دراسات إسلامية
بقلم: د. رشيد كهوس، أستاذ بجامعة القرويين -المغرب(*)
أولاً – الفرق بين الغزوة والسرية:
إن الفرق بين الغزوة والسرية والبعث؛ هو أن كل ما خرج فيه صلى الله عليه وسلم بنفسه يسمى عند الجمهور غزوة، وقع فيه قتال أم لا، وعدد غزواته صلى الله عليه وسلم بلغت سبعًا وعشرين غزوة. أما لم يخرج فيه صلى الله عليه وسلم بنفسه فيسمى بعثًا أو سرية ولا ينحصر في عدد معين بل ربما بعث صلى الله عليه وسلم رجلاً واحدًا. وقد بلغت خمسًا وثلاثين، وقيل أربت على الخمسين.
قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسع غزوات: بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمريسيع وخيبر والفتح وحنين والطائف، ويقال: إنه صلى الله عليه وسلم قاتل أيضًا في بني النضير ووادي القرى، والغابة.
وقاتلت معه صلى الله عليه وسلم الملائكة منها في بدر وحنين وأحد على خلاف في الثالثة. ونزلت الملائكة يوم الخندق فزلزلوا المشركين وهزموهم.
وقاتل بالمنجنيق والدبابة في غزوة واحدة وهي الطائف.
وتحصن صلى الله عليه وسلم بالخندق في واحدة وهي الأحزاب، أشار به عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه.
ثانياً – أهم أهداف الغزوات والسرايا النبوية:
كان الذين يزعجهم النور يسعون جاهدين لإطفائه فيتعرضون في كل مكان للدعوة القرآنية، وعندما يتمكنون من القبض على أي مسلم سرعان ما كانوا يقتلونه، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على عاتقه حمل مشعل الدعوة وإزاحة كل العقبات من طريقها، لذا هيأ هذه السرايا وبعثها إلى جميع الجهات، وكان عدد أفرادها لا يقل عن العشرة ويتجاوز المئتين، وكانت الغاية من هذه السرايا الوصول إلى بعض الأهداف المعينة، بعد استقصاء الأخبار وجمع المعلومات وإيصالها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهم تلك الأهداف هي كالآتي:
1- الإشعار بوجود الكيان الإسلامي: أي إشعار الجميع بوجود الإسلام وبكيانه بالمدينة، وأن المشركين وإن أخرجوا المسلمين من ديارهم في مكة، وأخذوا أموالهم، وعذبوهم، إلا أنهم لم يستطيعوا إطفاء نور الإسلام، وفق سنة الله الأزلية: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهٖ وَلَوْ كَرِهَ الْكٰفِرُونَ﴾ (سورة الصف: 8).
إذن فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يظهر لهم أن ظلام الجاهلية الأولى في تلك الصحراء الموحشة المظلمة لن يستطيع إطفاء نور الله(1).
2- إظهار أن الهيمنة للحق: يريد أن يبرهن على أن الحكم ليس لكفار قريش فقط الذين اغتصبوا حق الإنسانية واستغلوها واستعبدوها، بل إن لممثلي الحق حصَّة من الحكم ونصيبًا، وسيأتي يوم تخضع فيه القوة بكل ما لديها من عدة وعتاد للحق وتستسلم له، وحينئذ ستكون الكلمة في الأرض بيد الحق وحده، ويسود وحده، ويرث المسلمون الأرض، ويستخلفهم الله فيها. فتحقق هذا في الفتح الأعظم لمكة المكرمة، وخضعت كل الأمم للإسلام.
3- حماية الدعوة الإسلامية وتأمين انتشارها: يقول المفكر الإسلامي الكبير «فتح الله كولن» – حفظه الله- في درته النفيسة وجوهرته الغالية «النور الخالد»: إن حيل بيننا وبين حريتنا في نشر الحق والحقيقة والفضيلة والاستقامة، فإن الإسلام يبيح لنا الحرب من أجل الحفاظ على تلك الحرية وتأمينها. يرجى الانتباه هنا رجاء.. نحن لا نقول بأن الحرب تكون من أجل نشر الحق والحقيقة، بل نقول إن تمت الحيلولة دون حرية نشر الحق والحقيقة عند ذلك يتم إعلان الحرب(2).
وعليه، فبفضل تلك السرايا التي كانت تصول وتجول هنا وهناك، وبفضل غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، استطاع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يمسك بالنظام والانتظام في يده، وأن يرسل الدعاة والمبلغين والمرشدين إلى كل مكان، وأن يؤمن تجولهم بين المدن والقرى دون خوف أو وَجَل، ويهيء لهم جوًا هادئًا بعد إزاحة كل العقبات من طريق الدعوة، لكي يقوموا بمهماتهم في التبليغ.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في الغزوات ويرسل السرايا بشكل مستمر للمناطق المحيطة بالمدينة من أجل هذه الأهداف، ففي بضعة أشهر كانت هذه السرايا تظهر في أماكن بعيدة لم يكونوا يقطعونها آنذاك إلا خلال شهر، أو تظهر بمعركة بمكة، وكأنهم أشباح أو ملائكة ظهرت ثم اختفت بسرعة، مخلفة وراءها الرعب عند العدو الذي بدا وكأنه يُسحب إلى معركة بدر وهو مشلول من الخوف(3).
