دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي رحمه الله
(المتوفى 1399هـ / 1979م)
ترجمة وتعليق: الأستاذ محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)
ولم يكن العام الماضي قد شهد افتتاح قسم قراءة القرآن الكريم وتحفيظه وكذلك قسم الفارسية و الرياضي، فحُرمَ أطفال المدينة الاستفادة من «دارالعلوم» بحكم عدم توفر برنامج للدراسة الابتدائية، فقامت المدرسة بتدشين قسم لقراءة القرآن الكريم وتحفيظه، وكذلك قسم اللغة الفارسية و الرياضي، وتم تعيين مدرس مختص بالقسمين مقابل راتب شهري قدره خمس روبيات، وتم تعيين محاسبٍ نظراً إلى تزايد نشاطات المدرسة ورقيها وازدهارها.
توفير الكتب الدراسية:
امتازت المدراس الدينية – احتذاءً بـ«دارالعلوم/ديوبند» – بتوفير التعليم المجاني المحض حتى إنها لم ترضَ أن تحمِّل الطالب نفقةَ المقررات الدارسية. ولم تملك «دارالعلوم» حين نشأتها من الكتب و المقررات الدراسية ما يُغَطِّي حاجة الطلاب، ولاكانت تتوفر لها الموارد المالية التي تُمَكِّنها من شرائها واقتنائها. فقامت باستعارة كتب المقررات الدراسية إلى أجلٍ معلومٍ من أهل العلم الذين كانوا يملكونها في المناطق المجاورة. وثمةَ قائمةٌ طويلةٌ تضمها التقارير الدورية لهذا العام لمن قام بإعارة الكتب. وتم إرجاعها إلى أصحابها في العام التالي حين توفَّر لدى الجامعة العددُ الكافي من الكتب الدراسية المقررة. وكان في طليعة من قام بتوفير الكتب الدراسية للجامعة من غير أهل البلد: الشيخ إلهي بخش الميروتي، وسكان «دانافور» وعبد الرحمن خان صاحب مطبعة «نظامي» بمدينة «كانفور».
الوضع التعليمي:
وبدأت «دارالعلوم» تُحرزُ تقدماً ملموساً كبيراً ومثمراً. فلم تتجاوز عامها الثاني من عمرها حتى خرَّجت رجالاً مؤهلين لخدمة التدريس، فتم تعيين أحد خريجيها وهو المولوي ميرباز خان مدرساً في جامعة «مظاهر علوم» سهارن فور. وتقول التقارير الدورية: «والجدير بالذكر – بصفةٍ خاصةٍ – أن الجامعة قطعت أشواط التقدم في التعليم والدراسة بفضل مساعي المدرسين وجهودهم المشكورة رغم المعوقات الكثيرة المحدقة بها». وفي المدرسة اليوم طلابٌ أوشكوا على التخرج منها، يتمكنون من تدريس العربية والفارسية عن جدارةٍ. ولذا تَمَّ تعيين المولوي «مير باز خان» بدرجة «المعلم الثاني» في جامعة «مظاهر علوم» بطلب من مديرها.
الشيخ الكنكوهي ينظرفي الوضع التعليمي عام 1285هـ:
ومن أبرز أحداث و وقائع هذا العام أن الشيخ المحدث رشيد أحمد الكنكوهي (1244-1323هـ /1829-1905م) قدم «دارَالعلوم» ليتفقد الوضع التعليمي فيها، فاختبر الطلاب، و سجل انطباعه التالي:
«في مثل هذا اليوم من 30/من صفر عام 1285هـ زرتُ مدرسة «دارالعلوم» واطلعت على أوضاع المدرسة وطلابها وأساتذتها، فَبَيَّنَت الكشوفاتُ والجداول أن ثمة 58طالباً في المرحلة العربية عدا طلاب مرحلة الفارسية ومرحلة قراءة القرآن الكريم، وحضر منهم 48 طالباً فحسب الاختبارَ. ولمسنا – من خلال اختبار بعض الصفوف المتفرقة – أن المساعي المشكورةَ التي يبذلها القائمون على المدرسة وأساتذتها، والاجتهاد المضني الذي يقوم به الطلاب لحريٌ بكل تقديرٍ وتثمينٍ. ويغلب على الظن أنهم سيخرجون يعلمون الناس العلوم الدينية بعد قضاء مدةٍ يسيرةٍ في الدراسة و التحصيل إذا ما استمرت هذه الجهود المباركة».
