بـأقــــــلام الشبـــــاب
دراسات إسلامية
الأخ: محمد طلحة البرني القاسمي
طالب في قسم التخصص في الإفتاء ، بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند
لو وقع في آذاننا الآن أن رجلاً أميًا لم ينتم إلى مدرسة، ولم يطرق باب حلقة علم، ولم يتعلم القراءة والكتابة، ونشأ في قرية قاحلة، وترعرع في صحراء منقطعة مقفرة، ثم رفرف على أهلها لواء الإصلاح والتقدم في كل مجال من الحياة الإنسانية، ومنحهم سيادة الأرض ونوّ لهم زعامة الدنيا، وألقى بين أيديهم مفاتيح الكنوز، كنوز العلم حتى زود هم بكلام الإله، كنوز المال حتى ناولهم ما يملك كسرى وقيصر، ونزع عنهم سلاح الدول القوية العاتية، لذهبت بنا الدهشة أبعد المذاهب.
تصوروا رجلاً أميًا في قرية متواضعة متوارية بين أطواد، جاثمة وراء الرمال المحرقة، أُلقي على غاربه أن يبدل عادات الناس، وأن يغير عقائدهم، وأن يجعلهم على دستور جديد، ويبلغه إلى أقصى العالم، فكيف بنا لو سمعنا أن هذا الرجل قد ظفر وانتصر حتى خابت وخسرت الآصنام، أصنام الحجر، أصنام اللحم والدم، أصنام الأضرحة؟ فلا خضعان إلا لأمر الله، ولا استكانة إلا لقوة الله، وكيف بنا لو سمعنا أن هذا الرجل قد دانت له أكبر الدولتين في الماضي الذي عاشه فارس والروم، ولم تسلخ على دعوته وحركته 30 سنة حتى اقتفتا أثاره، وتحمس لدعوته دهماؤهما حتى فاقوا بعض أتباعه الأولين دون أصحابه. هذا شيء قام به سيدنا ونبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – من يدرك الآن عظم ما صنعه صلى الله عليه وسلم.
إنه قد أتى بكتاب هو دستور شامل للحياة الإنسانية، هو قانون مدني، هو قانون دولي، كما هو قانون للأحوال الشخصية، وهو بعد ذلك منزل بأسلوب لايقوى أحد سوى من نزله أن يجاريه أو يجيء بمثله؛ لأنه قد سبق أبلغ طبقات البلاغة البشرية، لما نزل عليه جبريل من أول الأمر وهو كان وحيدًا في جبل مقفر، وأحاطه علمًا بأن الله قد اصطفاه نبيًا، فعليه أن يقوم بالثورات في كل ناحية من نواحي الحياة البشرية.
هنا ختمت صفحة في التاريخ البشري، وبدأت صفحة أخرى، من هنا بدأ فجر الإسلام الأول بعد ما طالت على الإنسانية ليلة حالكة الجلباب، من هنا تفجر النهر الذي روّى فيا في العالم، من هنا استمرت دنيا الحضارة خصبها وفنها ونماءها، تلك التي لا تزال الإنسانية تنعم بخيراتها، من هنا انقضى عهد الضعف والاستكانة، وبدأ عهد القوة والطموح، كما مضى عهد الوقاحة والاستهتار، والفسوق والفجور، وسائر الأوساخ الخلقية ظل يستغرق فيها المجتمع الإنساني.
فلما اصطفاه الله نبيًّا رأى بيئة العالم ملتفعة بأكسية الضلالة والغواية، فقد وجد الآلهة من حجر وشجر، وأعواد وخشب، وأهواء وشهوات، ركنوا إليها في حياتهم العامة، فهذه الآلهة كانت لاعداد لها في جميع أقطار العالم، يشدون إليها صهوة ترحالهم، يتمسحون بها، ويتذللون إليها، ويطلبون منها جلب الخير ودفع الشر، هكذا ساد الشرك بالله فضاء الكون كله، فدعا النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أن لا إله إلا الله، فلا أصنام ولا أوثان، ولا عبادة آباء وأجداد، ولا عبادة أنبياء وصالحين، وقال: إن الله هو خالق هذا الكون، والمسيطر عليه، و واضع قوانينه التي يجري عليها، ولا أحد يساهمه في ذاته وصفاته وحكمه، ولا أحد يساعده على تدبير الأمور؛ فإنه ليس في حاجة إلى مساعدة أحد، هو الذي بيده الحكم، فله النفع والضر، فليس في الوجود من يستحق العبادة إلا هو، فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، إن الشرك لظلم عظيم.
إنه رأى الخلق قد انحدر إلى حضيض لا منتهى له، وما القلب الإنساني إلا نموذجًا كاملاً للحجارة أو أشد قسوة، المروءة لا وجود لها في معاجم حياتهم، وتتشنج أعصاب المجتمع بالهوى وتمزّق العفاف، و وأد البنات واغتصاب مال غيره، و ليس العيش إلا عبارة عن الاستجابة لدواعي العنفوان وماء العنقود وماء ثغر المشبوبة، وليس الإنسان إلا كالأنعام بل هم أضل، فلم يبق أحد من جراثيم الأمراض الخلقية إلا تغلغلت في جسمهم حتى عجفت أرواحهم، فلم يكادوا يميزون بين النور الوهاج والظلمة المدلهمة.
وأما الحياة الاقتصادية فكانت أسوأ حالاً مما تكون، فالتجارة كانت نجسًا وتطفيفًا، والبيع بيع الربا، ويسوفون الديون ويدافعون في أدائها، أو يأبونها على الأساس.
فحلّى النبي – صلى الله عليه وسلم – هولاء الناس بالمحامد الحميدة من عذوبة المنطق وليّن القول، ولين العريكة، وفساحة رقعة الحلم، وصداقة المعاملة، وطهارة الذيل، ونقاء الضمير، وبعد الشأو، وكرامة النفس، ونصاحة الجيب، وما إلى ذلك من الصفات الحسنة.
قد شهد العالم أن تعاليم النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أسرعت إلى تقلب البيئة رأسًا، وبدلت إنسانًا بإنسان آخر، فحولت الطغام والرعاع إلى أهل المكانة السامية، والمتوعر إلى لين الحاشية، والوقع المتبذل إلى المحتشم الشهم، وجعل صانع الأصنام هاصرها، ومدمن الضراوة والبريرية داعي المروءة ومنادي الأمن والقرار، وبدل من كان يقضي لياليه في الفواحش بمن يبيت لربه ساجدًا وقائمًا، وبدل من كان يبذل جل شجاعته في المعارك الأهلية بمن يقتحم في الغزوات في سبيل الله ليدفع عن دعوة الحق أمام من بغي عليه، وسد على أهله الطريق إلى خلق الله، وبدل من كان يبذر الأموال في الفسق والفجور بمن يمطر سحائب الصدقات على الفقراء والمساكين، وهكذا بدل كل خصلة شنيعة بخصلة حميدة، وقام بثورات لا بأس بها في كل ناحية من نواحي الحياة البشرية، فما أعظم هذه الثورات التي جعلت الإنسان إنسانًا حقيقيًا، وعلمته لماذا خلق؟ وما هو عليه من حقوق الله وحقوق عباده، وماله على غيره منها؟ فلا ريب أن بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – هي نقطة التحول في التاريخ البشري.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1435 هـ = يناير 2013م ، العدد : 3 ، السنة : 38