4- إقرار الأمة وبسط السلام في الأرض والدفاع عن المستضعفين: كان النهب والسلب سائدًا في تلك الأيام في الصحراء، فالحق للقوة، ولم يكن للضعيف وللمظلوم حق الحياة، فالذي يملك القوة كان يستطيع سحق الآخرين.
فانتشرت السرايا في كل مكان، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم قائدًا مجموعة من الغزوات صلى الله عليه وسلم مما حال دون أن يتعرض أي شخص لماله ولا لعرضه، ولا لشرفه، ولا لنفسه.
وهكذا عرف الجميع بشكل جيد بأن الصحراء لم تكن ملكاً لمشركي قريش وحدهم، بل إن لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم نصيبًا وحصة وحقًا، وسيزداد هذا الحق على مر الأيام ويكبر كما انتشر النور حتى يكون له في كل بيت وفي كل قلب أثر(4).
كما كان من أهداف هذه الغزوات والسرايا النبوية رد العدوان، والدفاع عن النفس وتخليص الإنسان من نظام القهر والعدوان، إلى نظام العدالة والإنصاف، ومن نظام يأكل فيه القوي الضعيف، إلى نظام يصير فيه القوي ضعيفاً حتى يؤخذ منه، وإطفاء نار الفتنة ورد البغي، وكسر شوكة الأعداء في صراع الإسلام والوثنية، وإلجائهم إلى المصالحة، وتطهير الأرض من الغدر والخيانة والإثم والعدوان، وبسط الأمن والسلامة والرأفة والرحمة ومراعاة الحقوق والمروءة.
أما عن أهداف الحرب في الجاهلية، فقد كانت عبارة عن نهب، وسلب، وقتل، وإغارة، وظلم، وبغي وعدوان، وأخذ بالثأر، وفوز بالوَتَر، وكبت للضعيف، وتخريب للعمران، وعبث وفساد في الأرض، وهتك للحرمات والأعراض، وقسوة بالضعاف والنساء والصبيان، وإهلاك للحرث والنسل…
أما عن الحرب عند الغرب في عصرنا هذا فيقول المفكر الإسلامي التركي «فتح الله كولن»: «لم يعرف الغرب – لا في الماضي ولا في الحاضر- القيم الإلهية، لذا قام باحتلال البلدان ووضع يده على ثروات تلك البلدان ما ظهر منها وما بطن، واستعبد أهاليها وسكانها وشكل مستعمرات. حارب في هذا السبيل، وأراق الدماء في سبيل هذه الغاية. لقد كان هذا هو الهدف الحقيقي لحروب «البلقان» وللحرب العالمية الأولى والثانية ولحرب احتلال بلدان «الخليج والصومال» أما الحرب في الإسلام فتكون من أجل غاية سامية ومن أجل حرية الفكر والاعتقاد ومن أجل فتح الطرق المؤدية إلى القيم الإنسانية. ومع ذلك فيجب ألا يهمل هذا الاتجاه نحو السلم كلما استوجب الأمر، ذلك لأن السلم هو الأساس وهو الأصل، أما الحرب فأمر استثنائي(5).
ثالثاً – أهم نتائج الغزوات و السرايا النبوية:
1- هزيمة الكفر في حربه للإسلام: بشرط أن يبذل أهل الإسلام المساعي والجهود لنصرة دينهم والدفاع عن حماه… ففي كل السرايا التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم تتكرر سنة من سنن الله في تنازع الحق والباطل والتدافع بين أهل الإيمان وأهل الكفر، وعداوة الكفر للإسلام، لكن الإسلام انتصر في النهاية، وكانت له السيادة والحق، في المقابل كانت خسارة أحزاب الشيطان في حربهم على المسلمين وتفرق شملهم ورجوعهم مدحورين بغيظهم قد خابت أمانيهم وآمالهم ومساعيهم.
2- تحقيق السيادة والاستخلاف في الأرض: تحققت سنة الله في إزهاق الحق للباطل، وانتصار المؤمنين المجاهدين على الكفار والمشركين المنكرين، وتحقق وعد الله لهم بالنصر؛ قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوٰرِثِينَ﴾ (سورة القصص:5). فنكست رؤوس الجبابرة، والطواغيت وخضع الكل لسلطان الإسلام، وورث المسلمون أرض مكة، وحفظ الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من كيد الكائدين، ورفع ذكره في العالمين، وإرضائه في الأولين والآخرين، وعصمته من الناس أجمعين.
كما كانت نتيجة هذه الغزوات والسرايا إرهاباً شديدًا للمشركين، وبث الرعب في قلوبهم، وإشعار أولئك الأعداء باليقظة من جانب المجاهدين المؤمنين.
