الأدب الإسلامي
بقلم : الأستاذ صلاح عبد الستار محمد الشهاوي (*)
طالعت بالداعي على الموقع الإلكتروني للجامعة الإسلامية بالهند عدد رمضان – شوال 1431هـ / أغسطس – اكتوبر 2010م مقال – جمال فن التوقيعات المعنوي – بقلم د. مسرت جمال، الأستاذة سيدة عزيز.
ولما كان لى بهذا الموضوع اهتمام وكان هناك ما يقال كان هذا المقال:
يمتاز أدبنا العربي بخصائص كثيرة سواء من حيث التنوع أو الأساليب. وإذا كان قد أصابه في عصور الركود والانحلال، شيء من التخلف في بعض نواحيه، لا يزال يعاني من آثاره حتى اليوم. فإنه مع ذلك لم يفقد شيئاً من حيويته، وروعة خصائصه القديمة، التي جعلت منه خلال العصور الوسطي أعظم الآداب الحية، وأغناها، وأخصبها وأوسعها مدي.
ومما لاشك فيه أن الأدب العربي ، يتمتع من حيث الأساليب البيانية بتنوع، قلما يحظي به أي أدب آخر من الآداب القديمة أو الحية، وهو يتفوق في ذلك أيضاً من ناحية المقدرة البيانية والروعة علي أي أدب آخر. ولقد أشاد كثير من أكابر النقدة اللغويين المستشرقين بهذه الخاصة البارزة من خواص العربية وآدابها.
من هذه الأساليب البيانية التي يكاد ينفرد الأدب العربي بأصوله وتقاليده الراسخة، التي جعلت منه فنا حقيقياً من فنونه، التوقيعات الأدبية.
فالتوقيعات الأدبية تُعد فناً أدبياً نثرياً احتل مكانة لائقة به في تاريخ الأدب العربي بين سائر الفنون الأدبية النثرية، كالخطابة، والكتابة، والرسائل، والوصايا، والمقامات.
والتوقيعات مُشتقة في اللغة من التوقيع الذي هو بمعني التأثير. يقال «وقع الدَبَر- بفتح الدال والباء وهي قروح تصيب الإبل في ظهورها من جراء الحمل – ظهر البعير إذا اثر فيه. وكذلك الموقع (كاتب التوقيع) يؤثر في الخطاب، وقيل: إن التوقيع مشتق من الوقوع، لأنه سبب في وقوع الأمر الذي تضمنه، أو لأنه إيقاع الشيء المكتوب في الخطاب أو الطلب.
والتوقيع: ما يوقع في الكتاب. والتوقيعات جمع توقيع، وفي اللسان «التوقيع في الكتاب: إلحاق شيء فيه بعد الفراغ منه، وقيل: أن يُجمل الكاتب بين تضاعيف سطور الكتاب مقاصد الحاجة ويحذف الفضول».
والمراد به: كلام بليغ موجز يكتبه الخليفة أو ولي الأمر في أسفل الكتب الواردة إليه المتضمنة لشكوى أو رجاء أو طلب إبداء الرأي في أمر من أمور العامة أو الخاصة.
والقائم بالتوقيع قد يلحق شيئاً في الكتاب (الرسالة) بعد الانتهاء من الكتابة، وقد يجمل (يوجز) القصد من الكتاب، وقد يحذف ما يراه من الزيادات أو ما يراه غير مناسب، وقد يعدل شيء مما ورد في الكتاب،
والتوقيع الأدبي ليس التوقيع المعروف الآن (الإمضاء) وإنما هو أقرب ما يكون إلى ما يطلق عليه في لغة الإدارة الحكومية (الشرح على المعاملات والرسائل الواردة) (التوجيه) عندما يرفع الأمر أو الطلب إلى صاحب القرار، ويعلق عليه بما يراه.
والطريف أن كلمة – التوقيعات – بلفظها الجمعي ومفهومها الأدبي لم ترد في المعاجم القديمة والحديثة إلا في دائرة المعني اللغوي ولا تخرج عنه في شيء الهم إلا في بعض التفاصيل التي آثرتها كتب الأدب ولم تؤثرها كتب اللغة وأصبح مفهومها بين الأدباء عبارة عن رأي أو تعليق أو تعقيب يكتبه الحاكم نفسه أو يمليه إملاء – وهذا هو الغالب – علي كاتب الديوان تعليقاً علي ما يعرض عليه من شؤون الدولة ومن شكاوي ومظالم، أو أخبار أو بريد وارد لتوه من الولاة في مختلف أنحاء البلاد. ثم ترد ثانية إلى الولاة حاملة هذا «التوقيع» بمفهومه الأدبي ن بمعني آخر: حاملة «عبارة مختصرة» هي رأي المسؤول وتعليقه علي ما ورد إليه من بريد مكتوب «وهي أشبه بما يسمي اليوم – تأشيرات- المسئولين، ومن هنا اكتسب هذا اللون من العبارات اسم التوقيعات، ودخل عالم الكتابة الفنية تحت هذا الاسم.
