دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ عبد الرّؤوف خان الغزنويّ الأفغاني(*)
وفقًا للنظام المتَّبَع للمدارس الإسلامية ، في شبه القارة الهنديّة والباكستانيّة ، فتحت المدارس الإسلاميّة أبوابَها في شهر شوّال لاستقبال العام الدراسيّ الجديد (1425-1426هـ) واستقبال طلبة العلوم الدينيّة ، الذين يتّجهون إليها للالتحاق بها ، وللاستقاء من منابعها العلميّة العذبة ، وللاستفادة من مناهجها التربويّة .
لاشكّ أن هذه المدارس نعمة عظيمة من نِعَم الله تعالى على عباده المسلمين ، ولها خدمات جليلة ناجحة في سبيل نشر العقيدة الصافية ، ونشر الدين والدعوة إلى الله ، منذ تم تأسيسها إلى يومنا هذا ، إلاّ أن هناك جوانبَ سلبيّةً حدثت في بعض هذه المدارس؛ بل في أكثرها في الأعوام الأخيرة وتزداد يومًا فيومًا ، فيجب على القائمين على نظام هذه المدارس وعلى عامّة المسلمين ، أن يجتهدوا في إصلاح هذه الجوانب، وإلاّ فقد تؤدّي بها إلى دمارها وخرابها – ولا سمح الله – وأذكر بعض هذه الجوانب السلبيّة فيما يلي :
أوّلاً نظام التحاق الطلاّب الجدد :
يُرىٰ أن بعض الطلاب يلتحقون بالمراحل التي، لايستحقونها حسب أهليّتهم واستعدادهم العلميّ، إنما يلتحقون بها لأجل علاقتهم بالقائمين على النظام والإدارة ، أو لأجل أنهم أقاربهم ومن بلادهم ، وهذا، كما يضرّ تلكَ المؤسّساتِ العلميّةَ ونظامَها ، كذلك يضرّ ضررًا واضحًا أولئك الطلاّبَ ؛ فإنهم إذا أكملوا المنهج الدراسيّ بهذا الطريق ، وأخذوا شهاداتِ التخرّج وهم لايستحقّونها ، أصبحوا مصداقًا لِما قاله الرسول – ﷺ – خلال حديث : «… فأفتَوْا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» ومصداقًا لقوله ﷺ : إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» ، فمن اللازم أن يكون اختبار الالتحاق دقيقًا جدًّا وشاملاً ، حتى لايتمكن أيّ طالب أن يلتحق إلاّ بالمرحلة المناسبة له ، ولو كان من أولى القربىٰ .
ثانيًا تعيين الأساتذة :
إن الأستاذ هو العضو الأهمّ في النظام التعليمي والتدريسيّ ، فيجب في تعيين الأساتذة أن يكون الترجيح للأهليّة العلميّة والعمليّة ؛ ولكن المُشَاهَد أن أكثر المدارس لاتعتني بالمستوى العلمي والعملي اعتناءً مناسبًا ، إنما يكون الترجيح في تعيين الأساتذة والمدرّسين ، للعلاقة النسبيّة والإقليميّة والشخصيّة ، مع القائمين على الشؤون الإداريّة ، وهذه مصيبة عظيمة وسبب أساسيّ في انحطاط وتدنّي المستوى التعليمي والتربوي لِهذه المدارس، وليعلم هؤلاء القائمون على الشؤون الإدارية لِهذه المدارس ، أنها أمانة في أيديهم ، وأنهم مسؤولون عنها أمام الله عزّ وجلّ يوم القيامة : يَوْمَ لاَيَنْفَعُ مَالٌ وَلاَبَنُوْنٌ ، ويعلموا أن هذه المدارس ليست من ممتلكاتهم الشخصيّة يفعلون فيها ما يشاؤون ، إنما هي أمانة دينية من قِبَل المتبــرّعين وعـامّـــة المسلمين المحسنين في أيــديهم ، والله يأمرهم أن يؤدّوا هذه الأمانةَ إلى أهلها ، وأن لايخــونوا فيها أيّة خيانة ، وأن يأخذوا بالحيطة في جميع شؤونها .
