دراسات إسلامية

بقلم: د. حسين عبد الغني سمرة (*)

الوحي الإلهي أهم عنصر يُميِّز شخصية النبي أو الرسول عن غيره من سائر البشر، وهو أكبر الدعائم التي ترتكز عليها حقيقة النبوة، بل لا نبالغ إذا قلنا: إن الوحي هو أصل الأديان السماوية وجوهرها، ولِمَ لا، وهو كلمة الله – جل جلاله – إلى خلقه ليخرجهم من الظلمات إلى النور.

       ولا شك أن المهمة الكبرى التي من أجلها بعث الله الأنبياء والرسل هي تبليغ هذا الوحي إلى العباد من غير زيادة ولا نقصان، ولا تبديل ولا تغيير: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلٰغُ﴾ (المائدة:99) ولا تقف مهمة الرسل عند حد بيان الحق وإبلاغه، بل عليهم دعوة الناس إلى الإيمان برسالتهم، والاستجابة لها، وتحقيقها قولاً وعملاً.

       هذا، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم نبي الإسلام بدعًا من الأنبياء والرسل – عليهم السلام – في شيء من ذلك، بل كانت مهمته أثقل، ومسؤوليته صلى الله عليه وسلم أضخم من غيره من الأنبياء والرسل.

       ولا عجب في ذلك، فقد اصطفاه الله جل جلاله برسالته، واختصَّه بنزول الوحي عليه، وكلَّفه بتبليغ وحيه ورسالته الخاتمة إلى الخلق أجمعين، واختصَّه دون سائر الرسل بعالمية رسالته ودوامها إلى يوم الدين. فيا لها من مهمة! ويا لها من مسؤولية!

       ومنذ أن بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالامتثال لتكليف ربه، والجهر بدعوة الإسلام وتلاوة ما أُوحي إليه من قرآن على الناس، أدرك أعداؤه خطورة هذاالوحي القرآني على تقاليدهم البالية، وأطماعهم الدنيويَّة، فاتخذوا منه هدفًا لسهامهم وخناجرهم المسمومة، واجتهدوا بكل الوسائل لهدمه، لعل صرح الإسلام ينهار على إثره، إذا الوحي هو أساس الإسلام، فإذا انهار انهار – بلا شك – الإسلام.

       ومن ثم وجدناهم قد كثَّفوا حملاتهم وهجماتهم المغرضة على الوحي المحمدي، وبذلوا قُصارَى جهدهم في إثارة الشبهات حوله؛ لنفي إلهيته، وحاولوا بشتى الطرق إثبات أنه نتاج بشري، وليس من عند الله تعالى، فافترضوا كل الاجتمالات – التي لا تستند إلى دليل واقعي أو عقلي – التي يمكن أن تصل بهم إلى هذه النتيجة الجائرة، معرضين بذلك عن منهج البحث العلمي النزيه.

       ويكفي أن نعلم أن معظم من أثاروا هذه الشبهات لنفي إلهية الوحي المحمدي – بدعوى أنه من الأمور التي لا يتصورها العقل وتخرج عن إطار العادة – هم من المبشرين والمستشرقين من أهل الكتاب الذين يؤمنون بحدوث الوحي لموسى وعيسى وسائر الأنبياء عليهم السلام، ولكنه التعصب الأعمى، والحقد الدفين على نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم.

       ومن ثم جاء هذا الكتاب للتصدِّي لهذه الحملات الظالمة والهجمات المغرضة على الوحي والدعوة المحمدية، ولمناقشة بعض هذه الشبهات المثارة من خصوم الإسلام، وتفنيدها، وكشف زيفها، وردِّ باطلها، وإماطة اللثام عن وجه الحق.

       وفي النهاية، فإننا نقرر أن البشرية منذ آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لم تشهد – ولن تشهد – رجلاً أخلص في دعوته إلى الله جل جلاله كما أخلص محمد صلى الله عليه وسلم، كما أنها لم تشهد – ولن تشهد – رجلاً كان حريصًا على هداية الناس أجمعين مثل محمد صلى الله عليه وسلم، حتى كاد أن يهلك نفسه أسفًا على من لم يؤمن، حتى عاتبه ربه قائلاً: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلٰى اٰثٰرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوْا بِهٰذَا الْحَدِيْثِ أَسَفًا﴾ (الكهف:6).

