الفكر الإسلامي
بقلم: الأستاذ محمد ساجد القاسمي(*)
من سُنن الله تعالى في الكون و الحياة سُنَّةُ البقاء والفناء، وهي أنَّ البقاء مقدَّر للأنفع، بينما الفناء والاندثار مكتوب لغير الأنفع. وهذه سُنَّة جارية مُستمرَّة منذ الماضي السحيق، نُشاهد نفوذها وتأثيرها، وسلطانها وتحكُّمها في المجالات المختلفة للحياة، غير أنَّنا لا ننتبه لها كسُنَّة من سُنن الله تعالى.
وقد قرَّر الله تعالى هذه السُنَّة في القرآن الكريم عندما ضرب مثلاً للحقِّ المستقِرّ الباقي، والباطل المنتفخ الفاني، فقال:
«أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ» (الرعد/17)
كما قرَّرها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه خالد بن الوليد، قال: جاء رجل إلى النَّبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: إنِّي سائلك عمَّا في الدنيا والآخرة، فقال له: سَلْ عمَّا بدا لك … فقال: أحِبُّ أن أكونَ خيرَ النَّاس، فقال: خيرُ النَّاس من ينفع الناس، فكن نافعًا لهم.
لقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم النافعَ من النَّاس خيرَ النَّاس؛ لأنَّ إسداء المنفعة صفة محمودة وخصلة مرضيَّة لدى النَّاس، فمن تمتَّع بها كا ن خيرَهم وأحسنَهم.
لقد جُبِلَ النَّاس على حُبِّ من ينفعهم وإكباره وإعظامه، لايبالون بلونه ولاجنسه، ولاوطنه ولادينه؛ لأنَّ النافعيَّة صفة تجعل صاحبها محبوبًا إلى الناس، مهما كان لونُه، أوجنسُه، أووطنُه، أودينُه، وتجذب إليه القلوب جذبَ المغناطيس القِطعَ الحديديَّة.
إن كان أحد مِمَّن ينفع الناس يجلس في بيته، ويُغلِقُ على نفسه بابَه، تسوَّر الناس بيتَه و كسروا بابه؛ لأنهم يعرفون نافعيَّته، ويُعيرون له أهميَّته.على هذا فقد نرى كثيرًا من التجار، وأصحاب المهن، وأرباب الحرف مكاتبُهم ومحالُّهم التجارية في سكك حلزونيَّة ضَيِّقة لا يكاد يصل إليها المرء إلا بشقِّ النفس، مع هذا فأصحاب الحاجات يبحثون عنها ويكتشفونها حتى يصلون إليها، وينالون بغيتهم فيها، وما أوصلتْهم إليها إلا نافعيَّتُهم.
وإذا كان شيء نافعًا يحتاج إليه النَّاس يُقبلون إليه، ويقتنونه، لا يحفلون مِمَّن يأخذونه؟ ومن أين يُحصِّلونه؟ وأيّ دين يدين به صاحبُه؟ ومن أيِّ قبيلة نِجارُه؟
فالنافعيَّة فوق العصبيات، وفوق الأجناس، وفوق الأزمنة والأماكن.
وإذا كان شيءلا ينفع الناس لا يُعيرون له اهتمامًا، ولا يرفعون به رأسًا، فهو لهم كاللقى الضائع والهمل المتروك.
ثم إن النَّافعيَّة تخلع على الشيء لباسَ الدوام، وتُلبسه ثوبَ البقاء، فهو حيّ نابض بالحياة، جديد صالح للبقاء لا تخلق جِدَّتُه، ولا تزول طراوتُه مهما مرَّت العصور وانقضت الأزمان، تتناقله الأجيال ويرثه الأبناء عن الآباء.
لذلك فنرى أنَّ النظريات والفلسفات، والكتب والمؤلفات، والاكتشافات والاختراعات التي تنفع البشريَّة كلُّها باقيةٌ مستمرَّةٌ؛ فهي تُراث ثَمين تحتفظ به البشريَّة وتصونه عن الضَّياع والاندراس.
