إشراقة

       طلاقة الوجه والتبسّم في وجوه الناس، ولاسيّما الذين يبدو أنهم يواجهون لسبب من الأسباب يومًا عصيبًا اليوم، هو الاستثمار الذي لا يفشل أبدًا؛ لأن الحُنُوَّ عليهم واللطف بهم معنى عظيم من معاني الإنسانيّة لا يَعْدِلُه أيّ منها – معاني الإنسانيّة – حيث إن الإنسان به يتّصف بالإنسانية الصحيحة، ويستحق أن يُدْعَىٰ إنسانًا.

       وذلك ما علّمه نبيُّ الإسلام محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم – أمّتَه وحضّها على التحلّي به والصدور عنه في التعامل مع أبناء المجتمع البشري؛ ففي حديث رواه مسلم عن أبي ذرّ – رضي الله عنه – قال: قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق» (رقم الحديث: 2626). وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ» [رواه البخاري (10/359، 360) ومسلم (2319)]. وعن جرير بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من لا يَرْحَمِ النَّاسَ لا يَرْحَمْهُ الله» [رواه البخاري (13/303) ومسلم (2319)].

       من المستحيل الذي لايجوز التصدّي له أن نعرف بالضبط ما هو شعور شخص آخر أو أي نوع من المشاعر أو المعارك العاطفية تعروه فيخوضها عن قوة أو ضعف، وقد لا تدرك ألبتّةَ أن أوسع الابتسامات تخفي رقّةَ خيوط الثقة بالنفس؛ وكذلك قد لا تدرك بحيلة ما أنّ «الغنيّ» المتقلب في أعطاف النعيم و وسائل المادة والمعدة قد يملك كل شيء عدا السعادة التي يبحث عنها في كل مَظَنَّة، ويطلبها بكل حيلة، ويحاول أن يجدها بكل ما عنده. قد لا تدرك ذلك إلاّ بعد ما تتفاعل مع الآخرين من أخلاط أبناء المجتمع البشري الذين تَتَوَزَّعُهم أنواعٌ لا تُحْصَىٰ من الهموم والآمال والآلام. إنّه قد يكون أنّ كلّ ابتسامة أو علامة على القوة تخفى صراعًا داخليًّا مُعَقَّدًا متشابكاً للغاية كالحرب المُعَقَّدَة غير التقليديّة وغير العاديّـة التي يخوضها أحيانًا أيّ إنسان يعيش الحياةَ ويتعامل مع النواميس والسنن الكونيّة التي لا يَكْتَنِهُ حكمتَها إلاّ اللهُ العليُّ القديرُ العليمُ الحكيمُ.

من الحقائق الصارخة في هذه الحياة أن كل واحد منّا نحن البشر تحتلّه مجموعةٌ عميقة واسعة فريدة من نوعها من الأسرار والألغاز التي لايمكن اكتشافها من قبل أي فرد من البشر بأي أسلوب من أساليب التقعير والاكتناه والتفرّس.

       إنّ الإنسان مهما جمع من المال والوسائل المادية بأنواعها القدرَ الذي لا يحصيه عادٌّ، فإنه ربما يكون مُعَرَّضًا لنوع من الشقاء والصراع الداخلي المرير الذي لايقدر على علاجه نطاسيٌّ من الأطبّاء؛ لأن علاجه ينحصر في التراحم والمواساة المتبادلة والحنوّ الذي يتقاسمه أفرادُ المجتمع البشري فيما بينهم عندما يكونون متمتعين بالإنسانية في أصحّ معانيها وأسمى إشاراتها، التي تُشَجِّع الإنسان أن يعايش الإنسان وتمنعه من فقد الثقة به، ومن اليأس والقنوط من مستقبل الإنسانيّة، ولا تجعله يُفَكِّر جِدِّيًّا أن يصاحب الحيوانات والبهائم في الغابات والفلوات حتى يجد منها مالم يجده من المجتمع الإنساني الواسع من الأنس والإلف، وحتى ينجو بها – الحيوانات والبهائم في الغابات – من الأذى القارص الذي لم يسعه أن يحتمله منه – المجتمع الإنساني – .

       العطفُ والحُنُوُّ على أحد وشُمُولُه بالمواساة والكلمة الطيّبة لدى قساوة الظروف وبطش الأوضاع به، يجعله يصير مستعبدًا لصاحبه – العطف الخ – إنك ربما لا يسعك أن تكسب أحدًا بثمن ماديّ مهما كان عاليًا غاليًا مرتفعًا؛ ولكن بوسعك أن تشتريه بثمن الخلق الطيب، ولين الجانب، وابتسامة حلوة تلاقيه بها في يوم صار عصيبًا عليه؛ حيث إنه سيشعر عندها أنه غَمَرتْهُ السعادةُ التي كان يفقدها وكان لايجدها حتى في القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والأرصدة الكبيرة من المبالغ المُودَعَة له لدى المصارف، والأموال الطائلة المُسْتَثْمَرَة في التجارات الواسعة والأعمال المتنوعة والمصانع الصغيرة والكبيرة؛ وفي كثرة الأولاد الذين ثَقَّفَهم ثقافاتٍ عاليةً جلبت لهم حطامَ الدنيا بحذافيره، وخَرَّجْتهم تخريجًا عصريًّا، وجَعَلَتْهم يتناغمون مع الحضارة «المتنورة» الحديثة، وينزلون على مستواها المطلوب، ويستجيبون لمتطلباتها بنسبة مئة في المئة أو بنسبة أكبر من هذه النسبة.

