمد الأنبيتهوي المحدث السهارن فوري.

*  *  *


(*)     أستاذ التفسير والأدب العربي بالجامعة.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، جمادى الأولى 1436 هـ = فبراير – مارس 2015م ، العدد : 5 ، السنة : 39

Related Posts