دراسات إسلامية

بقلم: الدكتور محمد مظهر عالم الندوي (*)

أدب الطفولة أو أدب مرحلة الطفولة أحد الأنواع الأدبية المتجددة في الآداب الإنسانية، فالطفولة هي الغرس المأمول لبناء مستقبل الأمة. والأطفال هم ثروة الحاضرة وعُدَّةُ المستقبل في أي مجتمع يخطط لبناء الإنسان الذي يعمر به الأرض. والأطفال هم ريحانة الحياة وبهجة الحياة ومتعة النفس. يقول الله – عز وجل – في كتابه الكريم: «اَلْـمَالُ وَالْبَنُوْنَ زِيْنَةُ الْحَيٰوةِ الدُّنْيَا، وَالْبٰقِيٰتُ الصّٰلِحٰتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَّ خَيْرٌ أَمَلاً» فالأموال والأولاد هما الثروة في جانبها المادي والبشري، وعلى هذين الأمرين تقوم الحياة، ويعمر الكون وتدور بواسطتهما عجلات التاريخ الإنساني.

       يُعْتَبَرُ العصر الحديث عصرَ أدب الأطفال بكافة وسائله المقروءة والمرئية والمسموعة مع إرسال أول بعثة عربية مصرية إلى أوروبا في زمن «محمد علي»، أخذت الثقافةُ العربيةُ تتلاقح مع الثقافات الأوروبية وبالذات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية فيما بعد. وبدأ أدبُ الأطفال يدخل قلوبَ العرب وعقولَهم عن طريق طلبة البعثة العربية المصرية، ونتيجة لاختلاط الأدباء والشعراء العرب بأدباء وشعراء الغرب. وكان أول من قدّم كتابًا مُتَرْجَمًا عن اللغة الإنجليزية إلى الأطفال هو «رفاعة الطهطاوي» الذي كان مسؤولاً عن التعليم في ذلك الوقت. وكان الطهطاوي مربيًا فاضلاً ومثقفًا ثقافةً عربيةً إسلاميةً، فهو قد تخرج في الأزهر، ثم ألحقه «محمد علي» بالبعثة العلمية مرشدًا روحيًا لها. وكان أدب الأطفال قد وصل أوجه في فرنسا وتمثل في كتابات تشارلز بيرو. عندئذ بدأ الطهطاوي بترجمة هذه الآداب المعدة للأطفال. فترجم قِصَصًا تُعد من حكايات الأطفال، وأدخل قراءة القصص منهاجًا في المدارس المصرية(1).

       ولم ينحصر دور الطهطاوي في الفترة التي كان فيها ملازمًا للبعثة في فرنسا، بل تعداها إلى ما بعد عودته إلى وطنه مصر، وأصبح مسؤولاً عن التعليم. لقد أصبح يعي ما يفتقر إليه أطفالُ أمته وما يعانونه من جدب وفقر وحرمان في هذا الباب. لقد كان على علم بما يعانيه الأطفال العرب من جدب في الخيال، وفقر إلى التسلية الرفيعة، وقحط في الترفيه التراثي. استعان بكتب الأطفال الأجنبية وأمر بترجمتها ليقرأها التلاميذ المصريون. وكان رفاعة جادًا في أن يستعين في سياسته التعليمية بما يُوْضَعُ أو يُترجم من كتب حديثة. ومن ذلك ما كتبه لوكيل الحكومة المصرية المقيم في لندن «سلحدار إبراهيم باشا» بأن يرسل كتبًا مطبوعة ومؤلفات للصغار والتلاميذ بحيث تميل أذهانهم إليها(2).

       إلا أن أدب الأطفال خفت ضوؤه، بل كاد أن يتلاشى بعد وفاة رفاعة الطهطاوي؛ إذ تَدَهْوَرَ التعليمُ في مصر إلى حد كبير، مما جعل هذه الجذوة من الأدب تَخْفِتُ وتكون من المنسيات تقريبًا. فلم يهتم أولو الأمر بالعلم بوجه عام. فَتَضَعْضَع أدبُ الأطفال؛ لأنه من الاهتمامات الحديثة العهد إلى حد ما. وبما أن أدب الأطفال صعب المراس ويحتاج إلى متمرسين بأمور شتى من الحياة، فقد ابتعد عنه جل الأدباء؛ لكن العمليةَ لم تنعدم تمامًا؛ فقد ظهر الكاتب «محمد عثمان جلال» في حكاياته تحت عنوان «العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ». لكنها أهملت نظرًا لركاكة أسلوبها وما تضمنته من أخطاء تضر ببنية الطفل العلمية والأدبية أكثر مما قد تفيده، وتلا «جلال الكاتب عبد الله فريح» بما قدمه في كتابه «نظم الجمان من أمثال لقمان» والذي يضم خمسين أرجوزة تقريبًا. وهذه الأراجيز عبارة عن معلومات أقرب إلى ذوق الكبار منها للصغار.