ونرى أنَّ العلوم الطبيعيَّة التي قامت عليها النهضة العلميَّة الحديثة، والتي وَرِثَتْها البشريَّةُ من الحضارات القديمة من صينيَّة وهنديَّة وإغريقيَّة وعربيَّة، ونقلتها إلى الأجيال القادمة كلُّها باقيةٌ متوارثةٌ؛ لأنَّها تنفع البشريَّة. فنافعيَّة هذه العلوم هي التي جعلتها باقية وسايرة مع الزمان، ولولم تكن نافعة للبشريَّة لتركها الزمن وخلَّفتْها عجلةُ الحياة دونما رحمة.
لقد دبَّجت أقلامُ الكُتَّاب والمؤلِّفين رُكامًا هائلاً من الكتب، وجادت قرائح الشعراء بثروة كبيرة من الشعر، وسجَّل أصحاب العلم والمعرفة تجاربهم وآراءهم في أسفار ضخمة، غير أنَّه لم يبق من كلِّ ذلك إلا ما كان نافعًا ومسائرًا مع الزمن. وأما ما لم ينفع البشريَّة، ولم يُساير الزمن فقد تراكم عليه الترابُ ونسج عليه عناكبُ النسيان.
كما نرى العديد من المؤلفات كالكشَّاف في التفسير، والمفصَّل في النحو، والإمتاع والمؤانسة، وكليلة ودمنة في الأدب، وما إلى ذلك، ودواوين الشعر كالمعلَّقات السبع، وديوان الحماسة، وديوان أبي الطَّيِّب، وما إليها، تُقْبِل عليها الأوساط الإسلامية وتدرسُها وتشرحُها وترجع إليها، مع أنَّ أصحابها كانوا من شعراء الجاهليَّة، أو من أصحاب الأهواء، أو من ذوي المعتقدات الفاسدة؛ ذلك أنَّها تتمتَّع بالنافعيَّة التي جعلتها مقبولة، حتى لدى من يعارض أصحابَها في الفكر والعقيدة.
إنَّ الآلات الجديدة والمخترعات الحديثة تنفع الناس وتُدير عجلة الحياة، فيقتنيها الناس ويستفيدون منها، ولايسألون من صانعها؟ ومن مخترعها؟.
إن النافعيَّة زين للأشياء، يُحبِّبُها إلى الناس، وزين للأفراد يجعلهم محبوبين لديهم، فهي تجذب إليهم الناس، وتغنيهم عن الدعاية والشعبية، فماشيء دخلت فيه النافعيَّة إلا زانتْه، وما نُزِعت عن شيء إلا وشانته.
فمن كان نافعاً للنَّاس كان ناجحًا في الحياة، فكلَّما كان المرء أنفع كان أنجح في حياته. فإن كان الفلاح يكدح طول نهاره في حقله، ويُغِلُّ حقله بما ينفع الناس فهو ناجح؛ وإن كان التاجر يضع في متجره بضائع تسُدُّ بها حاجة الناس وتنفعهم في حياتهم فهو ناجح؛ وإن كان المؤلِّف يُودِعُ كتابَه جواهرَ العلم، و دُررَ المعرفة التي تنفع الأجيال المعاصرة و الآتية فهو ناجح؛ وإن كان الصانع يصنع بيد العبقرية مصنوعات ومنتجات تساعد الناس على الحياة، وتعينهم على العيش فهو ناجح.
كأنَّ النافعيَّة والنجاح قرينان متلازمان، وصِنوان لا يفترقان، فحيثما كانت النافعيَّة كان النجاح، وأينما كان النجاح كانت النافعيَّة.
أَشرِبْ أعمالك النافعيَّة يُقدَّرْ لها البقاءُ ويُكتَبْ لها الاستمرار والدوام، ويرافقك المحبوبيةُ ويحالفك النجاحُ؛ فكن نافعًا وكفى.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1436 هـ = يناير 2015م ، العدد : 3 ، السنة : 39
(*) أستاذ قسم الأدب العربي بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم ديوبند (الهند)
sajidqasmideoband@gmail.com