دراسات إسلامية

بقلم:     الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي رحمه الله

(المتوفى 1399هـ / 1979م)

ترجمة وتعليق: الأستاذ محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)

          إن المراد بالعلم- في الإسلام – هو ما يُستفاد من النبوة،وينفع المرء في حياته الدينية والدنيوية، و المادية والروحية كلتيهما. والعلم – من المنظور الإسلامي – فريضةٌ، يجلب القيامُ بها خيري الدنيا و الآخرة. و لذلك كانت الركيزة الأولى من عملية التعليم والتدريس في الجامعة الإسلامية دار العلوم / ديوبند إصلاحَ العقيدة والعمل. ولم تجعل الجامعةُ العلم والدراسة تهدف إلى كسب المنصب. و يشهد التاريخ بأن المسلمين لم تطأ أقدامهم بقعةً من الأرض إلا نشروا شبكةً من المدارس و المعاهد في كل شبرٍ من أشبارها،وصقعٍ من أصقاعها. ولم تخلُ ناحيةٌ – يستحق ذكرُها – من المعمورة الإسلامية عن نشاطاتها وبصماتها الواضحة المعالم. وهو ما كانت عليه الهند. فلاتجد عهداً بارزاً من عهود الحكم الإسلامي في البلاد إلا كان أهم ما يميزه العنايةُ بنشر العلم والمعرفة. وكان كل أميرٍ مسلمٍ ينفخ – بانصرافه إلى العلم وحرصه عليه – روحاً من الفضل والكمال في كل صقعٍ من أصقاع البلاد. وكان السلاطين والأمراء المسلمون يعتبرون السِّباقَ إلى العناية بالعلم، والإنفاق على أهله، وكفالة طلبته، والتنافس فيه مفخرةً لهم، ومنجاةً في أخراهم. ثم لم يُطوَ بساطُ الحكم من تحت أقدامهم حتى أفَلَتْ – فجأةً – مشاعلُ العلم التي ظلَّت تُنير الهندَ منذ ستة قرونٍ. وأحكم الإنجليز سيطرتَهم عليها مما أدى إلى انتشار ثقافتهم ودينهم والعلوم الغربية بجانب سيادتهم وحكمهم الغاشم. وبما أن الإنجليز كانوا يُحَمِّلون المسلمينَ مسؤوليةَ كفاح التحريرعام 1857م ، اشتدت مواقفُهم العدائية من المسلمين. وكان الاستعمار الإنجليزي حَمَلَ معه العلومَ والفنون الجديدة إلى البلاد، وبدأ نظاماً دراسياً حديثاً احتلَّت فيه العلوم الجديدةُ محلَّ العلوم القديمة، مما أسفر عن فشو ظاهرةٍ غريبةٍ للغاية. وهذه الفترةُ من القرن التاسع عشر الميلادي تُشكِّل أياماً عصيبةً من حياة المسلمين. فلم تَسلم شعبةٌ من شعب حياة المسلمين في هذه الفترة إلا نالت منها هذه الأعاصيرُ المعاتية والمعادية نيلاً عظيماً. و زعزع انقراضُ الحكم الإسلامي، وبزوغُ عهد ملوك الطوائف الأسسَ الفكرية والعقدية الإسلامية بالإضافة إلى سياستهم وحكمهم. وتناولت مؤلفات الشاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي – رحمه الله – (1114-6 117هـ/ 1702-1762م) تحذيرَ الملوك والعامة و الخاصة تحذيراً شديداً من هذه الظاهرة في عهده، ونبَّهَتْهُم على أنهم قد بلغوا شفا جرف هارٍ من الزوال والانهيار، يتطلب منهم أن يغيروا ما بأنفسهم، ويعدِّلوا الطريق الذي هم فيه سائرون، فيقول في «التفهيمات الإلهية»: «فقد رأينا رجالاً من ضعيفي المسلمين يتخذون الصلحاء أرباباً من دون الله، ويجعلون قبورهم مساجد، كما كان اليهود والنصارى يفعلون ذلك. وقد رأينا رجالاً منهم يحرفون الكلم عن مواضعه، يقولون: الصالحون لله، والطالحون لنا، وكما قال الذين من قبلهم: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) [البقرة/80]، وإن سألت الحق فقد فَشَا التحريف في كل طائفة. فالصوفية أظهرت أقاويل لايُدْرَىٰ لها توفيق مع الكتاب والسنة ولاسيما في مسألة التوحيد، وكاد أن لايكون الشرع عندهم ببالٍ، وكم في الفقهاء من أمورٍ لايُدْرَىٰ من أين أخذوا ذلك. وأما أصحاب المعقول و الشعراء وأصحاب الثروة من الناس والعامة الذين يعبدون الطواغيت ويتخذون قبورَ الصلحاء مساجدَ أوعيداً فإلى أي حدّ يُذْكَر ما هم فيه من الغواية»(1).