       أدب الطفولة عند العرب قد بدأ فعلاً على يدي الشاعر الكبير «أحمد شوقي» الذي تثقَّف ثقافةً عربيةً إسلاميةً قبل ذهابه لفرنسا لدراسة الحقوق، ومن ثم تثقف بالثقافة الأوروبية، والفرنسية منها على الخصوص. وهذا ما عناه «طه حسين» في كلامه عن شوقي: فحينما «ذهب إلى فرنسا في آخر القرن الماضي إذا ذكر الشاعر، ذكر لمارتين و «بحيرتـ»ـه التي ترجمها إلى العربية أو ذكر لافونتين وأساطيره؛ وإذا ذكر الفلسفة، ذكر جون سيمون. ومن المحقق أن آثار لامارتين ولافونتين آيات من الأدب الفرنسي»(3).

       إن ثقافة شوقي العربية الإسلامية جعلت منه إنسانًا ميّالاً إلى حب المعرفة والتجديد. وبذلك توجه صوب أدب الأطفال الذي يحتاجه الوطن العربي إلى جانب احتياجاته في ضروب الحياة الأخرى من فكرية وعلمية وثقافية وغيرها. فبدأ ممارسة الكتابة للأطفال، إذ قال: «وجربت خاطري في نظم الحكايات على أسلوب لافونتين الشهير. وفي هذه المجموعة القصصية التي صدرت عام 1898 شيء من ذلك. فكنت إذا فرغت من وضع أرجوزتين أو ثلاث، أجتمع بأحداث المصريين وأقرأ عليهم شيئًا منها، فيفهمونها لأول وهلة ويأنسون إليها ويضحكون من أكثرها، وأنا أستبشر لذلك. وأتمنى لو وفقني الله لأجعل للأطفال المصريين مثلما جعل الشعراء للأطفال في البلاد المستحدثة منظومات قريبة المتناول يأخذون الحكمة والأدب من خلالها على قدر عقولهم»(4).

       وقد اعتمد شوقي الحكمة وإيصال المعرفة بأسلوب غذائي جميل وبكلمات رقراقة فاعلة، مما يجعلنا نشعر بغنائيته الطافحة حتى في مثل هذه المواقف. وعرف شوقي بحدسه وبطبيعته الإنسانية وميله الأدبي ما للأدب من قيمة لدى الأطفال، فكان نتاجه إليهم. وما استخدامه الحيوانات والحديث باسمها إلا دلالة واضحة وذكية منه على فهم نفسية الطفل، علمًا بأن شوقي لم يكن المبتدئ في هذه النتاجات الأدبية على لسان الحيوان، وإنما وجدت من زمن الحضارات العتيقة (عربية وهندية وغيرها). وما كتاب «كليلة ودمنة» سوى أحد الشواهد على ذلك. فالحيوانات، بصداقتها المتنوعة مع الأطفال، تشكل جسرًا فاعلاً وناطقًا في نقل المعرفة، فهي تشكل الجوانب المتعددة من صورة الطبيعة وتقلباتها. من هنا جاءت دروس العظة والأخلاق الحميدة والتهذيب النفسي في أناشيد شوقي وحكاياته. فهو سبيل فاعل وبناء في تهذيب النفوس، فكان يأتي بالصورة ونقيضها كي يقرب المراد إلى الأطفال بصور مشوقة ويعرفهم الخير والشر وكلاهما يسيران جنبًا إلى جنب في دهاليز الحياة ونظمها مع الإنسان. كتب شوقي بفلسفة واضحة للأطفال جاءت استجابةً لروحية الطفل وعفويته حتى أصبحت سحابةً تظلِّلُ أطفالَ العرب في كل مكان(5). فالذي يتتبع نتاج شوقي المعد للأطفال يجد نفسه أمام تجربة ناجحة إلى حد كبير من خلال النصوص التي تتلاءم مع روحية الطفل وذهنيته وسلوكاته اليومية.