       إن الإسلام دعا دعوةً قويةً مُكَثَّفَةً مُتَّصِلةً إلى إسعاد الإنسان والأخذ بالأسباب التي تجعل المجتمع البشري تغمره السعادة الموفورة؛ حيث إن المادّيّة رَكَّزَتْ على جلب الوسائل المادية، وعَدَّتْها كلَّ شيء في حياة الإنسان، وحَسِبَتْها في استغناء عن الهدي الربّاني أنها هي التي تُسْعِده، وتَجْعَلُه نعيمَ البال، هَنِيءَ الحال، قرير العين، بارد الحشايا؛ فإذا به يشقى بها، وكلما ازدحمت عليه الوسائلُ طال شقاؤه واشتدّ به البُؤْسُ.

       الإنسانُ إنّما يَسْعَد بثلوج النفس، وارتياح القلب، وشِبَعِ الضمير، وطمأنينة البال. وهي الحالة التي لايمكن شراؤها بمجرد المال والثمن المادي، وإنما يتوقف تحقُّقها على ملاءمة الظروف ومعاملة اللطف والعطف والمواساة والحنوّ، والخلق الحسن التي يجدها الإنسان ممن حوله من أعضاء المجتمع الذي يعيش فيه.

       وقد يكون الذي يُسْعِد الشقِيَّ – من أي نوع كان – أسعد الناس؛ لأن إسعاد الخلق هو الطريق المُبَاشِر إلى كسب رضا الله الذي سيُؤَدِّي إلى دخول الجنة بإذنه – تعالى –.

       إن السعادة – وهي كلمة ثَرَّةُ المعاني، شاملة الدلالات – أغلى نعمة يحظى بها الإنسانُ في هذه الدنيا بعد الإيمان الذي هو أصل السعادة ومصدرها ومُعْتَمَدُها؛ لأنها تشمل جميعَ أنواع النعم من الصحة والعافية، والهناء والتوفيق لكل خير، والأمن والسلام، والطمأنينة النفسية، والارتياح القلبي، وطاعة المتبوعين، وبرّ الأولاد، وانقياد الحكّام، والمداومة على ما يُرْضِي الله، والابتعاد عن كل ما يُسْخِطه – تعالى – والمحبوبيّة لدى الخلق، والانجذاب العفويّ إلى فعل الخيرات وترك المنكرات، وإلى كل شيء يُصْلِح المجتمعَ البشريّ وينفع الناسَ، وإلى التحاشي عن كلِّ شيء يُفْسِده – المجتمع البشري – ويضرُّهم – الناس – الخ. وبالعكس من ذلك الشقاء كذلك كلمة جامعة لكثير من الأشياء، تشمل جميع المعاني التي تُضَادُّ السعادة. والسعادةُ إذا تحققت بمعناها الشامل الكامل أدّت إلى دخول الجنة. وبالعكس منها إذا وُجِدَ الشقاء بمعناه فإنه يُؤَدِّي إلى دخول النار – أعاذنا الله جميعًا منها بمنّه وكرمه – وذلك قوله تعالى في محكم تنزيله:

       «فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفيرٌ وَشَهِيقٌ خٰلدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمٰوٰتُ وَالْأَرْضُ إلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا ففي الْجَنَّةِ خٰلِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمٰوٰتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» (هود/106-108).

       وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «من يَسَّرَ على مُعْسِر يَسَّرَ الله عليه في الدنيا والآخرة. واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (رواه مسلم، رقم الحديث: 2699) وهكذا أَصَّلَ الإسلام تفريج الكربـــة عن كل فــرد من المجتمع الإنساني، سواء أ كانت الكربةُ ماديّة أو معنوية. وقد انصبّت جميعُ تعليماته الاجتماعية في قناة الرحمة بالإنسان وتعامله بالخلق الطيب واللطف وحسن الجوار، وتوفير كل ما من شأنه أن يُسْعِده، ويرفع عنه الشقاء من كل نوع، ويزيل عنه أعباء الحياة وأثقالها وأتعابها؛ وفي قناة اجتنابِ كل ما يُكَدِّر صفو الحياة ويُعَسِّرها على فرد من البشر.

(تحريرًا في الساعة 7 من مساء يوم الأربعاء: 22/جمادى الثانية 1435هـ = 23/أبريل 2014م)

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، رمضان – شوال 1435 هـ = يونيو – أغسطس 2014م ، العدد : 9-10 ، السنة : 38

Related Posts