دراسات إسلامية
بقلم: د. حسين عبد الغني سمرة (*)
ثالثًا. ليس الإسلام بدعا من الشرائع في أمر النسخ، وقد شرعه الله جل جلاله لحِكَمِ تشريعية:
النسخ في اللغة: يطلق بمعنى الإزالة، ومنه يقال: نسخت الشمس الظلَّ: أي أزالته.
وفي الاصطلاح: هو رفْع الحكم الشرعي بخطاب شرعي.
وقد تنزلت التشريعات السماوية من الله جل جلاله على رسله لإصلاح الناس في العقيدة والعبادة والمعاملة، وحيث كانت العقيدة واحدة لا يطرأ عليها تغيير لقيامها على توحيد الألوهية والربوبية، فقد اتفقت دعوة الرسل جميعًا إليها: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَآ إِلٰهَ إِلَّآ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء:25).
أما العبادات والمعاملات فإنها تتفق في الأسس العامة التي تهدف إلى تهذيب النفس، والمحافظة على سلامة المجتمع وربطه برباط التعاون والإخاء، إلا أن مطالب كل أمة قد تختلف عن مطالب أختها، وما يلائم قومًا في عصر قد لا يلائمهم في آخر، ومسلك الدعوة في طور النشأة والتأسيس يختلف عن شرعتها بعد التكوين والبناء، فحكمة التشريع في هذه غيرها في تلك، ولا شك أن المشرِّع جل جلاله يسع كل شيء رحمة وعلمًا، ولله الأمر والنهي: ﴿لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ﴾ (الأنبياء:23). فلا غرابة في أن يُرفع تشريع بآخر؛ مراعاة لمصلحة العباد عن علم سابق بالأول والآخر. ومن هنا يُعلم أن النسخ لا يكون إلا في الأوامر والنواهي، سواء أكانت صريحة في الطلب، أم كانت بلفظ الخبر الذي بمعنى الأمر والنهي(39).
والمتأمل يجد أن النسخ بالمعنى السابق موجود في الشرائع السماوية السابقة على الإسلام، كاليهودية، والنصرانية، فنجد أن اليهود يعترفون بأن شريعة موسى ناسخة لما قبلها، وجاء في نصوص التوراة النسخ، كتحريم كثير من الحيوانات على بني إسرائيل بعد حِلِّه، قال جل جلاله في إخباره عنهم: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلّاً لِّبَنِي إِسْرٰئِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرٰئِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْـــلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَٰـةُ﴾ (آل عمران:93). وقال تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ (الأنعام: 146)، وثبت في التوراة أن آدم كان يزوِّج أبناءه من الأخت، وقد حرَّم الله ذلك على موسى، وأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم.
أما بالنسبة للنصرانية، فقد أقرت أيضًا بوجود النسخ، وكَلَّمَ الربُّ موسى قائلاً: «كَلِّم بني إسرائيل قائلاً: إذا حبلت امرأة وولدت ذكرًا تكون نَجِسة سبعة أيام، كما في أيام طَمْث عِلَّتها تكون نجسة، وفي اليوم الثامن يُختَن لحم غُرْلَته، ثم تقيم ثلاثة وثلاثين يومًا في دم تطهيرها، كل شيء مقدَّسٍ لا تَمسَّ، وإلى المقدِس لا تجيء حتى تَكمُل أيام تطهيرها، وإن ولدت أنثى تكون نجسة أسبوعين كما في طَمثها، ثم تقيم ستة وستين يومًا في دم تطهيرها» (اللاويين 12:1-5). وربما كان اليهود يأخذون بهذا إلى اليوم، لكن من الذي نسخ هذا وعدله للمسيحيين الذين لا يفرقون بين من ولدت ذكرًا ومن ولدت أنثى(40)؟!
فمبدأ النسخ إذن لم يكن بدعة محمدية كما يزعمون، بل كان من الأمور التي أقرتها الأديان السماوية السابقة، فهل يقال: إن موسى وعيسى – عليهما السلام – هما اللذان اخترعا مبدأ النسخ لإزالة ما يخالف إرادتهما؟!
الحِكَم التشريعية التي تقف وراء النسخ:
وقع النسخ بالشريعة الإسلامية ووقع فيها؛ بمعنى أن الله جل جلاله نسخ بالإسلام كل دين سبقه، ونسخ بعض أحكام هذا الدين ببعض، وإن لكلا النَّسْخَيْن حكمًا ومقاصد إلهية:
أما حكمته جل جلاله في أنه نسخ به الأديان كلها، فترجع إلى أن تشريعه أكمل تشريع يفي بحاجات الإنسانية في مرحلتها التي انتهت إليها، بعد أن بلغت أَشُدَّها واستوت. أما حكمة الله في أنه نسخ بعض أحكام الإسلام ببعض؛ فترجع إلى سياسة الأمة وتعهدها بما يرقِّيها ويمحِّصها.