       كتب شوقي لصديقه «خليل مطران» الشاعر والأديب، يناشده السير معًا في هذا النوع من الأدب ويأخذ من أسلوب الغرب ونهج العرب، ولكن «مطران» ترك ذاك لشوقي(6) إلا أن ظهور «محمد الهراوي» جعل هذا الأدب يرتفع للأعلى: فقد كتب «سمير الأطفال للبنين» ثم «سمير الأطفال للبنات»، وكتب لهم أغاني وقصصًا منها «جحا والأطفال» و«بائع الفطير»(7).

       وامتدت قامة أدب الأطفال بعض الامتداد على يدي الكيلاني، تتوزع نتاجات الكيلاني، على القصص والحكايات والأناشيد والفكاهة والأساطير والأدب المترجم والأدب الديني وما يتلاءم مع ذوق الشبان(8). يكتب الدكتور «حمدي السكوت» في «قاموس الأدب العربي الحديث»: «كان «كامل كيلاني» من أوائل الذين كتبوا قصص الأطفال في الأدب العربي الحديث. وله إنتاج غزير ومتميز في هذا المجال. وكتاباته تحفل بمهارات رفيعة في القص والصياغة فضلاً عن جودة الموضوعات»(9).

       تطوَّر أدب الأطفال شيئًا فشيئًا. فقد انطلق من خطواتٍ بدائيةٍ، وامتدت قامته بعض الامتداد على يدي شوقي والكيلاني، ليرفد هما «حامد القصبي» بمؤلفاته وإن كانت جل مؤلفاته مترجمةً من الإنجليزية. وأول كتاب للقصبي كان تحت عنوان «التربية بالقصص لمطالعات المدرسة والمنزل». وعلى الرغم من مهنته، فقد كان صاحب ميول أدبية: فهو مهندس حيث قال عند طبعه الكتاب: «لم أتردد أن أنشر بين الناس كتابي هذا عندما تبينت أن الحاجة ماسة إليه، وذلك لأني في مطالعاتي للكتب الإنجليزية عثرت على عدد كبير من القصص التهذيبية التي تتضمن الحكمةَ والموعظةَ الحسنةَ في اسلوب شائق وعبارات خلابة، يقصد بها إلى تربية للناشئين تربيةً خلقيةً قويمةً. فعولت على ترجمتها، لأعطي فيها صورة واضحة لطالبات مدارسنا وطلابها الذين يفيدهم هذا النوع من التهذيب، خصوصًا أن كتب المطالعة العربية التي تتناولها الأيدي الآن خلو من كثير من أمثال هذه القصص. وقد توخيت في الترجمة الاحتفاظ بروح القصة، غير مقيد بالالتزامات الأخرى لتأخذ القصة صبغتها العربية الخالصة التي تلائم الذوق السليم»(10).

       إن نتاجات الأدباء المذكورين وغيرهم جعل لمصر السبق في أدب الأطفال وطباعة الكتب الخاصة بهم، وأما البلدان العربية الأخرى ففي لبنان ظهر كتاب اهتموا بأدب الأطفال، وعلى رأسهم «كار من معلوف» وظهرت مجلات مصورة بعنوانات مختلفة: «بوناز» (1900)، «سوبرمان» (1964)، «الوطواط» (1966)، «طرزان» (1967)، «لولو الصغيرة» (1971)، «طارق» (1972)(11).

       وفي مرحلة الستينيّات، برزت حركة نشطة تعتني بمطبوعات الأطفال من خلال «دارالفتى العربي»، هذه الدار التي كان لكثير من الكتاب الدور البارز في إدامتها ونهضتها، منهم «زكريا تامر» الذي كتب حوالي مئة قصة للأطفال أثارت ضجة عالمية بفنها وتعابيرها عندما ترجمت إلى اللغات الأجنبية. وقد أصدر مجموعته التي بهرت بجمالها وعمقها وثراتها القراء الأجانب والعرب(12).

       ومن الكتاب العرب في سوريا الذين رفدوا المكتبة بنتاجاتهم الشعرية والنثرية للأطفال «عادل أبو شنب» و«سليم بركات»، و«سليمان العيسى» الذي أصدر عدة مجاميع أدبية تخص الأطفال منها: «ديوان الأطفال»، وهو ديوان يتألف من خمسة وثلاثين نشيدًا وخمس مسرحيات والمستقبل (مسرحية غنائية) والنهر (مسرحية غنائية) وأناشيد الصغار – القطار الأخير.

