الفكر الإسلامي
بقلم: معالي الدكتور محمد بن سعد الشويعر/ المملكة العربية السعودية
خير مدخل لموضوعنا لأهميته حديث رسول الله الذي رواه عبد الله بن عمر بن العاص (إن لنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزوجك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه) فقد كان في شبابه، ضمن ثلاثة نفر أثقلوا على أنفسهم في العبادة، فهواحد قال سأصوم ولا أفطر أبدًا، والثاني قال: سأقوم الليل ولا أنام أبدًا، والثالث قال: سأعتزل النساء ولن أتزوج أبدًا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما إني أصوم أفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج الساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
ومثل ذلك ما رأته عائشة لامرأة شعثاء غبراء، فلما سألتها قالت: إن زوجي يصوم النهار، ويقوم الليل، فأخبرت عائشة رضي الله عنها رسول الله عن حالها، فأمره أن يصوم ثلاثة أيام، ويقوم ثلاث ليال، والباقي حق لزوجته.
والسبب الذي به أعطى رسول الله الحكم مهما كان طريقه، مراعاة حقوق النفس، والاهتمام بما ينوب الأهل، فلا تُظلم النفس بتحميلها فوق طاقتها، وإن قدرت مع فورة الشباب، فإن الأيام تضعف الهمم، لأن الدين يسر لا عسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه.
ونجد من ذلك قاعدة مكينة، في الدور الذي يجب على كل شاب أن يأخذه، إبان طاقته وفورة قدراته، أن يكون وسطاً لا يميل يمينًا، ولا يتجه يسارًا؛ لأن الله جعل هذه الأمة وسطاً، في جميع أمورها، حتى يكون عمل الشباب موزونًا ومعتدلاً، وينطلق في جميع شؤونه من قادة دينية، في الأعمال، وآداب شريعة الله في التعامل.
فدين الإسلام دين رحمة وتسامح، ومودة وألفة، تحرص تعاليمه على صفاء النفوس، وحتى تكون أيها الشباب في مجتمعك نافعًا.
انطلق من قاعدة: عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، فلا ضرر ولاضرار، فتصفو النفوس عند التلاقي ويبتعد الغل والحسد والأثرة، هذه خصال تورث التباعد والجفاء، والكراهية وسوء الطوية، وغيرها من خصال تتنافى مع صفاء النفوس، وليكن تعاملك – خلقًا لا تكلف فيه – مع الآخرين، بدءًا بالأبوين ومن حولك، بما تصفو به النفوس، ويزيد الوحشة.
ومن بشاشة في الوجه عند اللقاء، وصدق في القول عند الحديث، ومودة ورحمة عند التعامل.
وهي آداب تدعو إليها تعاليم دين الإسلام، تصافيًا ومودة بين أبنائه، فينشأ الود والتسامح، كما في هذا القول الكريم (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم وأرزاقكم، ولكن يسعهم لين الكلام، وبشاشة الوجه) واعتبر صلى الله عليه وسلم (تبسمك في وجه أخيك صدقة، وإماطة الأذى من الطريق صدقة، وتعين محتاجًا فتحمل بعض متاعه صدقة) وما أكثر الصدقات التي تسجل في صحائف الأعمال، وهي خفيفة وسهلة، ومدارها صفاء النفوس التي مكاسبها عظيمة.
فالشباب عندما يتأدب بتلك الآداب التي تأدب بها رسول الله، وأخذها عنه الصحابة والعلماء، تتسع دائرتها بالقدوة، وحسن المأخذ، عندما يحرص عليها الشباب، فإنها تورث مجتمعًا تسوده الرحمة والمودة، يقول بعض المفسرين في هذه الآية ﴿إِنَّمَا الْـمُؤْمِنُوْنَ إخْوَةٌ﴾ أي الجميع إخوة في الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم (المسلمُ أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه) وفي الصحيح (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) وفيه أيضًا (إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين ولك مثله). فهي أرباح ومكاسب مع صفاء النفوس، والحرص على العمل، تتضاعف ويكبر رصيدها.