       فالأوضاع كانت في انهيار من سيء إلى أسوأ. وشقاء المسلمين وبؤسهم، وعداء الحكم الإنجليزي و شحناؤه لهم؛ كل ذلك كان يزداد يوماً فيوماً. و وَجَد الشاه محمد إسحاق الدهلوي (نحو 1197-1262هـ) الأوضاعَ غير عائدةٍ إلى نصابها، ولا مائلةً إلى التحسن، فاضطُرَّ إلى الهجرة إلى مكة المكرمة عام 1257هـ/1841م، ثم استولى الإنجليز على «دهلي» عام1274هـ/1857م فغادر الشاه عبد الغني المجددي – رحمه الله – (1235- 1296هـ/1819-1878م)  إلى المدينة المنورة. و لقيت «دهلي» من حرِّ الثورة ولاوائها الشيءَ الكثيرَ، فذبلت وذهب رونقها و بهاؤها، بعد أن كانت مركز إشعاعٍ للعلوم والفنون عظيماً، والتي غرس فيها الشاه ولي الله الدهلوي (1114-6 117هـ / 1702-1762م) غرسةَ علم الحديث في عهدها الأخير. وذهب مالايُـحْصَىٰ من أهل العلم ضحيةَ ثأر الإنجليز إبّان ثورة عام 1857م والتي عرفت بـ«عام الغدر»، وجرَّت هذه الثورةُ ويلات و مصائب عظيمةً فادحة ًعلى المسلمين. وصادرت الحكومةُ الإنجليزية الأوقافَ التي كانت تشكل حبلَ الوريد لهذه المدارس، فقُضِي على المنهج التعليمي والدراسي الذي دام مئات الأعوام. وقال «بورك» (Richard Bourke)(2) – أحد أعضاء البرلمان البريطاني في مذكرته التي عرضها على البرلمان: «وكسدت اليوم سوقُ العلم والمعرفة في المناطق التي كانت تشهد رواجه وازدهاره، وكان طلبة العلم يُهْرَعُون إليها من أكناف العالم»(3).

       والنظام التعليمي الجديد الذي حَمله الاستعمار إلى هذه البلاد وفرضَه عليها كان يختلف تماماً – عن النظام التعليمي السائد آنذاك، فيقول المستر«دبليو دبليو هنتر» (William Wilson Hunter)(4): «إن منهجنا التعليمي لايتضمن شيئاً من التعليم الديني الإسلامي؛ بل يعارض – تماماً – مصالح المسلمين»(5).