       حدد الشاعر «سليمان» موقفه من شعر الأطفال حينما عرفه بإجابته على سؤال عصفورة تحاوره وهي تقف على نافذة بيته في دمشق وهو يكتب. فقال وهو يجيبها: ماذا تعني بالشعر الحقيقي؟ رفعت رأسي عن الورقة، وقلت لها: أعني الشعر السهل الصعب، القريب البعيد في وقت واحد… سهل؛ لأن الصغار يغنّونه يحفظونه في الحال، وصعب؛ لأن بعض معانيه وصوره تظل غامضةً، بعيدةً عن مداركهم بعض الشيء. وقد تعمدت هذه السهولة الصعوبة في شعر الأطفال وسميتها: المعادلة الشعرية الجميلة، معادلة أبذل جهدًا كبيرًا كي احققها في كل نشيد، بل كل بيت أحيانًا، على قدر ما أستطيع(13).

       حاول في سوريا أدباءُ أدب الأطفال أن يوفّقوا فيه بين فلسفة الإبداع والأهداف والغايات التربوية.

       يرى بعض الباحثين أن أدب الأطفال في الأردن بدأ حقيقةً مع صدور مجلة «سامر عامر» (1979)، وأهميتها تكمن في استقطابها لعدد من البارزين أمثال الشاعر «أحمد حسن أبو عرقوب» الذي كتب بعضَ الأناشيد والقصص، والشاعر «محمد القيسي» والشاعر «إبراهيم نصر الله»، و«محمد شقير» و«مفيد نحلة» و«جمال أبو حمدان» و«فخري قعوار». وهؤلاء من كتاب القصة المتميزين(14).

       وكذلك ظهر في فلسطين بعضُ الأدباء المهتمين بالطفولة والأطفال أمثال الشاعر الباحث «علي الخليلي» الذي أصدر مجموعات شعريةً عن الأطفال و«عبد الرحمن عباد»، له مجموعاته «ذاكرة العصافير» و«ذاكرة الزيتون» و«ذاكرة النخيل» و«ذاكرة البرتقال»، وهي عبارة عن قصص تحكي الحياة بأصوات النباتات والطبيعة والإنسان الذي يعيشها.

       وفي العراق ظهر الاهتمام بالطفولة مع الشاعرين الكبيرين الرصافي والزهاوي، وكلاهما له ثقافته الخاصة، أنهما كتبا أناشيد وقصائد تحاكي الطفولة وحياتها وتدعو إلى إصلاحها وتطورها. وفيما بعد، ظهر جيل من الأدباء المهتمين بالأطفال، وكان ذلك بعد ثورة تموز 1968؛ إذ أصبح الاهتمام بالطفل واضحًا، بل هُيِّءَ له في إطار فلسفةٍ خاصةٍ تهدف إلى خلق جيل ناشئ حسب فلسفةٍ وطنيةٍ قوميةٍ مؤكدةٍ. لقد وضعت الحكومة خطةً شاملةً دخلت حيز التنفيذ في عام 1968 بإنشاء المكتبات الخاصة بالأطفال ودور الحضانة والرعاية الاجتماعية. من هنا ظهرت النوادي الترفيهية ومدارس الفنون التي تعتني بالشباب ومواهبهم بعد أن يحتضنوا في مرحلة الطفولة، وكذلك ظهرت البرامج والمسلسلات الإذاعية والتلفزيونية كي تقدم ما يتلاءم روحية الطفل وفكره ونفسه، وكذلك المجلات والصحف الخاصة بالأطفال وأدبهم. فقد ظهرت جريدة خاصة باسم «مزمار» (1970) وقبلها مجلة بعنوان «مجلتي» (عام 1967). وهذا لا يجعلنا نهمل ما تصدره «دار ثقافة الأطفال» من مجلات وقصص تحكي ما يكون قريبًا للأطفال بأسلوب مشوق وبطبعات عالية الجودة جاذبة لروحية الطفل.