وعُقِدت حفلةُ توزيع الجوائز في نهاية العام الدراسي، ودُعي لها الناس من ضواحيها، و وزعَّ الشيخ النانوتوي – رحمه الله – الجوائز المتمثلة في الكتب على الطلاب الفائزين، واستمع الحضورُ إلى الوضع التعليمي الذي مرَّ به المدرسة خلال عامها الدراسي. وأبدَوا استحسانهم و إعجابهم بها، وأكدواعلى تقديم مساعداتهم ومعوناتهم إليها.
إنشاء المدارس الدينية في مختلف المناطق:
لم يمضِ على نشأة «دارالعلوم» إلا نحوستة أشهر حتى شهدت مدينة «سهارن فور» قيام جامعة «مظاهر علوم»، وشهد العام نفسه نشأة مدارس دينية في أماكن متفرقة. فتقول التقارير الدورية:
«حرص كثير من أولي العزم على تمديد شبكة المدارس الدينية فأنشؤوها في عدة أماكن منها: «دلهي»، و«ميروت»، و«خورجه»، و«بلند شهر» وغيرها. وأماكنُ أخرى أمثال مدينة «علي كره» و غيرها تشهد اقتراحات مطروحة للقيام بمثل هذا العمل الخيري»(1).
معاناة الأوبئة والجدب في عام 1286هـ:
واجهت «دارالعلوم» أنواعاً من المتاعب والمشقات هذا العام مثلَ عام 1284هـ، وتحولت حمى الدق و الرعدة إلى أوبئة فتاكة، لم تدع أحداً من الأساتذة والطلبة إلا أصابه لفحها وامتد المرض امتداداً حالَ دون مواصلة نشاطات الدراسة والتعليم لمدة خمسة أشهر تباعاً، وأقضَّ الجدبُ الشامل – الذي عمَّ البلاد كلها – مضاجعَ من كان يتعاطف مع الجامعة وقضاياها، وأقلقهم كثيراً. و اضطرَّ طولُ المرض كثيراً من الأساتذة والطلبة إلى المغادرة لأوطانهم، إلا أنهم عادوا إليها فور ما ولَّى المرض دبره و انقشع سحابه، وبذل المدرسون قصارى جهدهم حتى أنهوا المقررات الدراسية في نهاية العام الدارسي.
تعديل في الشؤون الإدارية:
وشهدت الشؤون الإدارية تعديلاً كذلك هذا العام، حيث غادر الشيخ رفيع الدين للحج، فأعيد الحاج محمد عابد مديراً لها، يقوم بشؤونها الإدارية.
تداعيات أحداث العام السابق على عام 1287هـ:
ولم تتخلص المدرسة من تداعيات أمراض حمى الدق والجدب في العام الماضي إلى نهاية هذا العام، حيث انخفض عدد الطلاب إلى 87 طالباً، ولم تُعقد الاختباراتُ السنوية في شهر شعبان كالمعتاد، وتوقفت إجراءات الترشيح والقبول للدراسة في العام الجديد، وبذل أعضاء هيئة التدريس لاستكمال ما تبقى من المقررات الدراسية جهودًا حثيثةً حتى تم إجراء الاختبارات السنوية في شهر ذي الحجة. ورغم أن البلد كله كان يعاني الجدب والغلاء الفاحش إلا أن ذلك لم ينعكس سلباً على موارد المدرسة المالية، فاستقرت على ما كانت عليه.
عام 1288هـ يشهد رقياً وازدهاراً:
ارتفع عدد الطلاب في هذا العام عن عامه السابق، وتزامن معه ارتفاع في النفقات، فعاد عدد الطلاب مئة وستة طلاب. واحتاجت مختلف الفصول الدارسية إلى مساحة أوسع. وسبق أن قلنا: إن المدرسة أنشئت – في أول أمرها – في مسجد «تشته»، وهو مسجد ضيق قديم، وازداد عدد الطلاب، وضاق المسجد عليهم، فنقلت إلى مسجدٍ قريبٍ منه – وهو «مسجد القاضي» – أوسع منه نسبياً، ثم ضاق هو الآخر على الطلاب بعد مرور الأيام، فاستأجروا منزلاً قريباً من المسجد، و شعر القائمون على المدرسة – حينئذ – بحاجتها إلى بناء أوسع وأكبر، في حين كان جامع «ديوبند» قيد الإنشاء، فقرروا بناء الحجرات والأفنية التي تغطي هذه الحاجة في هذا الجامع. فأعلنوا ذلك، و أهابوا بسكان المدينة إلى تقديم التبرعات لتحقيق هذا الهدف النبيل، فنقلت «دارالعلوم» إليه حين انتهت أعمال البناء في عام 1290هـ.