       وإن النظام التعليمي – الذي حمله الإنجليز – كان يهدف إلى تنصير الهنود، وخاصةً المسلمين. فيقول الشيخ فضل حق الخيرآبادي (ت 1278هـ/ 1861م) – الذي كان يشغل منصب «كاتب السر» للمندوب السامي الإنجليزي(RESIDENT) في «دهلي» يومذاك، والذي تم معاقبته بنفيه من البلاد بحكم ضلوعه في ثورة عام 1857م – في كتابه «الثورة الهندية» – الذي عمله وهو في السجن -: «و وضع الإنجليز خطةً ترمي إلى تنصير كافة الهنود، ظناً منهم أن الهنود لاناصر لهم ولا مغيثَ، فهم سلسو القياد، لاتسول لهم نفوسُهم الخروجَ على الحكم الإنجليزي. وأدرك الإنجليز تماماً – أن الاختلاف الديني بين الرعاة ورعاياهم مما يشكل عقبةً كؤودًا في سبيل الاستيلاء على البلاد، و إحكام السيطرة عليها. فاستماتوا في استئصال الدين، واحتالوا له كلَّ حيلة سنحت لهم، ولم يدخروا جهداً في سبيله. فأقاموا معاهد ومدارس في المدن والأرياف، تهدف إلى تعليم الصغارو الضعفاء، وتلقينهم لغةَ الاستعمار وديانته، ولم يألوا جهداً في القضاء على العلوم والمعارف السائدة آنذاك»(6).

       والحاصل أن المسلمين كانوا يعيشون مرحلةً عصيبةً للغاية في القرن الثالث الهجري في الهند؛ حيث انهارَ نظامُهم التعليمي، وحكمهم وسيادتهم معاً في جانبٍ، وتزعزعت أركان معتقداتهم و أفكارهم في جانب آخر. أضِف إلى ذلك أن الحكم الإنجليزي عَزَمَ على تنصير المسلمين. وكان أهم ما يمتاز به المنهجُ الدراسي – الذي سبق الإنجليزَ في البلاد – أنه كان يعمل على إعداد الطلبة إعداداً يؤهلهم لشغل أعلى المناصب الحكومية، والقيادات العسكرية بجانب إلمامهم بعلوم الدين، حتى كان المتخرجون في هذه المدارس يتولونها، ويقومون بما يناط بهم من مسؤوليات الوزارة، وإدارة دفة البلاد بكل توفيق ونجاح، وعلى أحسن طراز. ولايُختار لإدارة البلاد، وشغل الوظائف الحكومية العليا إلا من تمكَّن من العلوم الدينية وتضلع منها. فهذا السلطان «شيرشاه السوري»(7) (حكم فترة ما بين 947-952هـ/1540-1545م) تربَّى في أحضان مدرسةٍ في «جون فور» شرقي البلاد. ويُعتبر عهد السلطان «شير شاه» – رغم قصره – من أبرز العهود في تاريخ الهند نظراً إلى الإصلاحات السياسية والحضارية التي قام بها، كما كان عهده فاتحةً للتعديلات الكثيرة في القوانين التي استمرت من عهد الملك «أكبر» (حكم فترة ما بين 963-1014هـ/1555-1605م).

       وفرضُ المنهج التعليمي الاستعماري الجديدِ في الهند أودى بوحدة المسلمين العلمية والعملية، وشتَّت شملَهم، وطالت انعكاساته – سلباً – كلَ شيءٍ في حياتهم بدءاً من عقائدهم و أفكارهم، وانتهاءً إلى مواقفهم وأدوارهم. وسدَّ قيامُ المنهج الدراسي الجديد أبوابَ الوظائف الحكومية في وجوه المسلمين، فعانوا – حينئذ – عناءً  اقتصادياً ومعيشياً يقشعر له الجلود، واستدعى تفادي هذه الأوضاع العصيبة إلى القيام بحركةٍ موسعةٍ تُزيل العقباتِ المروعةَ التي فَجَعَت بحياة المسلمين، وهددت كيانهم.