       وقد شهد له بذلك بعض الغربيين المنصفين أمثال توماس كارليل إذ يقول: «كان محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً للإخلاص، والوقوف بجانب الحق والعدالة في كل ما يفعل، وكل ما يقول، وكل مايفكر فيه. لم يكن محبًّا لنفسه، بل كان محبًّا لغيره أمينًا في أداء رسالته».

       ولنعرض لتلك الشُّبه على النحو التالي:

       الشهبة الأولى: الزعم أن الشيطان هو مصدر الوحي المحمدي(*)

مضمون الشبهة:

       يزعم بعض المتقوِّلين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متصلاً بالجن، وأن من كان يأتيه ويَظُنُّ أنه جبريل المَلَك ما هو إلا شيطان كان يتمثَّل له على صورة جبريل عليه السلام، ويبر هنون على ذلك بما كان من خلوته صلى الله عليه وسلم بغار حراء قبل البعثة، فإن ما كان ينزل عليه من وحي في تلك الخلوة ما هو إلا من تأثير مس الجن له صلى الله عليه وسلم. ويرمون من وراء ذلك إلى جَعْل الوحي شيطانيًّا محضًا، بدلاً من كونه وحيًا سماويًّا وربانيًّا إلهيًّا، نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكون من المنذِرين.

وجوه إبطال الشبهة:

       1- من الواضح الجلي أن القرآن والسنة قد أكدا على صدق الاتصال الحسي بين النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام، وقد تمثَّل هذا في النفي المتكرر لأن يكون الوحي القرآني من كلام الشيطان، ناهيك عن أن الشيطان لا يتصور بصورة مَلَك.

       2- لقد اشتمل القرآن على غيبيات كثيرة، والغيب لا يعلمه إلا الله، ولا علم لأحد به من جنٍّ أو إنسٍ، فكيف يصدر عن هذا الشيطان المُدَّعَى مثل هذه الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله؟! ثم إن القرآن يدعو إلى الهُدَى والصلاح، أما الشيطان فإمام الفساد والضلال، فكيف يكون هذا القرآن من الشيطان؟!

       3- أجمعت الأمة على عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كيد الشيطان، فكيف يستلهم القرآن الكريم منه؟!

       4- إن هؤلاء الذين يشككون في القرآن ومصدره، يؤمنون بنزول الوحي على موسى وعيسى – عليهما السلام – فكيف يفرقون في إيمانهم بين نبي وآخر؟ إن هذا أكبر دليل على تحاملهم على نبي الإسلام خاصة.

التفصيل:

أولاً: نَفْي القرآن والسنة لأن يكون الوحي المحمدي كلام شيطان:

       لقد ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة النفي المؤكد المتكرر لأن يكون الوحي القرآني كلام شيطان؛ فمن ذلك قول الله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطٰنِ رَّجِيْمٍ﴾ (التكوير:25)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشّيٰطِيْنُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ (الشعراء:210-211). يقول القرطبي: قوله تعالى: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيٰطِينُ﴾ (الشعراء210) يعني القرآن، بل ينزل به الروح الأمين: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ (الشعراء: 211-212)، أي برمي الشهب(1).

       وقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطٰنُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطٰنُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ اٰيٰتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطٰنُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّـٰلِمِينَ لَفِي شِقَاقِ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِيْنَ أُوتُوْا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِيْنَ اٰمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (الحج:52-54). إن هذه الآيات في سور الحج تُعدُّ نموذجًا لبيان عناصر هذا النفي، المزيل للشُّبهة المثبِّت لفؤاد المبلِّغ، ومن ثم لفؤاد أتباعه، وفؤاد طالبي الحق من بعده.

       هذا، ومن الثابت أن الشيطان لا يستطيع أن يتمثل في صورة النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي بشر، فهو من باب أولى لا يستطيع أن يتمثل في صورة مَلَك، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثَّل بي»(2).