والتوقيع الأدبي فن من فنون الأدب العربي نشأ في ظل انتشار الكتابة وتنظيم الدواوين الحكومية ولم يكون معروفا لدى الجاهلية لانتشار الأمية وندرة الذين يجيدون الكتابة والتوقيعات ضرب من الإيجاز ولون من ألوان البلاغة ولقد ظهرت في عهد الخلفاء الراشدين عندما استدعاها اتساع الدولة الإسلامية حيث اضطر الخلفاء والأمراء والولاة إلى الكتابة برأيهم على ما يرفع إليهم من مظالم ومطالب. ومما ساعد على وجود ما يسمى بالتوقيعات الأدبية عناية الخلفاء والسلاطين وأمراء بإنشاء ما يسمى في ذلك العهد بديوان الإنشاء وكان هذا الديوان يلقى العناية الكاملة من رجال البلاط ويمهدون إلى رجال هذا الديوان السبل للاضطلاع بالمناصب التي تؤهلهم لها مواهبهم الأدبية والفنية وكان يلي هذه المناصب من نبغ من المحدثين من رجال الأدب ذو البديهة الحاضرة والفطنة والبلاغة وكان منصب الموقع بديوان الإنشاء يعادل بعض الوظائف القضائية.
ثم انتشر هذا الفن الأدبي في العصر الأموي ثم عنى العباسيون بفن التوقيعات وأبدعوا فيه ولهم توقيعات مشهورة ومحفوظة وكذلك أبدع الأندلسيون في هذا الفن ثم ضعف هذا الفن بعد ذلك حتى كاد أن يختفي. والتوقعات اكثر ما كان اقتباسا من آية قرآنية أو حديث شريف أو مثل مشهور أو حكمة معترف بها والتوقيعات ردود وأجوبة مسكته مكتوبة ويشترط فيها أن تكون بليغة موجزة واضحة الدلالة على المراد لأن العرب يريدون بلاغتهم في الإيجاز وروعة تعبيرهم في الكلام القليل العدد العامر بالمعاني والدلالات لذا نراهم ينفرون من فضول الكلام وحواشيه.
* نشأة فن التوقيعات:
التوقيعات فن أدبي نشأ في حضن الكتابة، وارتبط بها، ولذلك لم يعرف عرب الجاهلية التوقيعات الأدبية ولم تكن من فنون أدبهم، لسبب بسيط وهو أن الكتابة لم تكن شائعة لديهم بل الذين كانوا يعرفون الكتابة في هذا العصر قلة نادرة، لذلك كان الأدب الجاهلي يتضمن الفنون الأدبية القائمة علي المشافهة، والارتجال، كالشعر والخطابة، والوصية، والمنافرة، وغيرها من الفنون القوليَّة القائمة على ذلاقة اللسان، والبراعة في الإبانة والإفصاح، وإصابة وجه الحق ومفصل الصواب كالحكم والأمثال، كذلك لم تُعرف التوقيعات في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الكتابة أيضاً لم تكن شائعة، وقد جاء الإسلام، وليس يكتب بالعربية غير سبعة عشر شخصاً. (قد يصادف الباحث كثيراً من العبارات التي تتشابه وتتماثل مع التوقيعات في أسلوبها ومعناها ومبناها من حيث الهدف والغاية، والجرس الموسيقي والايجاز وجودة السبك، غير أن المؤرخين لم يعدوا هذا اللون من الأقوال من فنون التوقيعات لسبب واحد، وهي أنها صدرت عن صاحبها مشافهة، ولم تدون في حينها في أعقاب رسالة أو رد مكتوب، من ذلك علي سبيل المثال: ما روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي تميمة الهجمي: «إياك والمخيلة، فقال يا رسول الله: نحن قوم عرب، فما المخيلة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبل الإزار» فقوله: سبل الإزار أقرب إلي فن التوقيعات غير أنها قيلت في حينها مشافهة ولم تدون في أعقاب رسالة.
ومن ذلك أيضاً ما روي أن رجلاً لحن في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرشدوا أخاكم فقد ضل).
فالتوقيع إذاً من الكلام الإسلامي لأن العرب لم تعرفه قديما وإن كان مأخوذًا من المعاني العربية قبل الإسلامية. فقد كانت المسائل تعرض على الخلفاء والوزراء وذوي الأمر فيلمون بما فيها في سرعة ووعي ويعلقون تعليقات تجمع من الإيجاز وسلامة العبارة ودقة الفكرة وقوتها بما يغني عن الإطناب والاسترسال بالشرح وعرف هذا التعليق بالتوقيع. وبلغ من أهمية التوقيعات الأدبية داخل. ما يسمى بديوان الإنشاء أن خصه المؤرخ المصري – فضل الله العمري بكتاب كامل سماه – المصطلح الشريف – وفيه يشرح رتب المكاتبات السلطانية وإجراءاتها وكيفية التوقيع على الرسائل الواردة إلى السلطان. حيث كان للعمرى اكبر الفضل في تجديد هذه النظم أيام توليه ديوان الإنشاء وعلى يده بلغت ذروتها من الافتنان والتناسق والدقة. كما خص هذا الفن البديع – أبو العباس القلقشندى في موسوعته «صبح الاعشي» برسالة موجزة بين فيها ما يحتاج إليه موقع الإنشاء من المواد وما تقتضيه من أصول ورسوم وأساليب.