       وإن جامعة دارالعلوم/ديوبند لاتمثِّل مركزاً تعليمياً فحسب، وإنما هي حركةٌ ذاتُ نشاطٍ واسعٍ و مفعولٍ كبيرٍ. وعملت هذه الحركةُ على تصفية عقائد المسلمين، وأعمالهم عما طَفَا فوقها من الزبد، وعما رَانَ عليها من الوهن، وعرَّفتهُم بالإسلام الصافي الخالص من كل الشوائب، وأنقذتهم من الشرك والأوهام الباطلة. كما انتزعت الخوفَ والرهبة من قلوبهم، وساعدت على إعدادهم إعداداً يؤهلهم للمساهمة الريادية في حركة تحرير البلاد، وللسمو بمكانة المسلمين القومية. ولم تبقَ ناحيةٌ من النواحي التعليمية والسياسية والإصلاحية إلا كانت بصمات خدماتهم العظيمة فيها واضحة المعالم، تكاد تُلْمسَ بالأيدي. ولم تقتصر خيراتُ هذه الحركة وبركاتها على داخل البلاد، وإنما امتد نطاقها ودائرة نفوذها إلى آفاق العالم البعيدة. فأصبحت جامعة دارالعلوم/ديوبند مركزاً انطلقت منه الحركات والثورات، ليس في شبه القارة الهندية فحسب، وإنما شملت آسيا كلها.

       و واجه المسلمون الهنود في القرن الثالث الهجري مشكلتين هامتين: تخص إحداهما معتقداتهم وأعمالهم وسلوكهم. والثانية سياسيةٌ، ترمي إلى إنقاذ الهند من براثن الاستعمال الغاشم. وأسلفنا أن قِيَمَ الحياة الإسلامية العليا انهارت حين انقرضَ الحكمُ المغولي فيها. واحتلَّ الشركُ والبدع و الطقوس الزائفة محلَّ المبادئ الإسلامية الساذجة العادية. واضمحلت عقيدة التوحيد الخالصة – التي كانت تمثل روح العقائد والتعاليم الإسلامية – أمام هجمات الشرك والبدع.

       وبذل الشاه ولي الله الدهلوي (1114-1176هـ/1702-1762م) ثم السيد أحمد بن عرفان الشهيد(8)، والشيخ محمد إسماعيل الشهيد (ت1246هـ/1830م)، والشيخ رشيد أحمد الكنكوهي (1244-1323هـ/1829- 1905م)، والشيخ محمد قاسم النانوتوي (1248-1297هـ) – رحمهم ا لله تعالى – مساعيَ موفقة ترمي إلى الحفاظ على هذه الروح الإسلامية، والتقدم بهذه الحركةِ بخطواتٍ حثيثة إلى الأمام. وأثبتوا الأحكام الإسلامية بالأدلة العقلية، و وَقَفوا في وجه الطقوس والتقاليد الهدامة. وسَعَوا – سعيَهم – في تزويج الأرامل، ومنح النساء حقوقهن من الإرث، واستئصال الفوارق الاجتماعية. والحق أن هذه المساعي التي بذلوها كانت لها انعكاسات طيبة على مناطق البلاد كلها، وفعلت فِعلَها في عددٍ كبيرٍ من المسلمين. وفي مثل هذه الأوضاع توصل مشايخ الجامعة، وبُناتها إلى ضرورة إقامة المدارس الدينية التي تهدف إلى الحفاظ على العقائد الإسلامية، والقضاء على التقاليد والطقوس الباطلة، وسدّ الحاجة إلى التعليم والتربية الدينية، فكانت جامعة دارالعلوم/ديوبند أول هذه المدارس التي برزت للوجود، وأضفى الله تعالى على حركة دارالعلوم/ ديوبند هذه مسحةَ القبول والشعبية، فَلَبَّى الناس دعوتَها من أدنى البلاد إلى أقصاها، وبدأت تنقشع السحب الكثيفة من الشرك والتقاليد الواهية والأوهام الباطلة والبدع و الخرافات التي كانت تشتدُّ وطأتها على الهند يوماً فيوماً. و احتلَّت مكانها الإقبالُ على أحكام الكتاب والسنة والعمل بها. ويُفصِّل الدستورُ الأساسي القديم  لدارالعلوم /ديوبند الأهدافَ التي كانت وراء نشأتها كالتالي:

  1. تعليم القرآن الكريم وتفسيره والحديث والعقائد والكلام والعلوم الآلية اللازمة المفيدة التابعة لها، وتزويد المسلمين بالمعلومات الدينية كاملة غير منقوصة، وخدمة الإسلام عن طريق الدعوة والإرشاد والتبليغ.
  2. التربية على الأعمال والأخلاق الإسلامية، ونفخ الروح الإسلامية في قلوب الطلاب.
  3. الدعوة إلى الإسلام ونشره، والذود عن حياض الدين والدفاع عنه، وخدمة الدعوة الإسلامية عن طريق تأليف الكتب، وإلقاء الخطبات والمحاضرات، وحث المسلمين على التحلي بالأخلاق و الأعمال والعواطف التي كان عليها خيرُ هذه الأمة وسلفها الصالح عن طريق التعليم و التبليغ.
  4. عدم الخضوع للحكومة وتجنب ضغوطها وتأثيراتها، والإبقاء على حرية العلم والفكر.
  5. إقامة شبكة من المدارس الدينية في مختلف الأصقاع والأكناف، ترمي إلى نشر العلوم الدينية، و ضمُّها إلى جامعة دار العلوم/ديوبند.

       فهذه الأهداف السامية – وإن لم تنفكّ عن المثل الإسلامية والتاريخ الإسلامي يوماً من الأيام- إلا أن ما دعَا إلى إحيائها من جديدٍ هو أن الشطر الثاني من القرن الثالث عشر الهجري قد شهد انقراضَ دولة المسلمين، وحرمانهم الحكومةَ، ليحل محلها حكومةٌ جديدة، بالإضافة إلى أن الثغرات العميقة – التي لحقت علوم المسلمين وأعمالهم، وأفكارهم ومعتقداتهم – فرضت عليهم- تفادياً من هذه النقائص والثغرات – اتباعَ سبلٍ تُعين – في المستقبل – على الحفاظ على الكيان الإسلامي، والعلوم الإسلامية والحضارة الإسلامية، والمجتمع الإسلامي. واتخذت دار العلوم/ ديوبند نصب عينيها تحقيقَ هذه الأهداف، وإحياءها من جديدٍ. وتطرَّق الشيخ محمد يعقوب النانوتوي – رحمه الله – وهو يخاطب حفلةً أقيمت بمناسبة توزيع الجوائز على الطلاب الفائزين في الاختبارات السنوية – تطرق – رحمه الله – إلى هذه الأهداف التي جعلتها الجامعة نصب عينيها، وإلى ظاهرة التشتت والانهيار التي مُنِيَ بها المسلمون في تلك الحقبة من الزمن، فقال: «إن هذه المدرسة قامت على مجرد إحياء العلوم الدينية، في حين انقضت مدةٌ قصيرةٌ على الثورة التي شهدها الهند ضد الاستعمار البريطاني، والتي تُعرف بـ«الغدر». وتشير الأوضاع – التي كانت تمر بها البلاد – بمجموعها إلى أن علم الدين على وشك الزوال، فلايسع أحداً أن يتعلم، ولايوجد من يُعَلِّمه، و عادت كبارُ المدن – التي كانت تمثل مراكز العلم – خراباً يباباً؛ فأهل العلم حيارى، والكتب تلاشت، والوحدة الإسلامية تفككت، فإلى أين يتوجه من قد يرغب في العلم وتلقيه وتحصيله؟ و على من عسى أن يتلقاه؟ وخُيِّل إلى الناس أنه لاتمر عشرون أو ثلاثون سنةً عليهم إلا ويَلتحقُ من بقي من أهل العلم على قيد الحياة – بالرفيق الأعلى فى الجنة. فلايكاد يوجد من يدل الناس على ما يجب في الوضوء، وما يجب في الصلاة؟ وفي مثل هذه الأوضاع – التي كانت تعكس المعاناة الشديدة، واليأس والقنوط – فاضَ بحر الرحمة الإلهية، وأمطرت سحبُ قدرته الكاملة مطراً غزيراً، و لَفَت انتباه عباده المقبولين  إلى هذا العمل العبقري، وتجلى كرمُه وفضله في قيام هذه المدرسة، ونعم ما قال الشاعر الفارسي:

كار زلف تو مشك أفشانی اما عاشقاں                                                      مصلحت راتہمتے بر آہوئےچیں بستہ اند(9)

       أي: إن سالفتك لايهمها نثر المسك، وإن كان العشاق يتهمون ظباء الصين به، فإنما هو لحاجةٍ في نفوسهم.