وتلك الحكمة على هذا الوجه تتجلى فيما إذا كان الحكم الناسخ أصعب من المنسوخ، كموقف الإسلام في سموه ونبله من مشكلة الخمر في عرب الجاهلية بالأمس، وقد كانت مشكلة معقدة كل التعقيد، يحتسونها بصورة تكاد تكون إجماعية، ويأتونها لا على أنها عادة مجردة، بل على أنها أمارة القوة، ومظهر الفتوة وعنوان الشهامة! فهل كان معقولاً أن ينجح الإسلام في فطامهم عنها لو لم يتألفهم ويتلطَّف بهم إلى درجة أن يمتنَّ عليهم بها أول الأمر، كأنه يشاركهم في شعورهم، وإلى حد أنه أبى أن يحرِّمها عليهم في وقت استعدت فيه بعض الأفكار لتسمع كلمة تحريمه، حين سألوه صلى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر.
أما الحكمة في نسخ الحكم الأصعب لما هو أسهل منه، فالتخفيف على الناس ترفيهًا عنهم، وإظهارًا لفضل الله عليهم ورحمته بهم، وفي ذلك إغراء لهم على المبالغة في شكره وتمجيده، وتحبيب لهم فيه وفي دينه. وأما الحكمة في نسخ الحكم بمساويه في صعوبته، أو سهولته، فالابتلاء والاختبار؛ ليظهر المؤمن فيفوز، والمنافق فيهلك، ليميز الخبيث من الطيب(41).
ويبيِّن لنا الدكتور أحمد منصور آل سبالك حكمة النسخ فيقول: بعد أن تكاثر أبناء آدم وتوزعوا في الأرض جرت حكمة الله جل جلاله ألا يدعهم وشأنهم، وإنما كان يتعهدهم بالأنبياء والرسالات التي – وإن اتفقت في الأصول – تنوعت في الشرائع، والأحكام والفروع، ذلك أن الشرائع قد رُوعِي فيها طبيعة كل قوم، والمرحلة التي يمرون فيها والمصالح التي تخصهم، ومن ثم كان لا بد من اختلاف الشرائع باختلاف الزمان، والمكان، والأقوام.
يقول تبارك وتعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهَاجًا وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً﴾ (المائدة:48)، وبناءً على ذلك كانت الشرائع اللاحقة تنسخ بعض أحكام الشرائع السابقة عليها، كما نسخت شريعة عيسى ابن مريم عليهما السلام بعض أحكام التوراة التي جاء بها موسى عليه السلام والمشار إليها في قول الله تعالى: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ (آل عمران:50).
أما شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فقد جاءت للناس كافة وللبشرية عامة، ومن هنا كانت ناسخة لكل ما تقدمها من الشرائع؛ لأنها الشريعة المتوافقة مع الفطرة. يقول الله جل جلاله: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمْ﴾ (الروم:30).
ولما كان الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام لا يمكن أن يتم طفرة، وبين عشية وضحاها كان لا بد أيضًا من بعض الأحكام الانتقالية المؤقتة في الشريعة الخاتمة، ومن هنا كانت حكمة النسخ في الشريعة الإسلامية.
فعلى الرغم من أن الشريعة الإسلامية نسخت الشرائع السابقة لها، ومع أنها باقية خالدة إلى يوم القيامة، ولا يصح نسخها بشريعة أخرى، فإن مدة نزول القرآن، وهي مدة التحول من الجاهلية إلى الإسلام كان لا بد لها من أحكام خاصة، حتى إذا انتهت هذه المدة انتهى النسخ، ومن هنا كان النسخ خاصًّا بتلك المدة الزمنية التي كان يتنزل فيها الوحي. وبانقطاع الوحي، انقطع النسخ.
وأما الأحكام التي نُسخت في الشريعة الإسلامية، فقد كانت الحكمة في بعضها التدرج في التشريع، وذلك في الأحكام الشاقة على النفوس، سواء أكانت منهيات، كتحريم الخمر والزنا، أم مأمورات كتشريع الصوم والجهاد، وكانت الحكمة في بعضها مراعاة مرحلة الانطلاق والتأسيس التي تحتاج إلى جهد كبير، ومن هنا كان فرض قيام الليل، ووجوب الثبات أمام المشركين، ثم خففت ذلك بعد أن كثر عدد المسلمين، وازدادت قوتهم، فعاد الأمر إلى طبيعته المعتادة، فأصبح قيام الليل سُنة، والوقوف أمام اثنين من المشركين هو الواجب.