وقد كان الخلفاء والأمراء يوقعون على الرسائل والمعاملات بأنفسهم أو يستعينون بعدد من الكتاب القادرين على الكتابة الفنية الرائعة. ويقول ابن خلدون في ذلك «ومن خطط الكتابة التوقيع وهو أن يجلس الكاتب بين يد السلطان في مجالس حكمة وفصله ويوقع على القصص المرفوعة إليه أحكامها والفصل بما تلقاه من السلطان بأوجز لفظ وابلغه فإما أن تصدر كذلك وإما أن يحذو الكاتب على مثالها في سجل يكون بيد صاحب القصة ويحتاج الموقع إلى عارضة قويه من البلاغة يستقم بها توقيعه».
ومن أقدم ما عرف من هذا الفن ما جاء عن الخليفة الراشد – أبو بكر الصديق – في توقيعه على رسالة خالد بن الوليد . فقد كتب خالد رضى الله عنه إلى أبى بكر الصديق يستشيره في أمر الحرب وكيف تكون فكتب له أبو بكر «احرص على الموت توهب لك الحياة» وما أروعة من توقيع وما أجملة من حكمة بالغة خالدة أصبحت شعار للمجاهدين الصادقين ويبدو أن مثل هذا التوقيع لقي استحسانا من خالد بن الوليد ورجالة فأمر بإذاعته بين الجند وأنتشر خبر هذا التوقيع حتى حاول الكثيرين من بعدة السير على منواله فكان ذلك بداية لهذا الفن الجميل.؟
ثم شاعت التوقيعات في عهد عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، لشيوع الكتابة، وامتد هذا الشيوع بصورة أوسع في عصر بني أمية، أما في العصر العباسي ومع ازدهار الكتابة الفنية وتعدد أغراضها، وحلولها محل الخطابة في كثير من شؤون الدولة وقضاياها، فأصبح الكاتب البليغ مطلباً من مطالب الدولة تحرص عليه وتبحث عنه لتسند إليه عمل تحرير المكاتبات، وتحبير الرسائل في دواوينها التي تعددت نتيجة لاستبحارها واتساع نطاقها، وكثرة ما يجبي من الخراج من الولايات الإسلامية الكثيرة المتباعدة، وأصبح لا يحظي بالوزارة إلا ذوو الأقلام السيالة من الكُتاب والبلغاء المترسلين، كالبرامكة- الذين نبغوا في كتابة التوقيعات حيث عمدوا في كتاباتهم إلى الاختصار الشديد، وقد نُسب إلى يحي بن جعفر البرمكي (كان جعفر من علو القدر، ونفاذ الأمر وبعد الهمة، وعظم المحل وجلاله النزلة عند هارون الرشيد بحال انفرد بها، وكان سمح الأخلاق طلق الوجه ظاهر البشر، جواداً سخياً معطاء، فصيحاً لسنا بليغاً، قتله الرشيد في خبر مشهور سنة 187هـ) أنه كان يوصي الكّتاب بقوله «إذا أردتم أن تكون كتبكم كلها توقيعات فافعلوا» – والفضل بن الربيع، و الفضل و الحسن ابني سهل، وغيرهم من الكُتاب الذين جمعوا بين الوزارة والكتابة الفنية البليغة. وقد ألمّ بكثير من أخبارهم وآثارهم كتاب الوزراء والكتاب لأبي عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري المتوفى سنة 331هـ ، وكتاب تحفة الوزراء المنسوب لأبي منصور الثعالبي المتوفى سنة 429هـ.
وقد أنشأ العباسيون للتوقيعات ديوان خاص سمّي بديوان التوقيعات، واسند العمل فيه إلى بلغاء الأدباء والكتاب ممن استطارت شهرتهم في الآفاق وعرفوا ببلاغة القول، وشدة العارضة، وحسن التأني للأمور والمعرفة بمقاصد الأحكام وتوجيه القضايا. يقول ابن خلدون في ذلك: «واعلم أن صاحب هذه الخطة لابد أن يتخير من ارفع طبقات الناس، وأهل المروءة والحشمة منهم، وزيادة العلم وعارضة البلاغة، فإنه معرض للنظر في أصول العلم لما يعرض في مجالس الملوك، ومقاصد أحكامهم، مع ما تدعو إليه عشرة الملوك من القيام على الآداب، والتخلق بالفضائل مع ما يضطر إليه في الترسيل، وتطبيق مقاصد الكلام من البلاغة وأسرارها».
وكان للتوقيعات البليغة الموجزة رواج عند ناشئة الكُتاب وطلاب الأدب، فأقبلوا عليها ينقلونها ويتبادلونها ويحفظونها، وينسجون علي منوالها.
يقول ابن خلدون «كان جعفر بن يحي البرمكي يوقع القصص بين يدي الرشيد ويرمي بالقصة إلى صاحبها، فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف فيها علي أساليب البلاغة وفنونها حتى قيل: أنها كانت تباع كل قصة منها بدينار.
* مواصفات التوقيع الأدبي:
ليس كل توقيع يصلح أن يكون توقيعاً أدبياً وإنما يشترط في التوقيع لكي يكون كذلك الشروط التالية:
– الايجاز: وهو أن تكون ألفاظه قليلة معدودة ولكنها تدل على المعني الغزير.