       وأما الشيخ المقرئ محمد طيب – رحمه الله، رئيس الجامعة سابقاً – فيشرح أهداف الجامعة بمالي:

  1. الديانة: إن جامعة دارالعلوم/ديوبند مصدر القوة الدينية، فتجدها صادرةً عن الأسس الإسلامية ومنطلقاته، وملتزمةً إيّاها أولاً وآخراً، وعليه كان كل من ينتمي إليها نموذجاً صادقاً للإسلام.
  2. الحرية: وتعني أن هذه الدارتعارض – كل المعارضة – كل أنواع العبودية، فهي حرة – بمعنى الكلمة – في نظامها التعليمي والتربوي، ونظامها المالي، ونظامها الاجتماعي. وهي أول جامعة تقوم على وجه الأرض، تَعرض عليها الحكوماتُ عروضاً مغريةً تبلغ مئات الآلاف من الروبيات، ولكنها تأبى قبولها.
  3. التبسط وحب العمل: ومعناه أن المتخرج فيها يتعوَّد مواجهةَ أكبر التحديات والمشاكل في حياته.
  4. المُثُل: (أي سموالأخلاق) وتعني أن المتخرج فيها يمثل نموذجاً حياً لما ورثه عن أسلافه و مشايخه. وهذه المثل روحيةٌ من رأسها إلى أخمص قدميها.
  5. الولاء العلمي والتعليمي: وهذه الخصيصة يلمسها زائرها أول ما يدخل رحابها، وهوما لايمكن وصفه، ولايغني السماع عنه. ولك أن تلمس كل خصائص هذه الدار في مرآة واقع حياتها. ولذلك تجد هذه الدارَ تحتضن الطلاب من أكناف الأرض، وأساتذتُها خير الأساتذة في العالم، والمنسوبون إليها أمثلةٌ حيةٌ للإيثار والتضحيـة، ومحل ثقـةٍ واعتمادٍ من الشعب المسلم، تصل إليها المعونات المالية من كل بقاع الأرض.
  6. وقام بزرع هذه الغرسة المباركة نخبةٌ من العلماء الربانيين، مُلِؤُوا إخلاصاً واحتساباً إلى مشاشهم، يتحرقون على بناء مستقبلٍ زاهرٍ للأمة الإسلامية، نذروا أنفسهم لنشر الدين، والعلوم الدينية. وأضفى الله تعالى على الجامعة وخدماتها مسحةَ القبول، فأسْدَت – داخل البلاد و خارجها – خدماتٍ دينيةً خُلُقيةً إصلاحيةً لن ينساها التاريخ. فأنجبت الألاف من أهل العلم و الصلاح والسلوك بمن فيهم جمعٌ عظيمٌ من خيار المحدثين، والفقهاء والمؤلفين والدعاة، و قائمةٌ طويلةٌ من العاملين في مجال الإرشاد والهداية وتزكية النفوس، بل فيهم عددٌ كبير ٌممن قدموا تضحيات لامثيلَ لها في سبيل تحرير البلاد من يد الاستعمار الغاشم، وإصلاح المجتمع الهندي(10).

*  *  *

الهوامش:

(1)        التفهيمات الإلهية 2/134-135، ط: مطبعة المدينة، بجنور، عام 1355هـ /1936.