       وليس منع الشيطان من أن يأتي بصورة النبي صلى الله عليه وسلم، إلا لإمكان خصوصية كونه مصدر نقل الوحي من بين البشر، فمصدر نقل الوحي السماوي إذن أولى بالمنع، ولذا قال الآلوسي: «وإذا يتمثل منامًا، فلأن لا يتمثل يقظة من باب أولى».

ثانيًا. القرآن فيه غيب كثير والجن لا يعلمون الغيب، فكيف تكون الشياطين مصدر القرآن؟ والشياطين من طبيعتهم الفساد بينما القرآن يدعو للهداية والصلاح:

       كيف تكون الشياطين مصدر القرآن وفي القرآن غيب كثير، والجن لا يعلمون الغيب، حتى إنهم ما علموا بموت سليمان عليه السلام وهو أمامهم حتى سقط على الأرض، بعد أن أكلت دابة الأرض عصاه التي يستند عليها، قال الله جل جلاله: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْـمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَآبَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْـمُهِينِ﴾ (سبأ:14). وقد تحدَّى الله تعالى بالقرآن الكريم الإنس والجن جميعًا فعجزوا عن الإتيان بمثله، قال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلٰى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْاٰنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء:88).

       فكيف ينسب القرآن إلى الجن وهم لا يستطيعون الإتيان بمثله(3)؟

       وهل يُعْقَل أن الجن – التي يزعمون أنها مصدر القرآن – تُنْزِلُ القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ثم تتحدى نفسها فيه بمثل هذه الآيات؟!!

       فمن المعروف أن الله جل جلاله قد قصر علم الغيب على نفسه دون غيره من الإنس والجن والملائكة، قال تعالى: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمٰوٰتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ﴾ النمل: 65)، وقال أيضًا: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إلَّا هُوَ﴾ (الأنعام: 59)، وقال: ﴿عَـٰلِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِه أَحَدًا﴾  (الجن:29).

       فهذه أدلة على أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وقد حفل القرآن الكريم بكثير من الغيبيات، فكيف يعلمها الشيطان؟!

       وإذا كان الجن لا يعلمون الغيب، فبالله عليكم أي جنٍّ هذا الذي يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن غيبيات وحقائق علمية لم تُعْرَف إلا في القرن العشرين، من كروية الأرض بشكل بيضاوي، ونظرية انتشار الكون، وأن عناصر المادة في الكون واحدة، وأن كمية الهواء في الأجواء تقل إلى درجة أن الإنسان يضيق صدره فيها، وأن الشمس والقمر يسبحان في هذا الفضاء، أي جن هذا الذي يستطيع معرفة ذلك كله؟! ولماذا خص به محمدًا صلى الله عليه وسلم دون غيره؟! بل ولماذا لا يخبر جان بمثل هذا أحد المعاصرين؟!

       وكيف يدَّعى هؤلاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلهم القرآن من الشيطان، على الرغم من أن القرآن ينبهنا إلى عداوة الشياطين للإنسان، قال جل جلاله: ﴿إِنَّ الشَّيْطٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوْا حِزْبَهُ لِيَكُونُوْا مِنْ أَصْحٰبِ السَّعِيرِ﴾ (فاطر:6)، وقال تعالى ﴿فَدَلّٰهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَرْتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفٰنِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطٰنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ (الأعراف:22).

       فكيف يكون القرآن من وحي الجن والشيطان؟! وهو يدعو إلى معاداة الشيطان؛ لأنه يريد أن يضل الإنسان عن ربه فيهلك معه.

*  *  *


(*)             رئيس قسم الشريعة بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة.

(*)             تلقي النبي ألفاظ القرآن الكريم، عبد السلام مقبل المجيدي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1421هـ/2000م.

(1)             الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/1985م، ج13، ص142.

(2)             أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التعبير، باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام (6592)، ومسلم في صحيحه، كتاب الرؤيا، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني»(6056)، واللفظ له.

(3)             عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/1979م، ص41،42.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، جمادى الثانية – رجب 1435 هـ = أبريل – مايو 2014م ، العدد : 6-7 ، السنة : 38

Related Posts