دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ أشرف عباس القاسمي (*)
الإمام محمد بن الحسن الشيباني وأثره في تدوين الفقه والسير:
الإمام محمد بن الحسن الشيباني وأثره في تدوين الفقه: الإمام محمد بن الحسن يعتبر من طليعة فقهاء الأمة ممن لهم فضل كبير في تدوين هذا العلم الشرعي الجليل. ومؤلفاته في الفقه مهّدت سبيلاً في الكتابة واخترعت طريقًا سلكه جميع أصحاب المذهب ممن بعده. أخذ الفقه عن أبي حنيفة وأبي يوسف وبرع حتى أصبح إماماً جليلاً لم يدرك شأوه الا القليل من الرجال، وله دور كبير في نشر مذهب أبي حنيفة وتدوين أقواله، وكان من أبرز أعضاء المجمع الفقهي الذي كان يرأسه أبو حنيفة في الكوفة.
ذكر الذهبي في جزئه: قال الشافعي: ما رأيت أعقل ولا أفقه ولا أزهد ولا أورع وأحسن نطقاً وإيرادًا من محمد بن الحسن(46). وقال إبراهيم الحربي: قلت للإمام أحمد: من أين لك هذه المسائل الدقاق؟ قال: «من كتب محمد بن الحسن»(47).
«اجتمع لمحمد بن الحسن مالم يجتمع لغيره من أصحاب أبي حنيفة غير شيخه أبي يوسف، فهو قد تلقى فقه العراق كاملاً وقد صقله القضاء؛ إذ تلقى عن أبي يوسف القاضي، وتلقى فقه الحجاز كاملاً عن شيخ المدينة مالك، وفقه الشام عن شيخ الشام الأوزاعي، وكانت له قدرة ومهارة في التفريع والحساب، ويملك عنان البيان، ثم تمرس بالقضاء، فكانت هذه الولاية دراسة أخرى أفاد علماً وتجربة، وقرّبت فقهه من الناحية العملية، وجعلته ينحو نحو العمل، ولا يقتصر على التصور والنظر المجرد، وكان في محمد اتجاه إلى التدوين، فهو الذي يُعد بحقٍ ناقل فقه العراقيين إلى الأخلاف، ولم يكن نقله مقصورًا على العراقيين، فقد روى الموطأ عن مالك ودوّنه، وتعد روايته له من أجود الروايات وقد كان يذكر ردّه على مالك وأهل الحجاز فيما كان يعتنقه هو من آراء العراقيين»(48).
مرتبته في الفقه والاجتهاد
والحق أنه امام مجتهد مطلقاً، صاحب ملكة كاملة في الفقه والنباهة وفرط البصر والتمكن من الاستنباط المستقل من أدلته كالمجتهدين الآخرين، وهو مجتهد منتسب إلى الامام أبي حنيفة، لأنه اعتد قواعده وسار على طريقته في الاجتهاد والفتوى، وعدّه ابن الكمال باشا في الطبقة الثانية من طبقة المجتهدين في المذهب القادرين على استخراج الأحكام عن الأدلّة على حسب القواعد التي قررها أستاذهم أبوحنيفة وعيّنها، فإنهم وإن خالفوه في بعض الأحكام الفرعية؛ لكنهم يقلدونه في قواعد الأصول، وبه يمتازون عن العارضين في المذهب ويفارقونهم كالشافعي ونظرائه المخالفين لأبي حنيفة في الأحكام غير المقلدين له في الأصول».
ولكن لم يرض به العلماء وعابوا على ابن الكمال أنه حطّ محمد بن الحسن عن مرتبته في الإجتهاد ورتبته في الفقه، فإن كتب محمد متضافرة بأنه مجتهد مطلقًا وخالف أباحنيفة في كثير من آرائه، واستنبط الأحكام من مصادر التشريع مثل استنباط الأمة المجتهدين الآخرين، فما الذي حطّه عن رتبة الاجتهاد المطلق؟ وقد ساق الشهاب المرجاني بحثًا علميًا وردّ على ابن الكمال ردًّا بليغًا، إلى أن قال: فليت شعري ما معنى قوله؟ أن أبايوسف ومحمدًا وزفر وإن خالفوا أباحنيفة في الأحكام؛ لكنهم يقلدونه في قواعد الأصول، ما الذي يريد من الأصول؟ وحالهم في الفقه إن لم يكن أرفع من مالك والشافعي وأمثالهما فليسوا بدونهما؛ ومن ذلك أن الأصل في تخفيف النجاسة تعارض الأدلة عند أبي حنيفة واختلاف الأمة عندهما؛ بل قال الغزالي: إنهما خالفا أبا حنيفة في ثلثي مذهبه، ونقل النووي في كتابه الأسماء واللغات عن أبي المعالي الجويني: إن كل ما اختاره المزني أرى أنه تخريج ملتق بالمذهب فإنه لايخالف أقوال الشافعي لا كأبي يوسف ومحمد فإنهما يخالفان أصول صاحبهما»(49).