ثالثًا توزيع الموادّ الدراسيّة :
إن المنهج التعليميّ المُتَّبَع في هذه المدارس ، المعروف بالمنهج النظامي منهج جامع ومُسْتَوْعِبٌ للموادّ الدراسيّة التي يحتاج إليها طلاّب العلوم الدينيّة من القواعد العربية ، والمعاني والبيان والعقائد ، والمنطق والفلسفة والفقه وأصوله ، والتفسير وأصوله والحديث وأصوله وما إلى ذلك، ولاشكّ أن المدرّسين يختلف بعضهم عن بعض في إلمامهم بهذه الفنون المُتَنَوِّعَةِ والموادّ الدراسية المختلفة ؛ فبعضهم له أهليّة إلمام بهذا الفن وهذه المادة والآخر له أهليّة وإلمام بغيرهما ، وبعضهم له أهليّة فائقة والآخر أهليّة متوسطة أو ضعيفة – وإن لم يعترف بذلك – ، وبعضهم متفرّغ للتدريس والمطالعة والمراجعة ، والآخر له أشغال لا تسمح له بتحضير المادّة الصعبة أو الكثيرة الجهات ، فالمناسب أن يكون توزيع الموادّ الدراسية بين المدرّسين حسب الأهليّة والإلمامِ السابقِ ذكرُهما ، ولكن الملاحَظ أنه لا يُراعىٰ ذلك أحيانًا ، فَيُفَوَّضُ تدريسُ بعضِ الموادّ الدراسيّة لمن ليس له أهليّتها ؛ لِمجرّد أغراض شخصية ، لا ينبغي لأهل العلم أن يهتمّ بها أو يراعيَها ، وإذا وُسِّدَ أمرُ التدريس إلى غير أهله فإن سوء النتائج منتظر ، ويغفل هــؤلاء أو يتغافلون عن قول الله عزّ وجلّ : «وَلاَتَتَمَنَّوْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلىٰ بَعْضٍ الآية. (النساء/32)
رابعًا أسلوب التدريس :
الملاحَظ أن المدرّس في بداية السنة الدراسية يطول في الكلام ، ويأتــي أحيانًا بما لا مناسبة له بالمادّة الدراسية ، أو له مناسبة ضعيفة بها ولكن لا نفع فيه للطالب ، ثم في انتهاء السنة يُسرع إسراعًا شديدًا فلا يبالي بحلّ الكتاب ولايعطي الموضوعَ حقَّه؛ بل قد لا يهتمّ بالقراءة الصحيحة لِعبارة الكتاب ، فلا نفعَ في البداية لتطويلها بلا طائل، ولا في النهاية لقصرها المُخِلّ، وإذا كان هذا الأسلوب مُسْتَخْدَمًا في تدريس كتب الحديث النبوي، فالضرر أوضح ؛ ففي البداية يكون الفقه غالبًا على الحديث ، وفي النهاية لايكون في حظّ الطالب ، إلاّ عبارة الحديث بالقراءة السريعة .
وقد تذكَّرْتُ بهذه المناسبة ما أوصاني به شيخي المحدّثُ الشهيرُ فضيلةُ الشيخ / عبد الفتاح أبوغدّه – رحمه الله – المتوفّى عام 1417هـ عند آخر لِقائي به في مدينة «الرياض» بتاريخ 18/7/1415هـ بعد ما كتب لي إجازة في الحديث النبوي الشريف ، فأوصاني وأكّد عليّ بهذه المناسبة ، أن آخذ في تدريس الحديث النبوي – لو قدّر الله لي ذلك – أسلوبًا مناسبًا مُعْتَدِلاً لا ذا تطويل بلا طائل ولا ذا إسراع شديد مُخِلّ ، وحيث أن الشيخ كانت له صلة وعلاقة بالمدارس الإسلامية ، في شبه القارة الهندية والباكستانية ، وكان مُعْتَرِفًا بخدماتها العلميّة والتربويّة الجليلة ، إلا أنه كانت له ملاحظة على أسلوب تدريس الحديث النبوي فيها فقال : «كيف يتجرّأ من يقوم بتدريس الحديث النبوي ، للناطقين بغير اللغة العربيّة في آخر السنة الدراسية ، على تدريس نحو مائة حديث أو أكثر خلال ساعةٍ واحدةٍ ، مارًّا عليها بسرعة ينثرها كنثر الدقل ؟» وأتذكّر أن الشيخ المغفور له قد أكّد عليّ في هذه الجلسة غير مرّة أن أُوْصِل وصيّتَه والتماسَه إلى القائمين على شؤون التعليم في هذه المدارس حسب المستطاع ، وقد تحدّثت غير مرّة حسب ما تيسّر لي منذ أن أوصاني إلى هذا اليوم حول الموضوع مع أهل العلم والقائمين على الشؤون الإدارية والتعليميّة ، وها أنا أُبلِّغ وصيّتَه عن طريق هذه السطور إلى قرّائها من أهل العلم ، وألتمس منهم أن يفكّروا في الموضوع وينظِّموا منهجًا دراسيًّا مناسبًا وأسلوبًا وسطًا فائقًا لِتدريس الموادّ الدراسيّة بشكل عام والحديثِ النبويّ بشكل خاصّ .