       وفي دول الخليج العربي الأخرى، نجد اهتمامًا بالأطفال؛ إلا أنه متفاوت من مكان إلى آخر حسب الظروف والإمكانات المتاحة. ففي الكويت ظهرت مجلة «سعد» (عام 1969)، وهي تعنى بشؤون الأطفال وهمومهم وقصصهم وحكاياتهم. وفي البحرين ظهر بعض الأدباء ممن اهتموا بشؤون الطفل العربي واحتياجاته الأدبية، كـ«عبد القادر عقيل» و«فوزية رشيد» و«حمدة خميس» وغيرهم، أنّهم ينظرون إلى الكتابة للأطفال بصفتها ضرورةً من ضرورات المجتمع وتطوره ومكانته بين المجتمعات الأخرى. وهذا ما أكده «حمدة خميس» في مقولة له عن أدب الأطفال: «إنه لو تراجع كثير من الكتاب عن الكتابة للأطفال وأصبحت الفكرة مجرد حماس، فإن أدب الأطفال سيفرض نفسه عند أكثر الأمم»(15).

       وأما في المملكة العربية السعودية، فقد حظي أدب الأطفال بنصيب وافر من الاهتمام، وبالذات في العقود الأربعة الأخيرة، من المهتمين بالأطفال وأدبهم، «عزيز ضياء» و«إسحاق يعقوب» و«عبده خال» و«عبد الرحمن المريخي» و«علوي الصافي» و«خالد بن عبد الله». وظهر المجلات مثل مجلة «حسن» التي صدرت عن دار عكاظ، ومجلة «الجيل الجديد» التي صدرت عن الرعاية العامة لشؤون الشباب، ومجلة «الشبل» ثم الصحف المحلية التي تفرد صفحات لأدب الأطفال يتناوب على كتابتها وتحريرها كتاب مبدعون ومختصون في أدب الأطفال. وأعدت أطروحات جامعية عن أدب الأطفال في المملكة لنيل الشهادات العلمية العالية، تقدمت الباحثة «آمال عبد الفتاح الجزائري» برسالة لنيل درجة الماجستير في موضوع «قصص الأطفال في المملكة العربية السعودية منذ عام 1379هـ إلى عام 1410هـ». وقد رصدت الباحثة إنتاج القصص الموجهة للطفل في المملكة وتتبعت مراحله وبينت أنواعه واتجاهاته وأهدافه وكشفت عن ملامحه الفنية(16).

       وظهر في «ليبيا» كاتبان اهتما بالأطفال وقصصهم هما «يوسف الشريف» و«محمود فهمي»، إذ أصدرا قصصًا ليبيةً للأطفال، منها قصة «الراعي الشجاع»، وهي من القصص المحببة للأطفال. وساهم الكاتب «محمد الزكرة» إسهامًا لا بأس به في الكتابة للأطفال في ليبيا.

       وكذلك وجه الأدباءُ «في تونس» وجهتهم إلى الكتابة للأطفال، كتب «محمد العروسي» كثيرًا من القصص الناجحة، منها «أبو نصيحة». وكتب «القاضي الجيلاني» قصةً للأطفال بعنوان «بوشنب»، وهي فازت بجائزة بلدية تونس، وترجم أحمد القديدي قصصًا كثيرة ومتنوعة من الآداب العالمية.

       وفي الجزائر أصدرت «الشركة الوطنية للنشر والتوزيع»كتب الأطفال باسم «سلسلة الأدب» كـ«سبّور» وغيرها. والذي ينظر في الأدب العربي المعد للأطفال في المغرب العربي الكبير يجد أنه تأخر بعض التأخُّر عن العراق ومصر والشام، وذلك لأسباب عدة متداخلة تتمثل في محاولة الاستعمار طمس الهوية الثقافية والوطنية والقومية للشعب العربي في المغرب الكبير.

       من هنا نرى أن جل الدول العربية قد ساهمت مساهمةً فعالةً في تطوير أدب الأطفال، وإن لم تكن الدول متساويةً في الرؤى والتوجهات وتحقيق الأهداف.

       وهنا يجمل بنا أن ندرس القصة من أنواع أدب الأطفال بعد ان درست الشعر في دراسة أخرى عنوانها «الشعر للأطفال في الأدب العربي الحديث» وبين يدي مجموعة «القصص العلمية» لكامل كيلاني، كاتب وأديب مصري، اتخذ من أدب الأطفال دربًا له، فَلُقِّبَ برائد أدب الطفل، قدّم العديد من الأعمال العبقرية الموجهة إلى الطفل، وترجمت أعمالُه إلى عدة لغات منها: الصينية، والروسية، والإسبانية، والإنجليزية والفرنسية، ويُعدّ أول من خاطب الأطفال عبر الإذاعة، وأول مؤسس لمكتبة الأطفال في مصر.