– البلاغة: وهو أن يكون التوقيع مناسباً للحالة، أو القضية التي قيل فيها.
– الإقناع: وذلك أن يتضمن التوقيع من وضوح الحجة وسلامتها ما يحمل الخصم علي التسليم، ومن قوة المنطق وبراعته ما يقطع علي صاحب الطلب عودة المراجعة.
* أنواع التوقيعات الأدبية:
– قد يكون التوقيع آية قرآنية تناسب الموضوع الذي تضمنه الطلب، أو اشتملت عليه القضية. والتوقيع بألفاظ القرآن حسن في الجد من الأمور، محظور في المزح والمطايبة.
– وقد يكون التوقيع ببيت من الشعر.
– وقد يكون مثلاً سائراً.
– وقد يكون حكمة .
– وقد يكون غير ذلك.
* أسرار الجمال الفني في التوقيعات:
لعل أبرز مظاهر الجمال في هذا الفن، قصر الجملة، وهو الغالب علي هذا الفن، فقد يأتي التوقيع في كلمة واحدة تفي بالغرض، وقد يكون جملة قصيرة أو جملة كبري مكونة من جملتين أو أكثر، ومن النادر أن يكون مطولاً في جمل عدة.
ويمتاز فن التوقيع بالإيجاز الشديد الذي يلف المضمون، وهو إيجاز لا يخل بالمعني، إضافة إلي السجع المطبوع وليس المفتعل المصنوع، مثل: – استبدل بكاتبك وإلا استبدل بك – و مثل:- طهر عسكرك من الفساد يعطيك النيل القياد- وإذا جاء التوقيع أكثر من جملة فسنجد تقسيماً متوازنا بين الجمل الصغرى بحيث تنتهي كل جملة بسجعة مغايرة للتي بعدها مكونة جملة كبري هي التوقيع، مثل:- كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما اعتدلت وإما اعتزلت- علي أن السجع ليس شرطاً أساسياً في جمال التوقيع ،فقد يخلو من السجع في بعض الأمثال ويستعيض عنه بجمال النظم. ويتجلي في أكثر التوقيعات عنصر المفاجأة المتمثل في صيغة الطلب والأمر والنهي والتهديد أحياناً أو الوعيد، وهي تعد مكونات فن التوقيعات.
* أهمية التوقيعات الأدبية وأثرها في السياسة والأدب:
أسهمت التوقيعات الأدبية منذ أبكر عصورها في توجيه السياسة العام للدولة الإسلامية، في عصر صدر الإسلام، ودولة بني أمية، ودولة بني العباس، والدولة العربية بالأندلس، والمغرب العربي. وكان الخلفاء في أكثر الأحايين هم الذين يتولون توجيه ما يرد إليهم من رقاع أو خطابات، أو معاملات كما نسميها بلغة عصرنا، وكان التوجيه في حد ذاته توقيعاً أدبياً موجزاً يتضمن الرأي، أو ما يجب إجراؤه، ويكلون التوجيه والتوقيع إلي بعض الكتاب البلغاء تحت إشرافهم في بعض الأحيان وكان ذلك كله ثروة لا تقدر بثمن في بناء الدولة وسياسة الناس واعتناء التاريخ بالنافع المفيد وإثراء الأدب والفكر. ولعلنا لا نبعد إذا ذهبنا إلي أن التوقيعات كانت في سياقها التاريخي محطة أساسية لتدريب الناشئة علي فنون القول، واكتساب المهارات اللغوية والبلاغية، وعلي الرغم من قلة ما وصلنا منها فإنها مازالت مجالا واسعاً لمن يريد أن فن الكتابة في العصر العباسي، ولمن يريد أن يتعرف جانباً من أنماط العلاقة بين الحكام وولاتهم.
* نماذج رائعة من التوقيعات الأدبية …
من أجمل التوقيعات التي تؤثر عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ما روى أنه رفعت شكوى على عمر بن الخطاب من أحد ولاته فوقع إليه «كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت».
* بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إلى عمرو بن معد كرب أن يبعث بسيفه المعروف بالصمصامة، فبعث به إليه. فلما ضرب به وجده دون ما كان يبلغه عنه فكتب إليه في ذلك فوقع عمرو – إنما بعثت إلي أمير المؤمنين بالسيف ولم أبعث بالساعد الذي يضرب به.
* كتب عياض بن غنم إلى خالد بن الوليد يستنجده حين كان يحاصر دومة الجندل فكتب اليه خالد من خالد إلى عياض: إياك أريد؛
لبثت قليلا تأتيك الحلائب
يحملن أسارا عليها القاشب
كتائب تتبعها كتائب
– (الحلائب النوق وهي أقوى على قطع الصحراء من سواها، القاشب: السيف الصقيل المجلو).
* كتب سليمان الفارسي إلى على بن أبي طالب يسأله كيف يحاسب الناس يوم القيامة فوقع جوابه «يحاسبون كما يرزقون».