(2)        هوريتشارد ساونويل بروك إيريل(Richard Bourke) (1237-1289هــ/1822-1872م): رجل دولة، وعضو بارزفي حزب المحافظين اليريطانيين «دبلن»،«إيرلندا». راجع: http://en.wikipedia .org/wiki/ Main_ Page

(3)        نقلاً عن«مسلمانوں كانظام تعليم وتربيت» (المسلمون ونظامهم التعليمي والتربوي) 1/392.  

(4)        هو وليم ولسن هنتر(William Wilson Hunter)(1256- 1318هـ/1840-1900م): مؤرخ إسكتلندي، إحصائي، و مترجم وعضو في الخدمة المدنية الهندية، أصبح فيما بعد نائبَ رئيس جمعية الملكية الآسوية. تلقى دراسته في جامعة «غلاسكو»، و تعلم اللغة السنسكريتية، قبل أن يمر بالاختبار النهائي للخدمة المدنية الهندية عام 1862م. له عدة مؤلفات منها(The Imperial Gazetteer of India,)( Annals of Rural Bengal,)راجع: http://en.wikipedia. org/wiki/Main _Page

(5)        راجع: «ہمارے ہندوستاني مسلمان» ص 252.

(6)        الثورة الهندية ص 356- 357 ط: مطبعة المدينة، بجنور.

(7)        هوشير شاه السوري (Sher shah suri) (890-951هـ/1486-1545م): ويـُعرف أيضاً باسم «فريد خان» أو شيرخان (الملك النمرأوالملك الأسد)، إمبراطور هندي، قوي حكم فترة ما بين (1540-1545م) ولد في «سهسارام»، بولاية «بيهار»، الهند. و أصله أفغاني، أسَّس أسرةً حاكمةً عـُرفت باسم أسرة «سور» عام 1540هـ في شمال الهند، وطرد الأسرة المغولية في «آكرا»، وكان حكمه بداية أسرة سوري التي عمـرت لفترة وجيزة في الهند. راجع: تاريخ الإسلام في الهندص18؛و http://en.wikipedia. org/wiki/Main _Page

(8)        هو أحمد بن عرفان بن نور الشريف الحسني الرائي بريلوي (1201- 1246هـ/1786-1831م): الإمام الهمام، ولد في قرية «تكية كلان» المجاورة لمدينة «رائ بريلي»، من أعمال «لكناؤ»، من أسرةٍ حسنية كريمةٍ اشتهرت بالعلم والتقوى، توجَّه في عام 1221هـ /1806م إلى «دهلي»، وجذبته مدرسة الشاه ولي الله الدهلوي، فتتلمذ على الشاه عبد القادر. نشأ في تصون تام وتأله، واقتصاد في الملبس والمأكل، ولم يزل على ذلك خلفاً صالحاً، براً تقياً، ورعاً عابداً، صواماً قواماً، رجاعاً إلى الله تعالى في سائر الأحوال، وقافاً عند حدوده ، كان يذهب إلى بيوت الأرامل و الأيتام ويتفحص عن حوائجهم، ويجتهد في الاستقاء والاحتطاب واجتلاب الأمتعة من السوق. دعا المسلمين إلى ترك البدع، و الخرافات الشائعة. ورحل إلى «بتنا» واتسع نفوذه، وكثرأتباعه ومريدوه. قتل شهيداً مع جماعةٍ من أصحابه في «بالاكوت».  راجع: نزهة الخواطر2/2133؛ والإسلام في الهند، للأستاذ عبد المنعم النمر وزير الأوقاف المصري الأسبق الذي عمل أستاذًا زائرًا بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند مدة من الزمان، ص 418ومابعدها.

(9)        تقريرعن حفلة التخرج عام 1301هـ ص 1.

(10)      نقلاً عن صحيفة «مدينة»، بجنور، العدد 9/يناير عام 1946م.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، شعبان 1434 هـ = يونيو – يوليو 2013م ، العدد : 8 ، السنة : 37


(*)      الأستاذ بالجامعة   Email: almubarakpuri@gmail.com

Related Posts