وكان من نتيجتها أيضًا أن علم كفار قريش أن الطريق لهم ولمالهم غير مأمون، وأنه يتربص بهم الدوائر، فازدادوا خوفاً على الخوف الذي ولدته هزيمتهم في المعارك، وأحسوا بذلك أن الإسلام صار قوة للحق لا ينال منه بغرة، وأنه لم يعد هناك أمن لهم.
كما بدأ الأعراب والبدو في الصحراء يقولون في أنفسهم لم يعد باستطاعة أهل مكة أن يحافظوا علينا، ولم يعودوا مبعث أمن لنا، والظاهر أن مصير الناس انتقل إلى أيد أخرى، لذا من الأفضل لنا أن نتقرب إلى هؤلاء. لذا توافدوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وبدؤوا يدخلون في دين الله أفواجًا.
3- ذيوع الأمن: قوة جديدة ظهرت في الصحراء وأثبتت وجودها، لم تعرف مكة قدر «الأمين». «الأمين» الذي ندعوه: «محمد رسول الله الصادق الوعد الأمين»، هو الآن في المدينة، وكان الأمن والأمان عنده، بدأوا يتوجهون إلى المدينة بينما فقدت قريش مظاهر الثقة المعقودة لها سابقًا، لم تكن عاجزة عن إعطاء الأمن والثقة للآخرين فقط، بل كانت عاجزة عن تأمين قوافلها هي إذ كانت تحت تهديد دائم.
4- سرعة السيطرة على الأمور: بدأت الصحراء تدخل في حكم النبي المجتبى صلى الله عليه وسلم شيئًا فشيئًا، لذا بدأ العدو يحسب حسابه. وتغير الموقف لصالح المسلمين بعد غزوة الأحزاب وقد أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «الآن نغزوهم ولا يغزونا»(6). فكانت للمسلمين بعد ذلك هيبة يهزمون بها الجموع، ويكسرون بها الجيوش، ويهزمون بها الشجعان، ويرهبون بها الأعراب الآخرين.
كما درأت هذه السرايا الفتنة ومنعت البغي في الداخل والخارج.
5- كانت السرايا التي جاءت بعد خيبر لبث روح الإجلال للإسلام، وكسر شوكة من يكيدون له، أو للتعرف على أحوال العرب والقبائل المجاورة، أو هي أشبه بالدوريات التي تمر بالبلاد احتياطاً، وتأديبًا لكل من تسول له نفسه الاعتداء على المسلمين أو النكاية لهم. فلم تكن هذه السرايا ذات خطر في توجيه الحروب، بل كانت لحوادث صغيرة كما سبق.
6- كشفت هذه الغزوات مكائد اليهود ودسائسهم وحقدهم على المسلمين وتربص الدوائر بهم فقد نقضوا عهودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الشدة وجيوش الكفر تحيط بهم من كل جانب. كما كشفت حقيقة النفاق، وأزاحت اللثام عن مكره وخبثه.
7- إتقان الخطط العسكرية: إننا نرى بوضوح كامل كيف كان معظم الصحابة – رضوان الله عليهم – مشاركين ضمن هذه السرايا والبعوث قوادًا تارة، وجنودًا عاديين أخرى، فكان ذلك من الخطط (الإستراتيجية) بعيدة المدى يعدها النبي صلى الله عليه وسلم لتثبيت دعائم الأمة الإسلامية، وإعداد منهج منظم دقيق لجيوش الفتوحات الإسلامية التي ما فتئ – عليه الصلاة والسلام – يبشر بها أصحابه بين الفينة والأخرى في أوقات السلم والحرب والخوف والأمن(7).
فكانت ثمار تلك السرايا والبعوث يانعة، وعراجينها دانية، ونتائجها باهرة، أدهشت القاصي والداني لما حققته من فتوحات إسلامية في وقت يسير، ويزيد هذه النتائج دهشة الوصايا النبوية والتوجيهات المصطفوية لأمراء جيوشه بتقوى الله والرحمة بالشيوخ والنساء والصبيان، والتزام الأخلاق الحسنة والخصال الحميدة ، فكانوا لهذه الوصايا والتوجيهات مطبقين وبها ملتزمين، وكانوا بعد مرحلة النبوة للمنهاج النبوي سالكين، ولأثره مقتفين، ففتحوا قلوب العباد، وفتحوا البلاد.
* * *
الهوامش:
(1) النور الخالد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية، فتح الله كولن، ص411 .
(2) النور الخالد، ص393 .
(3) النور الخالد، ص412 .
(4) النور الخالد ، ص412.
(5) النور الخالد، ص399.
(6) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، ح4110. والحديث عن سيدنا سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ رضي الله عنه.
(7) السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة؛ دراسة نقدية تحليلية، أعدها: بريك أبو مايلة العمري، أشرف عليها: أكرم ضياء العمري، ص61.
(*) رئيس مركز آل عمران للدراسات والبحوث في فقه الأسرة والتغيرات المعاصرة بكلية أصول الدين بتطوان.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى 1435 هـ = مارس 2014م ، العدد : 5 ، السنة : 38