فالصحيح وما ذهب إليه المحققون الأحناف أنه بلغ رتبة الاجتهاد المطلق؛ لكنه حافظ على انتسابه لأبي حنيفة عرفاناً لجميل أستاذه عليه في تكوينه العلمي وفرط إجلاله لمحله ورعايته لحقه وجرى في تصحيح مذهبه وبيانه لمن يتمسك به لاعتقاده أنه أعلم وأورع وأحق للاقتداء والأخذ بقوله وأوثق للمفتي وأرفق للمستفتي.
مصنفاته: لاشك أن الإمام محمد الشيباني قد سبقه البعض في الكتابة في الفقه الإسلامي والقانون الدولي؛ ولكن هو أول من أبرز في هذا المجال، وكتبه تلقتها الفقهاء والعلماء بقبول واسع، فما من فقيه بعده إلا هو يعول عليها، والكتب الفقهية التي ألفت فيما بعد، كتبت على الطراز الذي اخترعته قريحة محمد. وحرصُه الشديد على العلم، والانقطاع إليه كل الانقطاع، والابتعادُ عن المناصب الرسمية، وحذُوه فيه حذوَ أستاذه أبي حنيفة، وتوفر الوسائل لديه، والدأب في الدراسة والمطالعة؛ من الأسباب التي أدت به إلى المنزلة الرفيعة في هذا الشأن.
قال العلامة زاهد الكوثري: لم يصل إلينا من أي عالم في طبقته، كتب في الفقه قدر ما وصل إلينا من محمد بن الحسن، بل كتبه هي العماد للكتب المدونة في فقه المذاهب… فالأسدية التي هي أصل المدوّنة في مذهب مالك، إنما ألفت تحت ضوء محمد، والشافعي إنما ألف قديمه وجديده بعد أن تفقه على محمد وكتب كتبه وحفظ منها ما حفظ، وابن حنبل كان يجاوب في المسائل من كتب محمد وهكذا من بعدهم من الفقهاء(50).
فكان الشيباني كاتباً وافر الإنتاج، وله فضل كبير وأثر جسيم في تدوين المذهب الحنفي وسائر المذاهب الأخرى.
كتب محمد بن الحسن الشيباني على ثلاثة أقسام:
1 – قسم في الحديث: ومن هذا القسم كتاب الآثار وكذا كتاب الحج وموطؤه.
2 – قسم في الفقه وقد اشتهر وعُد من ظاهر الرواية: وهي ستة كتب، الجامع الصغير والجامع الكبير والمبسوط والزيادات والسير الصغير والسير الكبير(51).
3 – قسم في الفقه وغير مشتهر ومن غير ظاهر الرواية: كمثل الهارونيات والكيسانيات والرقيات وغيرها من كتبه.
أثر الإمام الشيباني في تدوين السير
إن الفقهاء القدامى كانوا يتناولون موضوع السير إما في باب الجهاد أو في أبواب أخرى كالمغازي والغنائم والردة؛ لكن أول فقيه عالج موضوع السير على أنه فرع منفصل عن الشروع واعتنى به عناية بالغة وفتح باباً واسعاً يشمل العلاقات الدولية الإسلامية بمعنى الكلمة؛ هو الإمام محمد بن الحسن الشيباني، وإن الكتابين اللذين خصهما لمعالجة الموضوع «السير الصغير» و«السير الكبير» من أهم ما ألف في الموضوع، فالسير الصغير يرويه عن أبي حنيفة، وحاول الأوزاعي الرد على سير أبي حنيفة فجاوبه أبويوسف، ولعله وصف بهذا العنوان «الصغير» بعد ما ألف كتاباً ضخماً له «السير الكبير» ومن الممكن أن يكون الشيباني قد ألف كتاباً ثانيًا يختلف شكلاً(52).