* كتب ربيعة بن عسل اليربوعي إلى معاوية يسأله ليعينه في بناء دارة بالبصرة لكنه بالغ حيث اراد الحصول على أثنى عشر ألف جذع نخلة ليبني بها بيته وقد كانت تسقف بجذوع النخل فوقع الخليفة معاوية بهذا التوقيع المتضمن للاستفهام الاستنكاري «أدارك في البصرة أم البصرة في دارك؟؟؟ !!».
* كتب عبد الله بن عامر إلى معاوية بن أبي سفيان يسأله أن يقطعه مالا بالطائف فكتب إليه: عش رجبا تر عجباً.
* وروى أن يزيد كَتَبَ إلى إسماعيل بن على العمشي: أن اكتب لنا بمناقب على ووجوه الطعن على عثمان رضي الله عنهما فكتب العمشي: «لو أن عليا لقي الله جل وعز بحسنات أهل الدنيا لم يزد ذلك في حسناتك. ولو لقيه عثمان رضي الله عنه بسيئات أهل الأرض لم ينقص ذلك من سيئاتك».
* كتب مسلم بن عقبة إلى يزيد بن معاوية يخبره بالذي صنعه ببعض الخارجين على الدولة الأموية فوقع يزيد في أسفل كتابه «فلا تاس على القوم الفاسقين».
* ووجد الحجاج على منبره مكتوبا ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ (الزمر 8) فكتب تحته ﴿مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (آل عمران 119).
* كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان أن يحمله على أخذ أموال السواد ، فكتب عبد الملك علي الرسالة: «لا تكن علي درهمك المأخوذ أحرصَ على درهمك المتروك، وأبق لهم لحوما يعقدوا بها شحوما».
* ورُفع إلى الحجاج بن يوسف عن محبوس ذكروا أنه تاب فوقع: «ما على المحسنين من سبيل».
* كتب قتيبة بن مسلم الباهلي إلي سليمان بن عبد الملك ابن مروان الخليفة الأموي يتهدده بالخلع، فوقع سليمان في كتابه:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامـة يا مــربع
وأعاده إليه فغضب قتيبة وأرسل إليه رسالة أخري يتهدده بالخلع فوقع فيها سليمان «والعاقبة للمتقين».
* ورفع متظلم شكواه إلى هشام بن عبد الملك فوقع فيها «أتاك الغوث إن صدقت وجاءك النكال إن كذبت» * وروي أن هشام بن عبد الملك كتب إلى ملك الروم: من هشام أمير المؤمنين إلى الملك الطاغية فكتب إليه: ما ظننت أن الملوك تسب وما الذي يؤمنك أن أجيبك: «من ملك الروم إلي الملك المذموم».
* كتب عامل عُمان إلى عمر بن عبد العزيز: «إنّا أُتينا بساحرة، فألقيناها في الماء فطفت» فوقع إليه عمر: «لسنا من الماء في شيء، إن قامت البينة، وإلا فخلّ عنها»
* وكتب عدي بن أرطأة إلي عمر بن عبد العزيز: «إن الناس قد أصابوا من الخير خيراً حتى كادوا أن يبطروا» فوقع عمر: «إن الله تبارك وتعالى حيث أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، رضي من أهل الجنة أن قالوا: الحمد لله، فَمُرْ مَنْ قبلك أن يحمدوا الله».
* وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري «أعنّى بأصحابك» فأجابه الحسن في رسالته «من كان من أصحابي يريد الدنيا فلا حاجة لك فيه، ومن كان منهم يريد الآخرة فلا حاجة له قبلك، ولكن عليك بذوي الأحساب ،فإنهم إن لم يتقوا استحيوا، وإن لم يستحيوا تكرموا».
* كتب عامل حمص – إلى عمر بن عبد العزيز. يخبره أنها احتاجت على حصن – فوقع عمر «حصنها بالعدل والسلام».
* وقع عمر بن عبد العزيز إلى عامله على الكوفة عندما كتب إليه يخبره انه فعل في أمره كما فعل عمر بن الخطاب في حادثة مماثلة «أولئك الذين هدى الله فبهداهم أقتده».
* وقع يزيد ابن الوليد بن عبد الملك بن مروان إلي مروان بن محمد أخر خلفاء بني أمية، وقد أُخبر يزيد أنه يتلكأ في مبايعته بالخلافة: «أراك تقدم رجلا وتؤخر أخري، فإذا أتاك كتابي فاعتمد علي أيهما شئت».
* وقع السفاح – الخليفة العباسي الأول- في رقعة قوم شكوا احتباس أرزاقهم: «من صبر في الشدة شارك في النعمة».
* ووقع السفاح في كتاب لأبي جعفر، وهو يحارب ابن هبيرة بواسط. «إن حِلمكَ أفسد عِلْمكَ وتراخيكَ أثر في طاعتك، فخذ لي منك، ولك من نفسك».
* ووقع أبو جعفر إلي عامله علي حمص وقد جاءه منه كتاب فيه خطأ. «استَبْدِلْ بِكَاتِبِكَ وإلا استُبدل بك»
* رفعت إلي يحي بن خالد البرمكي رسالة ركيكة العبارة، كتبت بخط جميل فوقع «الخط جسم روحه البلاغة، ولا خير في جسم لا روح فيه».
* كتب جعفر بن يحي على (عرض) قدم له عن محبوس «العدل يوبقه والتوبة تطلقه».