       تشتمل المجموعة على عشر قصص: أصدقاء الربيع، زهرة البرسيم، في الاصطبل، جبارة الغابة، أسرة السناجيب، أم سند وأم هند، الصديقتان، مخاطرات أم مازن، العنكب الحزين، النحلة العاملة، ومضمون بعضها كما يلي:

       – زهرة البرسيم: بطلة هذه القصة أرنبة تدعى «زهرة البرسيم» تعيش مع أبويها وإخوتها، وكانت الأم مريضةً والأب يقوم برعاية أبنائه، وفي يوم خرج الأب مع أولاده نحو حقل برسيم، وفضلت «زهرة الرسيم» البقاء مع أمها المريضة وراحت الأم تروي لإبنتها قصةً قديمةً لابنها البكر «أبو نبهان» حيث خرج دون أن يستشير أحدًا، فقبضت عليه البومة وافترسته، ثم يقدم المؤلف تعريفًا للبومة وخطرها، ثم تدخل قصة جديدة في سياق النص عن أرنبين صغيرين قويين «قانع ومانع».

       – جبارة الغابة: هبت عاصفة عنيفة، اقتلعت شجرة بلوط عتيقة من جذورها فحزنت حيوانات الغابة، وخاصةً طيورُها التي كانت تأوي إليها وتنقذها من الأخطار، وراح غراب عجوز يروي قصة الشجرة العتيقة. ويبدأ المؤلف بشرح حياة شجر البلوط، ومعاناته في بدء نموه حتى يتحول إلى أشجار كبيرة عظيمة.

       – العنكب الحزين: هذه القصة تدور على السنة ثلاثة أبناء: صفاء وسعاد ورشاد، (وهي أسماء أبناء المؤلف)، حيث يرى «صفاء» عنكبة وبيتها الجميل، وتتداخل القصص في ثناياها عن فوائد التعلم من العناكب، ويذكر «صفاء» قصة الصياد الذي تعلم صنع الشباك من العناكب، وقصة العنكبة والملك الذي تعلم منها الصبر، ثم يدور حديث بين الإخوة الثلاثة مع العنكبة، فتخبرهم أنها أنقذت «رشاد» من لسعة حشرة سامّة، ثم راحت تخبرهم عن حياتها وطبيعة حياة العناكب وعندما يعود الإخوة إلى بيتهم، يخبرون الأب بما جرى بينهم وبين العنكبة، فيحضر كتابًا ويطلب من «صفاء» قراءة فصلٍ منه عن بيت العنكبوت.

       وبعد دراسة هذه المجموعة للقصص العلمية لكامل كيلاني يصل الباحث إلى نقاط تالية:

       – وضع الكيلاني منهجًا محددًا قائمًا على رؤية نقدية تربوية أخلاقية علمية شاملة، ولم يكن عمله مجردًا مائلاً إلى الهوى، بل كان مركزًا وفاعلاً.

       – قسم الكيلاني أعماله بحسب مراحل الطفولة، وإن لم يحدد سنًا معينة في جميع كتبه باستثناء مجموعة واحدة.

       – تمكن الكيلاني من لفت اهتمام الباحثين قديمًا وحاضرًا إلى أهمية أدب الأطفال، وهذا دليل على مكانته في زمانه وما بعده.

       – توجه الكيلاني في كثير من كتاباته إلى أطفاله، ومنهم إلى الأطفال العرب كافة، وفي ذلك صفاء في النية، واهتمام بالشكل والمضمون.

       – وعى الكيلاني أهمية تشكيل جميع حروف الكلمات في القصص لما في ذلك من تقويم للسان الطفل، وتعويده على النطق السليم في وقت فشت فيه العامية وضعف مستوى تحصيل الأطفال للغة.

       – حرص الكيلاني على تقديم أنماط عديدة من القصص، استخدم فيها مستويات لغويةً مختلفةً بحسب السن التي توجه إليها كل قصة.

       – كانت الناحية الترفيهية الترويحية تسير جنبًا إلى جنب مع النواحي العلمية، بحيث لم تطغ واحدة على أخرى، حتى في القصص العلمية التي كان يستخدم فيها الكلمات المنغمة، والجمل الرشيقة والتعابير الأخاذة.