وراعى بعضٌ ثالثٌ أمورًا تربوية كنسخ القبلة، ونسخ الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان ذلك اختبارًا لثبات المؤمن وعدم ثبات المنافق، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ﴾ (البقرة:143).
وراعى بعضٌ رابعٌ ظروفًا مكانية أو زمانية، كالقتال في الحرم، أو في الأشهر الحرم، وأمثال ذلك(42).
ومما لا شك في أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم والتابعين من بعدهم كانوا على درايةٍ تامةٍ بالناسخ والمنسوخ، حتى يمكنهم العمل بما هو متأخر، سواء كان في القرآن الكريم، أو في السنة النبوية الشريفة، ولم يكن ذلك إلا ضمن قضايا تفسير القرآن الكريم، ولذا ورد النهي عن أن يتحدث في تفسير القرآن الكريم من لا يعرف ناسخه من منسوخه، على أن كل من تعرض لتفسير القرآن الكريم كان يتعرض لقضية النسخ، وكذلك الذين كتبوا في أصول الفقه كانوا يتعرضون لذلك أيضًا(43).
مما سبق يتضح لنا أن من أهم حِكَم النسخ:
- مراعاة مصالح العباد.
- تطور التشريع إلى مرتبة الكمال حسب تطور الدعوة وتطور حال الناس.
- ابتلاء المكلَّف واختباره بالامتثال وعدمه.
- إرادة الخير للأمة والتيسير عليها؛ لأن النسخ إن كان إلى أشق ففيه زيادة الثواب، وإن كان إلى أخف ففيه سهولة ويسر(44).
وبهذا يتبين لنا أن القرآن الكريم وحي من عند الله جل جلاله، وليس للنبي صلى الله عليه وسلم دَخْل فيه، وأن النسخ كما وقع في الشريعة الإسلامية فقد وقع في الشرائع السابقة للإسلام، فليس الإسلام بدعًا في ذلك، وكان تحويل القبلة بأمر من الله جل جلاله، إلا أن اليهود لحقدهم وغيظهم أخذوا يروجون الادعاءات والأباطيل حول هذا الحادث العام في تاريخ الإسلام.
الخلاصة
- لا ينطق النبي صلى الله عليه وسلم عن هواه؛ فأقواله وأفعاله كلها مستندة إلى وحي إلهي، وليست الأحكام المنسوخة والناسخة التي جاء بها – إلا جزءًا من تعاليم الإسلام التي بلَّغها صلى الله عليه وسلم كلها عن ربه جل جلاله، ولو كان النسخ من اختراعه صلى الله عليه وسلم كما يزعم الزاعمون لما أبقى على بعض الآيات المنسوخة تُتْلى جنبًا إلى جنب مع الآيات الناسخة.
- لا دخل للنبي صلى الله عليه وسلم في حدث تحويل القبلة، وما كان هذا التحويل إلا بوحي منه جل جلاله إليه صلى الله عليه وسلم، وغاية ما هنالك أنه جل جلاله أمر، فامتثل النبي صلى الله عليه وسلم له، ثم إن ثمة حكمًا إلهية كثيرة وقفت وراء هذا الحدث.
- ليس الإسلام بدعًا من الشرائع في أمر النسخ، وذلك أنه كان موجودًا في الشرائع السماوية السابقة، فهل يقال: إن موسى وعيسى – عليهما السلام – هما اللذان اخترعا مبدأ النسخ؛ بُغية إزالة ما يخالف إرادتهما؟!
(للمزيد انظر: موسوعة بيان الإسلام، نشر نهضة مصر، وموقع: بيان الإسلام: الرد على الافتراءات والشبهات).
* * *
(*) رئيس قسم الشريعة بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة.
(39) مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مرجع سابق، ص223: 225 بتصرف.
(40) محمد مؤسس الدين الإسلامي ومؤسس إمبراطورية المسلمين، جورج بوش، ترجمة: د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ، دار المريخ، الرياض، ط2، 2004م ص71 المقدمة.
(41) مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، الرياض، ط1، 1417هـ/ 1996م، ج2، ص154، 155 بتصرف.
(42) البرهان على سلامة القرآن من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، د. أحمد منصور آل سبالك، معهد علوم القرآن والحديث، القاهرة، ط1، 1427هـ/2006م، ص194، 195.
(43) نظرية النسخ في الشرائع السماوية، د. شعبان محمد إسماعيل، دار السلام، القاهرة، د1، 1408هـ/1988م، ص162.
(44) مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مرجع سابق، ص 232
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1435 هـ = سبتمبر 2014م ، العدد : 11 ، السنة : 38