عودة الشيخ رفيع الدين من الحج:
وكان الحاج محمد عابد حسين هو المشرف على كل من إدارة «دار العلوم»، وعلى إنشاء الجامع، مما كان يتطلب وقتاً وفراغاً كبيراً، فرأوا تخفيف وطأة الأعمال والأشغال عن الحاج محمد عابد، فأعادوا إدارة المدرسة إلى الشيخ رفيع الدين مرةً ثانيةً، وكان قد عاد من الحج، إلا أن الإشراف على الأمور الهامة لازال موكولاً إلى الحاج محمد عابد نفسه.
عام 1289هـ ومنح الشهادات:
وشهد هذا العام – أول مرةٍ – مراسمَ منح شهادات التخرج لخريجها، وبلغ عدد الخريجين فيها خلال خمس سنوات هذه – اعتباراً من عام 1285هـ إلى عام 1289هـ – خمسةً وعشرين طالباً إلا أنه لم يشهد حفلةَ منح الشهادات غيرُ تسعة منهم وهم: الشيخ أحمد حسن الأمروهوي (1267-1330هـ/1850م(2) الشيخ خليل أحمد الأنبيتهوي (1279-1346هـ = 1862-1927م)(3) والشيخ فخر الحسن الكنكوهي (ت 1315هـ)(4) والشيخ عبد الله الأنصاري الأبيتهوي (ت 1344هـ)(5) والشيخ فتح محمد التهانوي(6)، والشيخ محمد فاضل الفلتي، و الشيخ أحمد حسن الديوبندي والقاضي جمال الدين، والشيخ عبد الله الجلال آبادي، ويعتبر العديد منهم من مشاهير علماء الهند.
شهود بعض أهل العلم دروس الحديث الشريف:
وبلغ صيت دروس الحديث الشريف في «دارالعلوم» أنحاءَ البلاد، فقصدها هذا العام بعض أهلُ العلم – ممن سبق أن تخرج في مدارس أخرى – رغبةً في الاستفادة القصوى من دروس الحديث في الجامعة. و من أبرزهم:الشيخ عبد الله الجون فوري(7) والشيخ سلامت الله الجونفوري والشيخ معشوق علي الجونفوري والشيخ عبد الرحيم علي غنج والشيخ بركت الله الدهلوي.
ولايفوتنا أن نشير إلى أن «جون فور» و«دلهي» من المدن التي كانت تمثل مراكز العلم والفن في العصر الأخير، فإن كان ثمة بلدٌ يحتضن ما تبقى من الباقيات الصالحات من معالم العلماء القدماء، فهما هذان البلدان، وذلك يوحي إلى المكانة العلمية العالية التي كانت «دارالعلوم» تحتلها في الهند في السنوات الأوَل من عمرها، وإلى أن صيت مكانتها وشرفها لم يقتصرعلى المناطق المجاورة لها، و إنما تجاوزإلى الأماكن القاصية والمراكز العلمية القديمة.
تبرعات بالمقررات الدراسية:
سبق أن قلنا: إن «دار العلوم» كانت تعوزها كتبُ المقررات الدراسية أول نشأتها، فاستعار القائمون عليها الكتبَ من أهل العلم في المناطق المجاورة لها إلى أجل معلوم، وأهابوا بسكان البلاد إلى توفير كتب المقررات الدراسية. ولقيت هذه الدعوةُ آذاناً صاغيةً في أنحاء البلاد، وفتح أصحابُ المطابع صدورهم لها، وتقدموا بالعدد الهائل من كتب المقررات الدراسية للجامعة، كما ساهم بعض الهندوس أصحاب المطابع – كذلك – بالتبرع بالكتب عليها، و تشير التقارير الدورية إليه شاكرةً و مقدِّرةً لهؤلاء: «إن أعضاء الشورى بالجامعة مدينون كثيراً للمنشئ نول كشور»(8) – صاحب مطبعة «أعظم» بـ«لكناؤ» – الذي ساعد المدرسة ببعض الكتب النافعة كعادته السارية، ومرفقة فهارس الكتب المقدمة من قبله، وأهم هذه الكتب «القاموس» – ذلك المعجم العديم النظير، وقد قام المنشي بطبع هذا الكتاب طباعةً قشيبةً مع الاعتناء الزائد بتصحيح نصوصه في حين لم تملك الجامعة نسخةً من هذه السفر الغالي. وهو كتاب لايستغني عنه مدرس أو طالب. كما تبرع الحاج مولا بخش بمئة روبية لشراء الكتب بالإضافة إلى مئتي روبية لنفقة الطلاب. كما تقدم الشيخ عبد الرحمن خان – صاحب مطبعة «نظامي» بكانفور – بالكتب الآتية أسماؤها لتوزيعها على الطلاب.