هذه جوانب سلبيّة في مدارسنا إِنْ أريد بذكرها إلاّ الإصلاحَ بشكل عام ، ولا أقصد مدرسةً دينيّة معهودة ولا مركزًا علميًّا خاصًّا ، وأودّ أن أضيف إلى ذلك أنه كان المؤسّسون الأوّلون لِهذه المدارس والقائمون على شؤونها التعليمية والإدارية أمثال سماحة الشيخ / محمد قاسم النانوتوي ، وسماحة الشيخ / رشيد أحمد الكنكوهي ، وفضيلة الشيخ / محمود الحسن الديوبندي الشهير بشيخ الهند ، وسماحة الشيخ / حسين أحمد المدني المعروف بشيخ الإسلام ، والشيخ محمد شفيع الديوبندي ، والشيخ / محمد يوسف البنوري ، والشيخ / عبد الحق الأكوروي وغيرهم من معاصريهم المخلصين يراعون قوانينَ الشريعة والأمانة في هذه الأمور أشدّ الرعاية ، وبذلك أثمرت جهودُهم العلميّة المخلصة وخدماتُهم التربويّة الفائقة ثمارًا ينتفع بها المسلمون في كل مكان وكل بلد على وجه المعمورة ، وأعتقد أنه قد لا يوجد بلدٌ على وجه الغبراء لم تصل إليه أشعّةُ هؤلاء شموس الهداية والتقوى والنشاط الديني بشكل أو بآخر، ولكن – وللأسف الشديد – بدأ جوّ هذه المدارس والمراكز العلميّة يتغيّر شيئًا فشيئًا بعد انصرام زمن هؤلاء السلف الصالح ، ويُلاحَظ أن كل يوم أَنكَرُ من سابقه ، يزداد حبُّ الرئاسة والشهرة ويقلّ الإخلاص ، يتطوّر التحاسد والتباغض وينعدم التعاطف والتراحم ، ويترقّى حبّ المالِ ومتاعِ الدنيا وتضيع الأمانةُ والإنابةُ إلى الله ، أصبحت الأهليّةُ عيبًا ومذمّة وعارًا والتملّقُ وِسامًا وتفوُّقًا ووقارًا .
ولِذا قد تسرّبت الفتنُ والمشكلاتُ إلى هذه المدارس ، وأصبح أعداء الإسلام يدبّرون المؤامراتِ ضدَّها ، وبدأ الكِلاب تنبح خلافها ، فلو أصلحنا حالَنا وحالَ هذه المراكز ، وأقمنا العدلَ والتعاطفَ والتراحمَ والإنابةَ إلى الله في بيئتها ، واقتفينا سلفَنا الصالحَ في الإيثار والإخلاص والتقوى ، وأعرضنا عن التحاسد والتباغض والأغراض الشخضيّة فسيحفظ الله تعالى هذه الحصونَ العلميةّ والعمليةّ عن كل المؤامرات والدسائس التي تُدَبَّر ضدَّها ، وسترى الأعينُ أن تلك الدسائسَ تذهب جُفاءً ، وأن مراكز الدين واليقين والتوكل تمكث في الأرض نشيطةً متطورةً ، وإن لم نتبّه لذلك ، وفَوَّتْنا الفرصةَ قبل استغلالها فقد يأتي يوم لا تبقى مدرسة – ولا سمح الله – ولا تبقى للمدير إدارتُه ، ولا للمدرّس تدريسُه، ولا للطالب دراستُه ، وما وقع في «الأندلس» و «بخارا» و «تركيا» وغيرها مثال واضح وشاهد عدل على ذلك ، فينتخب الله لِصيانة دينه وخدمة كتابه بعد ذلك أقوامًا آخرين لايكونون أمثالَنا ، وأختم كلمتي بمسك الختام «وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُوْنُوْا أمْثَالَكُمْ» (محمد/38)
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني 1426هـ = أبريل – يونيو 2005م ، العـدد : 4–3 ، السنـة : 29.
(*) أستاذ سابقًا بالجامعة الإسلامية Mدارالعلوم / ديوبندL بالهند وأستاذ حاليًّا بجامعة العلوم الإسلامية ، كراتشي ، باكستان.