وكتاب السير الكبير هو من أواخر مؤلفاته وأكثرها عن السير إسهابًا وتدقيقًا، وشرحه الفقيه الجمال الحصيري والفقيه محمد بن أحمد السرخسي، وشرحُه معروف طبع أكثر من مرة، وما قيل في سبب تأليف هذا السفر العظيم، فهو في غاية من البساطة ولا يكاد يصح؛ يقول السرخسي الذي وضع شرحاً له، إن السبب الذي حمل الشيباني على تأليفه هو أن كتاب السير الصغير وقع في يد عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي – الفقيه السوري الشهير – فسأل عن مؤلفه، فقيل له إنه لمحمد العراقي، فقال: ما لأهل العراق والتصنيف في هذا الباب؟ فإنه لاعلم لهم بالسير، ويوضح السرخسي قول الأوزاعي بأن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من جانب الحجاز والشام دون العراق، فأهل الحجاز والشام أعلم بهذه المغازي وألصق بها، فبلغ قول الأوزاعي هذا محمدَ بن الحسن فاستاء كثيرًا وانصرف إلى تاليف هذا الكتاب إرضاءًا لكبريائه، ويقال إن الأوزاعي عند ما تصفح الكتاب قال: «لولا ما ضمنه من الأحاديث، لقلت إنه يضع العلم من عند نفسه، وإن الله عيّن جهة إصابة الجواب في رأيه، صدق الله، وفوق كل ذي علم عليم»(53).
فإن الأوزاعي توفي سنة 158هـ، وما كان عندئذ ألف الشيباني هذا الكتاب الضخم؛ فإنه من آخر مؤلفاته فكيف وصل إلى الأوزاعي؟ حتى تصفح الكتاب وقال ما قال فيه من كلمات الإشادة والتقدير. يقول الدكتور مجيد خدوري: «لا يعقل أن يكون الأوزاعي قد قرأ كتاب الشيباني «السير الكبير» لأنه كان قد توفي قبل أن ألّفه الشيباني، على أنه من الواضح أن كتاب الشيباني «السير الصغير» في جوهره، سواء أكان رواية لسير أبي حنيفة أم إملاء أبي يوسف عليه؛ فإنه لايعد كونه شرحاً لآراء أبي حنيفة عن السير(54).
وقد تناولت مصنفات الشيباني الأخرى موضوع السير، فهذا كتاب الأصل ويعرف بالمبسوط أيضاً تناول قدرًا كبيرًا من هذا الموضوع، وكذا كتاب الجامع الصغير وكتاب الجامع الكبير والكتب الأخرى تناولت بعض نواحي السير التي تنظم علاقات المسلمين بغيرهم من الشعوب.
«لقد سعى الشيباني إلى تدوين الثروة الفقهية التي أخذها عن أبي حنيفة وأبي يوسف، ويحكم كونه فقيهًا بارزًا؛ فإنه أضاف معلومات جديدة إلى تلك الثروة وأمد الأجيال بمواد ومصادر جديدة تتعلق بهذا العلم، وعطاء الشيباني بالنسبة إلى طلاب القانون الدولي الإسلامي عطاء غنى لا يستغنى عنه، كما أنه يحق لنا أن نعتبره أول واضع للقانون الدولي الإسلامي»(55).
فالإمام محمد بن الحسن الشيباني – رحمه الله تعالى – له أثر بالغ ودور بارز في تدوين الفقه وعلم السير.
ولله الحمد أولا وآخرا.
وصلى الله على النبي الكريم.
محمد وآله وصحبه أجمعين.
* * *
الهوامش:
الإمام الكوثري: بلوغ الأماني 56.
الحافظ الذهبي: سير 9/136.
محمد أبو زهرة: أبوحنيفة، ص 208، 209.
العلامة الكوثري: بلوغ الأماني، ص86-87.
العلامة زاهد الكوثري: بلوغ الأماني 60-61.
ابن عابدين الشامي شرح عقود رسم المفتي، ص47.
انظر مقدمة «القانون الدولي الإسلامي» ص57.
السرخسي: شرح كتاب السير الكبير 1/3.
مجيد خدوري: تقديم «القانون الدولي الإسلامي» ص57.
المصدر السابق.
* * *
(*) أستاذ بالجامعة
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1434 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2013م ، العدد : 11 ، السنة : 37