* ووقع الخليفة المأمون كتابا لوزيرة الفضل بن سهل في قصة متظلم بقوله «وكان حقا علينا نصر المؤمنين».
* رفع شيخ إلى أحد الملوك قصة سعى فيها بهلاك شخص فوقع الملك عليها – الساعية قبيحة وأن كانت صحيحة فإن كنت أجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها أعظم من الريح ومعاذ الله أن نقبل من مهتوك في مستور لولا أنك في نضارة شيبك لعاقبتك بما يشبه فعالك ويردع أمثالك فاكتم هذا العيب وأتق من يعلم الغيب.
* كتب جماعة من أهل الأنبار إلى أبي جعفر المنصور يذكرون لأن منازلهم أخذت منهم وأدخلت في البناء الذي أمر به ولم يعطوا أثمانها، فوقع: هذا بناء أسس على غير تقوى. ثم أمر بدفع قيم منازلهم إليهم.
* أتي أبو جعفر المنصور كتاباً من صاحب الهند يخبره أن جندا من شغبوا عليه، وكسروا أقفال بيت المال فأخذوا أرزاقهم منه، فوقع: «لو عدلت لم يشغبوا».
* ووقع في قصة رجل سأله أن يبني بقربه مسجداً فإن مصلاه بعيداً «ذلك أعظم لثوابك».
* ووقع هارون الرشيد إلى صاحب خراسان وقد بدا تزمر الناس عليه «داو جرحك لا يتسع».
* وفي سنة سبع وثمانين ومائة هجرية جاء للرشيد كتاب من ملك الروم نقفور بنقض الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين وبين الملكة ريني ملكة الروم وصورة الكتاب «من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فان الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيذق فحملت إليك من أموالها أحمالا وذلك لضعف النساء وحمقهن فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها وإلا فالسيف بيننا وبينك».
فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضبا حتى ما تمكن احد أن ينظر إلى وجهه فضلا أن يخاطبه وتفرق جلساؤه من الخوف واستعجم الرأي على الوزير فدعا الرشيد بدواة وكتب على ظهر كتابه «بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك والجواب ما تراه لا ما تسمعه ثم سار ليومه فلم يزل حتى نزل مدينة هرقل وكانت غزوة مشهورة وفتحا مبينا فطلب نقفور الموادعة والتزم بخراج يحمله كل سنة».
* وحج الرشيد سنة ولى الخلافة فدخل دارا فإذا في صدر بيت منها بيت شعر قد كتب على حائط:
ألا أمير المؤمنـين أما تــــرى
فديتك هجران الحبيب كبيرا
فدعا بدواة وكتب تحته بخطه:
بلى والهـــدايا المشعــــرات وما
مشى بمكة مرفوع الأظل حسيرا
* ورفع رجل رقعة فيها وشاية إلى يحيى بن خالد البرمكي يقول فيها إن جاري تاجر غريب وقد مات وخلف جارية حسناء وطفلا رضيعا ومالا كثيرا وغن الوزير أحق بذلك. فكتب يحيى على الرقعة أما الرجل فرحمة الله عليه وأما الجارية فصانها الله وأما الطفل فرعاة الله وأما المال فحرسه الله وأما الساعي إلينا بذلك فعليه لعنة الله.
* ووقع الخليفة العباسي المهدي إلى عامل أرمينية وكان قد شكا إليه سوء طاعة رعاياه «خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين».
* ووقع المأمون في رقعة – إبراهيم بن المهدي – وقد سأله تجديد الأمانة «القدرة تذهب الحفيظة والندم توبة وبينهما عفو الله».
* ووقع المأمون إلى ابن هشام في أمر تظلم منه «من علامة الشريف أن يظلم من فوقه ويظلم من تحته فأي الرجلين أنت».
* كما وقع المأمون إلي عامل في قصة مَنْ تظلم منه «ليس من المروءة أن تكون أنيتك من ذهبٍ وفضةٍ وغريمك خاوٍ وجاركَ طَاوٍ».
* ووقع الرشيد إلى عاملة في مصر «أحذر أن تخرب خزانتي وخزانة أخي يوسف فيأتيك من لا قبل لك به ومن الله أكثر منه».
* كتب والي مصر إلى الخليفة العباسي أبى جعفر المنصور يشكوا إليه نقص مياه النيل وأن ذلك قد اضر بالناس فوقع المنصور قائلا «طهر عسكرك من الفساد يعطيك النيل القياد».
* وقع طاهر بن الحسين في رقعة مستبطئ إياه في الجواب «ترك الجواب جواب».
* كتب إبراهيم بن سيابه إلي صديق له كثير المال يستسلفه فكتب اليه «العيال كثير والدخل قليل والمال مكذوب فكتب إليه: «إن كنت كاذبا جعلك الله صادقا وان كنت صادقا جعلك الله معذورا».
* رفعت إلي وزير أحد السلاطين قصة رجل سَعَى برجل، فكتب عليها: «السعاية قبيحة، وإن كانت نصيحة، فإن كنت أخرجتها بالنصح، فخسرانك فيها أكثر من الربح، وأنا لا أدخل في محظور، ولا أسمع قول مهتوكٍ في مستور، ولولا أنك في خفارة شيبتك، لقابلتك علي جريرتك، مقابلة تشبه أفعالك، وتردع أمثالك، فاستر على نفسك هذا العيب، واتق من يعلم الغيب فإن الله للصالح والطالح بالمرصاد.