فهذه النصوص تعتبر بابًا، يلج معه أبناء المسلمين لمورد الخلق الحسن، وتنمية المكارم والمحامد، فيما بينهم: بالقول والفعل؛ لأن رسول الله جاء بمكارم الأخلاق، وقال (ذهب حسن الخلق بجماع الخير). والشباب حتى يؤثروا في مجتمعهم فإن عليهم دورًا مهمًا، ورسالة عميقة في أثرها، ولا يكلفهم هذا الأمر لا مالاً ولا تعبًا جسمانيًا، وإنما امتثالاً في النفس، ووقارًا في المجتمع، ورزانة مع الصدق في القول، ومحافظة على الشعائر في وقتها. ومع تلك الخصال تتقارب النفوس للصفاء، والأفئدة تتحرك للتواصل وحسن التعامل، خالية من الغش، ومتجافية عن الضغينة، لإخوانهم المسلمين، تعاملاً فيما بينهم؛ لأن الإسلام هو الدين الحق، وتعاليمه هي التي خلق الله الثقلين ليؤدوا حق الله فيها، إنقيادًا وطاعة بنفوس مطمئنة، راضية مستجيبة، يقول سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُوْنِ﴾ فأحسن أيها الشباب الاستجابة ليكون لك دورًا في التأثير.
وما ترسخ هذا الدين في أعماق قلوب الصفوة من هذه الأمة، ودخل معهم الناس فيها، إلا لإعجابهم بخصاله الحميدة، حيث رأوا من الممتثلين له مكارم الأخلاق، والإنصاف عن النفوس، فلا يتعدى شخص على آخر، ولا يعلو شريف على طريق، ولايتسلط رجل على امرأة، فيسلبها حقوقها، فبتلك الخصال استحقوا الخيرية ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ الآية، وفي السباب خير الأمل بأن يقتفوا الأثر، ليجددوا المسيرة بالقدوة كما قال الشاعر:
فتشبهوا إن لم تكونوامثلهم
إن التشبــه بالكرام فـلاح
وهذا يكون بنفوس صافية، تنمو معها المحبة، والرغبة في النصح والصدق، ومع التضافر والقدوة الصالحة تموت الأثرة. وعكس ذلك التعدي والتعالي، على الحقوق بالتسلط، وأقل ذلك ما يصدر عن بعض الناس، بفلتات اللسان التي تحرك الضغينة ليتركوا أثرًا في البيئة؛ لأن رابطة الدين هي أمكن الروابط، فجمع الله به بين القلوب المتنافرة والنزعات المختلفة، يقول سبحانه: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ سورة الأنفال:63).
وتدرك من ذلك أيها الشاب أن أساليب التعامل بين الناس لها مصلحتان: دينية ودنيوية، والفارق النية والاحتساب، وهذا تعامل مع الله الذي لايخفى عليه خافية، فإذا صدقت النية حسن العمل، ألا ترى أن الطالب عندما يتأدب مع معلمه ويوقره، ويحسن التعامل معه، فإن المصلحتين تبرزان في كل منهما بحسن النية أو سوئها؟ فإن كان المقصد في التودد مع المعلم من أجل نتائج الامتحانات وبكسب منزلة تجعله مفصلاً على زملائه، فهذا أدب مصلحي يتنافي مع مثالية الإسلام، وآدابه، وقد وصف الله المنافقين بذلك، فقال تعالى ﴿فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ (سورة التوبة:58)، ويخشى على من كان هذا عمله نفس المصير.
أما إذا وقرت أستاذك حبًا في العلم، واحترامًا له من أجل علمه، ثم تأدبت أيها الشاب معه، بأدب الأخذ معه، كما يروى عن بعض السلف بقوله (من علّمني حرفًا كانت له عبدًا) وتسابقت مع زملائك في احترام العلم وخدمته، في مجلس الطلب، كما يروى عن بعض أبناء الملوك في هذا.. فهذا هو الصدق في تقدير العلم وحملته، ويهيئ الله معه التوفيق.
ولتدرك أيها الشاب أن من يريد تزكية النفس فلا بد أن يتواضع، ومن تواضع لله رفعه، لأن الإفراط في تزكية النفس أمر غير مستحسن بل يدفع للغرور وتجاوز الحد، يقول الله سبحانه: ﴿فَلاَ تُزَكُّوْآ أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ (سورة النجم:32).
وما ذلك إلا أن للعلم مكانة، وللأخذ عن المعلم آدابًا، يحسن ألا تغيب عن ذهن كل شاب، بل يلزم التخلق بحسن الخلق، ومن ذلك الصبر والتواضع كما قيل (لاينال العلم مستح ولا متكبر).
ويقول الفضيل بن عياض – رحمه الله – ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة، وكان السلف الصالح إذا أرادوا نصيحة أحد، وعظوه سرًا، حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه، فهي نصيحة ومن وعظه على رؤوس الأشهاد فإنما وبخه.
ولكي تكون أيها الشاب نافعًا في مجتمعك، فإن عليك أن تتحلى بمكارم الأخلاق، وأن تكون متواضعًا لين الجانب، كما جاء في أمثال العرب: (لا تكن لينًا فتعصر، ولا يابسًا فتكسر)، يعني عليك بالوسطية؛ لأن خير الأمور أوسطها.