وكانت هذه الهدايا فاتحةَ خيرٍ وبركةٍ، فقد توالت الكتب المطبوعة في كل سنةٍ في هذه المطابع إلى هذه الجامعة، وهي تمثل نموذجاً مبدئياً لهذه المكتبة الضخمة القيمة التي تحوي الآلاف من المقررات الدراسية وغير الدراسية. وعلى كلٍ فقد سَعِدَ بالتقدم في هذا المساركلٌّ من الشيخ عبد الرحمن خان – صاحب مطبعة «نظامي» كانفور، والمنشي «نول كشور» الراحل. وكان كل منهم أسوة لغيرهم في هذا العمل الخيري. ولم يتخلف أحد منهما عن إرسال الكتب المنشورة في مطابعهما إلى «دارالعلوم» ما دامَا على قيد الحياة. وتضم التقارير الدورية التنويه بما تبرعوا به من الكتب على الجامعة، بل الشكر والتقدير الكثير لهما فتقول: «والمنشي نِوَلكِشور» – صاحب مطبعة «أعظم» لكناؤ – أحق بالشكر في هذا الصدد، فإنه تبرع بكثير من الكتب النافعة لصالح الجامعة وإن بعدت الشقة والمسافة».
وتقول التقارير الدورية لعام 1294هـ: «ونخص بالشكر كلاً من المنشي نول كشور – صاحب صحيفة أودهـ» لكناؤ – والسيد راؤ أمرسنغ – صاحب صحيفة «سفير» بدهانه – فإنهما رغم كونهما من الهندوس – يتبرعان بصحفهما القيمة مجاناً لصالح الجامعة، فيا لَه من كرمٍ وسخاء. فيتقدم أعضاء المجلس الاستشاري جميعاً بالشكر الجزيل لهما من أعماق قلوبهم، ويدعون الله تعالى أن يكتب لصحفهما ومطابعهما التقدم والرقي ليل نهار، ويُبقي على قوتهما وحريتهما، كما نرجو أن يستمرا على مثل هذا العطاء والعمل الخيري لصالح المدرسة في المستقبل ويعتبروا جميعَ القائمين على هذه المدرسة داعين لهم بالخير وناصحين لهم».
* * *
الهوامش:
(1) راجع تفاصيل المدارس التي نشأت على غرارجامعة ديوبند في الباب الثالث من هذا الكتاب.
(2) سترد ترجمته في 2/39 من تاريخ دارالعلوم.
(3) سترد ترجمته في 2/31 من تاريخ دارالعلوم.
(4) سترد ترجمته في 2/37 من تاريخ دارالعلوم.
(5) سترد ترجمته في 2/29 من تاريخ دارالعلوم.
(6) سترد ترجمته في 2/25 من تاريخ دارالعلوم.
(7) الشيخ الفاضل عبد الله بن إله داد الحنفي الجونبوري، أحد العلماء المبرزين في العلوم العربية، ولدونشأ بمدينة جون بورواشتغل بالعلم من صباه، وقرأ على أبيه ولازمه ملازمة طويلة حتى برع وفاق أقرانه في العلم و المعرفة. وقال اللكنوي في «نزهة الخواطر»: وإني أظن أن هذا هوالشيخ «بهكاري» الذي ذكره البدايوني، فإن أهل الهند من عادتهم أنهم يسمون أبناءهم باسمٍ ويدعونهم باسم آخر مختصر خفيف على لسانهم، والله أعلم.(نزهة الخواطر2/821)
(8) المنشي نولكشور- بكسر النون وفتح الواو وكسر الكاف – (1252-1313هـ/1836-1859) ولد في قرية من قرى مدينة «متهرا» بالولاية الشمالية، ينتمي إلى عائلة برهمية، تدرب على أعمال الطباعة في مطبعة «كوه نور» وفي فتنة عام 1857م عاد إلى «لكناؤ»، وأنشأ بها مطبعته الشهيرة التي كانت في طليعة المطابع في الهند، والتي لقيت شهرةً عظيمةً في مجال الطباعة والنشر، واحتضنت جماعة من الكتاب الأفاضل الذين قاموا بنقل عدد كبير من الكتب إلى الأردية والفارسية والعربية والسنسكريتية، وكان «نولكشور» مبسوط اليد على الأعمال العلمية والدينية، دون أن يفرق بين مسلم وغيره، فكان لمعابد الهندوس والصوامع و مؤسسات المسلمين حظ من تبرعاته السخية. توفي عن عمر يبلغ 59 عاماً في «لكناؤ». راجع: تاريخ ديوبند ص350 ط: مركزعلمي، ديوبند.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1435 هـ = يناير 2013م ، العدد : 3 ، السنة : 38
(*) الأستاذ بالجامعة Email: almubarakpuri@gmail.com