       – قدم الكيلاني مثالاً واقعيًا لمن يريد الارتقاء بمستوى الطفل لغويًا، فقد كان حريصًا على استخدام كلمات ومفردات وأساليب متطورة، وهي في الوقت نفسه متأصلة في اللغة، وكان يحرص على تقديم مفردات جديدة في كل قصصه، ويحرص على تكرارها، وشرحها، واستعمالها في حالات مختلفة حتى يطمئن إلى رسوخ الكلمة ومعناها في عقل القارئ الصغير وقلبه، مع تحفظنا على طريقة الشرح ووجود بعض المفردات الصعبة.

       – مع كل أهداف المؤلف العلمية والتربوية كان حضور الخيال فاعلاً، ولم يتأثر الجانب الدرامي باستثناء حالات بسيطة، وقد كانت الصور الخيالية المتتابعة تسحر القارئ، لما يتميز به المؤلف من قدرة تصويرية فائقة تجعله رائدًا في هذا المجال أيضًا، وهذا يجعل قضية الصورة في قصص الكيلاني مجالاً خصبًا مفتوحًا للدراسة.

       – أغرق المؤلف قصصه بالاقتباس القرآني.

       – وظف الكيلاني بعض العبر والأمثال لتحقيق أهدافه التربوية.

*  *  *

الهوامش

(1)       علي الحديدي، الأدب وبناء الإنسان، جامعة ليبيا، 1973، ص:230.

(2)       ….، في أدب الأطفال، ص:243.

(3)       طه حسين، حافظ وشوقي، ط4، مكتبة الخانجي، مصر، 1958، ص:100.

(4)       أحمد شوقي، الشوقيات، «المقدمة»، دار الكاتب العربي.

(5)       كمال نجدي، مجلة الهلال، العدد11، السنة 76، أول أكتوبر 1968.

(6)       الطفولة في الشعر العربي الحديث، ص:110.

(7)       هيفاء شرايحة، أدب الأطفال ومكتباتهم، ط2، المطبعة الوطنية ومكتبتها، عمان، ص:29.

(8)       المصدر السابق، ص:31.

(9)       الدكتور حمدي السكوت، قاموس الأدب العربي الحديث، دارى للشروق، مدينة نصر، القاهرة، مصر 2009م، ص:428.

(10)     حامد القصبي، التربية بالقصص لمطالعات المدرسة والمنزل، «المقدمة»، مطبعة النيل، القاهرة، 1925م.

(11)     عبد الغني عبد الهادي، مجلة التربية، العدد 20، 1977م، ص:66.

(12)     المرجع نفسه.

(13)     سليمان العيسى، ديوان غنوا يا أطفال، ج1، دار العودة للصغار، بيروت، 1978م، ص4-5.

(14)     أحمد المصلح، أدب الأطفال في الأردن، منشورات دائرة الثقافة والفنون، عمان، 1983م، ص:29 وما بعدها.

(15)     علي عبد الله خليفة، كتابات، دارالغد، البحرين 1976، ص:173.

(16)     محمد صالح الشنطي، في أدب الأطفال، المصدر السابق، ص:191.

(17)     أحمد زلط، أدب الطفولة.. أصوله ومفاهيمه، رؤى تراثية، ط4، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 1997م.

(18)     …، أدب الطفولة بين كامل كيلاني ومحمد الهراوي، ط1، دار المعارف، القاهرة، 1994م.

(19)     …، الطفل وأدب الأطفال، مكتب الأنجلو المصرية، القاهرة: 1994م.

(20)     أحمد نجيب، القصة في أدب الأطفال، ط1، دار الحدائق، بيروت، 2000م.

(21)     حسن ملا عثمان، الطفولة في الإسلام، دارالمريخ، الرياض 1402هـ = 1982م.

(22)     سعيد باداؤد، أدب الطفل العربي، ط1، دار سعاد الصباح، الكويت، 2003م.

(23)     صالح ذياب الهندي، صورة الطفل في التربية الإسلامية، ط1، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان، 1410هـ = 1990م.

(24)     محمد حسن عبد ا لله، قصص الأطفال مسرحهم، ط1، دار قباء، القاهرة 2001م.

*  *  *


(*)   الأستاذ المساعد، جامعة راجوري، جامو وكشمير.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ذوالحجة 1435 هـ = أكتوبر 2014م ، العدد : 12 ، السنة : 38

Related Posts