والرفق ما صار في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه.
وبالرفق والتيسير، واللين والسماحة – كما قيل – تفتح مغاليق القلوب، ويدعى الناس إلى الحق، لا بالعنف والتعسير والشدة والزجر، ولهذا كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (بشروا ولا تنفروا، ويسّروا ولا تعسّروا) رواه البخاري في صحيحه، يقول أحد المستشرقين، لو طبق المسلمون تعاليم دينهم قولاً وفعلاً، لانقادت أوروبا للإسلام.
فكن أيها الشاب مدركاً لهذا الدور، وداعيًا مصلحًا إليه، فإذا صدقت النيات، هيا الله الأسباب المعينة وصلحت النفوس.
معن يستعطف المنصور:
أراد معن بن زائدة أن يوفد إلى أبي جعفر المنصور قومًا يسلون سخيمته، ويستعطفون قلبه عليه، وقال: قد أفنيت عمري في طاعته، وأتعبت نفسي، وأفنيت رحالي في حرب اليمن، ثم يسخط علي أن أنفقت المال في طاعته.
فانتخب جماعة من عشيرته، من أشراف ربيعة، وكان فيمن اختار مجاعة بن الأزهر، فجعل يدعو الرجال واحدًا واحدًا، ويقول: ماذا أنت قائِل لأمير المؤمنين إذا وجهتك إليه؟ فيقول: أقول وأقول، حتى جاءه مجاعة بن الأزهر فقال: أعز الله تسألني عن مخاطبة رجل بالعراق وأنا باليمن، أقصد لحاجتك حتى أتأتّى لها، كما يمكن وينبغي، فقال: أنت صاحبي.
ثم التفت إلى عبد الرحمن بن عتيق المزني، وقال: شد على عضد ابن عمك وقدمه أمامك، فإن سها عن شيء فتلاقه، واختار من أصحابه نفرا معهما، حتى تموا عشرة وودعهم ومضوا، حتى صاروا إلى ابن جعفر.
فلما صاروا بين يديه تقدموا، فابتدأ مجاعة بحمد الله والثناء عليه، والشكر له، حتى ظن القوم أنه إنما قصد لهذا، ثم كر على ذكر النبي وكيف اختاره الله من بطون العرب، ونشر من فضله حتى تعجب القوم، ثم كر على أمير المؤمنين، وما شرفه الله به وما قلده ثم كر على حاجته في ذكر صاحبه، فلما انتهى كلامه، قال المنصور: أما ما ذكرت من حمد الله، فالله أجل وأكبر من أن تبلغه الصفات، وأما ما ذكرت عن النبي فقد فضله الله بأكثر مما قلت، وأما ما وصفت به أمير المؤمنين فقد فضله الله بذلك، وهن معينه على طاعته إن شاء الله، وأما ما ذكرت من صاحبك فكتبت ولؤمت، ثم أمر المنصور بإخراجهم. قال: صدق أمير المؤمنين، ووالله ما كذبت في صاحبي.
فأخرجوا فلما صاروا إلى آخر الإيوان، أمر برده مع أصحابه، فقال: أعد ما ذكرت، فكر عليه الكلام، حتى كأنه في صحيفة يقرؤه، فقال له: مثل القول الأول، فأخرجوا حتى برزوا جميعًا، وأمر بهم فوقفوا، ثم التفت إلى من حضره من مضر فقال: هل تعرفون فيكم مثل هذا؟ والله لقد تكلم حتى حسدته، وما منعني أن أتم على رده إلا أن يقال: تعصب عليه؛ لأنه ربعي، وما رأيت كاليوم رجلاً أربط جاشًا ولا أظهر بيانًا، رده يا غلام.
فلما صار بين يديه، أعاد السلام وأعاد أصحابه، وقال له: أقصد لحاجتك وحاجة صاحبك، فقال: يا أمير المؤمنين، معن بن زائدة عبدك وسيفك وسهمك، رميت به عدوك فضرب وطعن ورمى، حتى سهل ما حزن، وذل ما صعب، واستوى ما كان معوجًا من اليمن، فأصبحوا خولاً لكم، فإن كان في النفس هنة من ساع أو واش أو حاسد، فأمير المؤمنين أولى بالتفضل على عبده. فقبل وفادتهم، وقبل العذر من معن، وصرفهم إليه.
(تاريخ الطبري:9/295).
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الثانية – رجب 1435 هـ = أبريل – مايو 2014م ، العدد : 6-7 ، السنة : 38