* ومن التوقيع ما يأتي بصور طريفة وعجيبة. فمثلا يأتي التوقيع بحرف واحد. من ذلك ما حكي أبو منصور عن ابن النصر العتبي قال: كتب بعض خدم الصاحب ابن عباد إليه رقعة فوقع فيها، فلما ردت إليه لم ير فيها توقيعا، وقد تواترت الأخبار بوقوع التوقيع فيها، فعرضها علي أبي العباس الضبي وزير فخر الدولة البويهي. فما زال يتصفحها حتى عثر بالتوقيع وهو حرف – ألف- واحدة، وكان في الرقعة «فإن رأي مولانا أن ينعم بذلك فعل» فأثبت الصاحب أمام (فعل) ألفاً يعني «أفعل» ولا شك أن ما فعله الصاحب يعد من التوقيعات المستظرفة المستملحة.
* ومن طريف التوقيعات، ما يحكي أن أبا القاسم الزعفراني لما أنشد الصاحب بن عباد قصيدته التي يقول فيها:
وحاشية الدّار يمشون في صنوف من الخزّ إلا أنا.
وقع الصاحب في نسختها: قرأت في أخبار معن بن زائدة أن رجلاً قال له: احملني أيها الأمير فأمر له بناقة وفرس وبغلة وحمار وجارية، ثم قال: لو علمت أن الله خلق مركوبا غير هذا لحملناك عليه، وقد أمرنا لك من الخزّ بجبّة، وقميص، ودراعة، وسراويل، وعمامة، ومنديل، ومطرف، ورداء، وكساء، وجورب، وكيس، ولو علمن لباساً آخر يتخذ من الخزّ لأعطيناكه!!
* ومن أغرب التوقيعات ما حكاه أبو الفتح ابن جني قال: لما أنشد أبو الطيب المتنبي سيف الدولة قصيدته التي يقول فيها:
يأيها المحسن المشكـور مــن جهتـــي
والشكــرُ من قبَــل الإحسان لا قِبَـلي
أقِلْ، أنِلْ، أقطع، أحْمِل، عَلْ، سَل، أعِدْ
زِدْ، هَش، بَش، تفضلْ، أدْنِ، سَر، صِلي
وناوله نسختها وخرج، نظر سيف الدولة فيها وقع:
تحت كلمة «أقل» أقلناك. وتحت «أنل» يحمل إليه من الدراهم كذا. وتحت «أقطع» قد أقطعناك الضيعة الفلانية.
وتحت «أحمل» يقاد إليه الفرس الفلاني. وتحت «عل» قد فعلنا. وتحت «سل» قد فعلنا فاسأل. وتحت «أعد» قد أعدناك إلي حسن رأينا فيك. وتحت «زد» يزاد كذا. وتحت «تفضل» قد فعلنا. وتحت «ادن» قد أدنيناك. وتحت «سر» سررناك. وتحت «صل» قد فعلنا.
* وكتب أبو أحمد المنجم إلى أخيه أبى القاسم رقعة يدعوه فيها فغلط الرسول فأعطاها لابن المعتز فقرأها وعلم أنها ليست له فقلبها وكتب:
دعاني الرسول ولم تدعني ولكن لعلى أبو القاسم.
فأخذ الرسول الرقعة ومضى وعاد عن قريب فإذا فيها مكتوب:
أيا سيــدا قد غدا مفخـرا لهاشم إذ هـو من هاشم
تفضل وصدق خطأ الرسول تفضل مــولى على خادم
فما أن يطاق إذا ما جددت وهزلك كالشهد للطاعم
فدى لك من كل ما يتقيـه أبو احمـد وأبـو القاسم.
* كان لمحمد بن عبد الله بن طاهر، حاجب شاعر يدعي ابن أبي عون، وذات يوم بعث هذا الحاجب لسيده بباقة من الريحان كتب معها بيتين يقول فيهما:
قد بعثنا بطيب الريحان خير ما قد جُني من البستان
قـد تخيرتــه لخير أمير زانـــه الله بالتقي والبـيان.
فنظر الأمير في البيتين ضاحكاً من هذه الـ( قد) التي تكررت فيهما ولم يلبث أن كتب علي هذه الورقة داعياً علي صاحبه بأن يقده الله تعالي (من قدّ الشيء – بالتشديد- إذا قطعه) فقال:
عون يا عون قد ضلت عن القصد
وعُمَّيت عــن دقيـــق المعــــاني
حشو بيتيك (قد) و(قد) فإلي كم؟
قـــدّك الله بـالحسام اليمـــاني!!
* كتب أبو العيناء لامرأة خطبها فردته لما رأته قبح الوجه:
فإن تنفري من قبح وجهي، فإنني
أريب أديب لا غبي ولا فَــــدْمُ.
فوقعت علي ما كتب قائلة: «ليس لديوان الرسائل أريدك».
* ومن التوقيعات المغربية:- ما كتبه الشاعر والوزير المغربي أبي جعفر عطية القضاعي المراكشي (517 – 553 هـ ) إلى الخليفة عبد المؤمن ألموحدي (487 – 558 هـ ) قصيدة يستعطفه حتى يخرجه من السجن واختار أن يكون رسوله وشفيعه ابنا صغيرا له. ومن القصيدة :
عطفـا علينا أمير المؤمنين فقـد
ضبان العزاء لفرط البث والحزن
قد أغرقتنا ذنـوب كلهـا لـجج
ورحمة منكم أنجي من السفـن
وصادفتنا سهام البين عن عوض
ورحمـة منكـم أوفي مـن الجُنن
من جاء عنكم يسعى علـى ثقـة
بنصرة لم يخف بطشا مـن الزمن
فالثواب يطهر بعد الغسل من درن
والطرف يرهص بعد الركض في سنن
فوقع عبد المؤمن «الآن وقد عصيت وكنت من المفسدين».
* ومن التوقيعات الأندلسية:-
ما روى أنه اتخذ أحمد بن عبد الملاك ابنه أبا جعفر وزيراً واستتابه في بعض الأمور فلم يصبر على ذلك واستعفى فلم يعفه وعتب عليه أن يركن إلى الراحة فكتب إليه الابن شعرا قال فيه:
مولاي : في أي وقت أنال في العيش راحــة
إن لم أنلها وعمــري ما أنـــار صباحــــه
وللمــلاح عيـــون تميل نحــو الملاحــة
وكان راحـي مــا أن تميــل منـي راحـــة
والخطب مني اعمـي لــم يقترب لي ساحة
وأنت دونـي ســـور مـن العلا والرجاحـة
فاعفنــي وأقلنــــي ممـــا رأيت صلاحـه
ما في الــوزارة حـظ لمـن يــريد إتباحـــه
كأي وقـال وقيــــل ممـن يطيـل نباحــــه
انسـي أتي مستغيثــا فاترك – فديت – سراحة
فلما قرأ أبوه الأبيات رأى ألاّ فائدة في أن يكلفه بما ليس مهيئا له وقع على ظهر ورقته «قد تركنا سراح أنسك وألحقنا يومك بأمسك».
* وكتب – ألفونسو السادس- ملك قشتالة إلي يوسف بن تاشفـين أمير المرابطـين في الأنــدلس يتوعده ويتهدده فوقع يوسف في كتابه ببيت أبي الطيب المتنبي:
ولا كتب إلا المشــرفيـة والقنا
ولا رسل إلا الخميس العرمرم.
وبعد أن طوفنا مع نماذج مشرقة من التوقيعات الأدبية الجميلة المعبرة بقى أن نتساءل أين نحن الآن من هذا الفن الجميل؟ و الإجابة أنه قد اندثر أو كاد ولذلك أسباب كثيرة منه ضعف القدرة على إبداع التوقيعات الأدبية المناسبة. ومنها منظومة التسلسل الإداري. فهذا يعد مسودة الخطاب وذلك يؤثر عليه وهذا يعتمده ويوقع عليه فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإدارة الحديثة تحرص على وضوح التوجيه ودقة الشرح أكثر من حرصها على بلاغة الشرح وجمال التعبير…..
المراجع:
(1) أبن منظور: لسان العرب. دار المعارف المصرية 1973 م مادة- وقع- وكذا في القاموس المحيط.
(2) المعجم الوسيط في اللغة: مجمع اللغة العربية القاهرة دار المعارف 1980م.
(3) الجاحظ: البيان و التبين . مطبعة دار الشعب 1986م.
(4) ابن خلدون: المقدمة . وزارة المعارف المصرية 1989م.
(5) أحمد أمين: ضحي الإسلام. ط السادسة ، مكتبة نهضة مصر – القاهرة 1961 م.
(6) محمد رجب النجار: النثر العربي القديم. ط الثانية 2002 م مكتبة دارالعروبة للنشر والتوزيع الكويت.
(7) جرجي زيدان: تاريخ اللغة العربية. مطبعة الهلال ط الرابعة 1943م.
(8) محمد أحمد جاد المولى، محمد إبراهيم أبو الفضل، علي محمد البجاوي: قصص العرب، الجزء الأول الهيئة العامة لقصور الثقافة – سلسلة الذخائر 176- 2009م.
(9) د/ رفيق حسن الحليمي: التوقيعات. مجلة الوعي الإسلامي العدد 532 ذو الحجة 1430هـ- ديسمبر 2009م.
(10) الميداني: مجمع الأمثال. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الحلبي – القاهرة 1957م.
(11) أدب الدنيا والدين: للماوردي تحقيق مصطفي السقا، دار الصحابة 1993م.
(12) علي الجندي: البلاغة الغنية، ط الثانية مكتبة الأنجلو المصرية 1966م.
إضافة إلى متفرقات جُمعت من قراءات تم تدوينها وخاصة فيما ورد من التوقيعات.
والله ولي التوفيق..
(*) قاص وباحث في التراث العربي والإسلامي.
مصر – طنطا – دمشيت.
هاتف محمول : 0109356970(002)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1434 هـ = يوليو – سبتمبر 2013م ، العدد : 9-10 ، السنة : 37