دراسات إسلامية

بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)

الأجر المناسب هو نتاج عمل الفرد، وثمرة مجهوده، فكلما كان هذا النتاج يكافئ مجهوده، ويلبي احتياجاته الضرورية منها ثم الكمالية، وما يزيد بعد ذلك يدخر جزءًا ويستثمر جزءا آخر، كان ذلك مؤشرا لسعة الرزق، فضلا عن إن القناعة والبركة إذا لحفا بالأجر زادا من شعور الفرد بالإشباع، وغض بصره عن التطلع إلى ما تمتلكه يد غيره. والإسلام يحبذ لو كان الأجر يكفي حاجات الفرد، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال (من كان لنا عاملا وليس له زوجة فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكنا فليتخذ مسكنا) وهذا الحديث وضع قواعد الأجر للعامل في الدولة الإسلامية، فينبغي أن يكفل الآجر ضمن ما يكفل، اتخاذ زوجة، وبالتبعية الإنفاق عليها، ومن قبل أو بعد اتخاذ مسكن يأوبه هو وزوجته، ثم خادم يقضي حاجاته…(1)

       ومن المقررات الشرعية أن العامل يجب أن يوفر له، الغذاء الكافي الذي يحمى جسمه، والكساء اللازم، والمسكن الذي يليق بمثله، والذي تستوفي فيه كل المرافق الشرعية، ويجب أن تكون الأجرة محققة لهذا كله، وإلا كان ظلما…(2)

       فللعامل حق في تأمين نفقاته العائلية لأن ذلك من كرامته قال تعالى ﴿وَلَقَد كَرمنا بني آدم﴾ سورة الإسراء آية 70﴾(3)

       وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطى في الفيء العازب حظا والمتزوج حظين لأن حاجة المتزوج أكثر من حاجة العازب ويقاس على المتزوج صاحب العيال. وقد أعطى النبي عليه الصلاة والسلام في الغنائم الراجل سهما والفارس سهمين أو ثلاثة أسهم لأن كفاية الفارس في الحرب فوق كفاية الراجل. بهذا وذاك يكون النبي صلى الله عليه وسلم، قد اعتبر العمل والكفاية كما اعتبر الحاجة أيضا، هم مقياس توزيع الدخل أو الموارد؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب في شأن مال الفيء والله ما أحد إلا وله في هذا المال حق فالرجل وبلاؤه والرجل وقدمه والرجل وحاجته…(4)

       وقد فرض الإسلام الحد الأدنى للأجور، وترك الحد الأقصى بلا قيد ولا شرط، لأنه رهن لظروف واعتبارات مختلفة منها كفاءة العامل وخبراته ومؤهلاته ومهاراته والطلب والعرض عليها، وهذا الحد الأدنى الذي كفله الإسلام للعامل، يضمن له فرصة العيش على مستوى صاحب العمل، كما جاء في الحديث النبوي الشريف (إخوانكم خولكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق فإذا كلفتموهم فأعينوهم) إذا ما دام العامل يحيا في المجتمع الذي يحيا فيه صاحب العمل، فمن حقه أن يكون أخا له في حدود الإنسانية، وهذا هو الحد الأدنى للأجور، أما الحد الأعلى الذي لم يقيده الإسلام ولم يحدده، فإن الحكمة في ذلك إنما تكون، في أن العامل قد يسمو ويرتفع في سلم الحياة، بمواهبه وتعلمه وذكائه، حتى يكون مستواه «وكثيرا ما يحدث» أفضل من مستوى صاحب العمل نفسه، وذلك لأن العامل يملك العمل وصاحب العمل يملك المال، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورة القصص، ووصل إلى قصة موسى أجير شعيب عليهما السلام، حيث يقول الله تعالى على لسان شعيب لموسى ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾ سورة القصص آية 27 وعندئذ قال عليه الصلاة والسلام (أجر نفسه والله على عفة فرجه وطعام بطنه). ويمكن أن يستنبط من هذا أن موسى قد زاد على الحد الأدنى لأجر العامل، وهذا الذي يضمن له أن يطعم ويلبس كما يطعم وبلبس صاحب العمل؛ بل أن عمله هذا جعله في مستوى كفاءة اجتماعية يناسب مخدومه، ولذا زوجه انبته. ولقد طبق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هذا التشريع العمالي في وضع الحد الأدنى من الأجور، فما كان أحد منهم يشتري لنفسه ثوبا إلا ويشتري لخادمه مثله، من ذات النوع واللون والسعر، حتى أن عبد الرحمن بن عوف، كان لا يُعرف من بين خدمه إذا كان فيهم، ومن ثم كان الخادم يسير بجوار مخدومه، تربطهما رابطة الأخوة الإنسانية، فإذا ركبا تناوبا راحلة واحدة، فيركب المخدوم ويسير الخادم، ويركب الخادم ويسير المخدوم، بغير ظلم ولا تميز. هذا بالنسبة لمن يعيش مع مخدومه في بيت واجد، أما وقد أصبح العامل يعيش في مسكن آخر غير مسكن مخدومه، فإن الدولة مسؤولة أن تضمن له نفقات المسكن والملبس والمواصلات، قال عليه الصلاة والسلام (من ولى لنا عملا وليس له دابة فليتخذ دابة) وهذا القول ينطبق على جميع العمال بلا استثناء…(5)

       وإذا رضي العامل مضطرا بأجر دون ما يستحقه، وجب أن يدفع له رب العمل ما يستحقه، ولا عبرة برضاه في الأجر المخفض، قال عز وجل في سورة الأعراف آية 85 ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾(6)

       والإسلام ينهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره، عن أبي سعيد قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن استئجار الأجير حتى يبين أجره ونص الحديث (من استأجر أجيرا فليسم له أجرته)…(7)

       والإسلام يدعو إلى الوفاء بأجر العامل ويجعل أداء أجر العامل من العقود التي أمر القرآن بالوفاء بها والأمانات التي أمر أن تؤدي إلى أهلها قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ سورة المائدة آية1. وقال تعالى في سورة النساء آية 58 ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ وينذر الإسلام من يحور على العامل في أجره، بحرب من الله وخصومة قال عليه الصلاة والسلام (قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره) والجمع بين هذه المعاصي الثلاثة وتوحيد الجزاء عليها ذو دلالة خاصة فالمعصية الأولى هي خيانة وغدر لذمة الله والثانية هي جريمة إهدار لإنسانية حر وأكل ثمنه والثالثة هي أكل عرق الأجير وهي كأكل ثمن الحر غدر بالإنسانية وكخيانة العهد بعد الحلف بالله غدر بذمة الخالق وكل منها يستحق الحرب من الله والخصومة لشناعتها ووضوح معنى الغدر فيها…(8)

       كما أوردت كتب السنة قصة الثلاثة الذين أووا إلى غار، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فدعا الأول بصالح عمله فانفجرت الصخرة قليلا وفعل الثاني مثل ذلك فزدادت الصخرة انفراجا وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد ترك الذي له، وذهب، فثمرت أجره، حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أدلي أجري، فقلت له بل ما ترى من أجلك من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي. فقلت: إني لا استهزئ بك. فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون. كما يحبذ الإسلام التعجيل بدفع أجر العامل يقول النبي صلى الله عليه وسلم (أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه)…(9)

       ورب العمل ملزم بنص السنة، ألا يكلف العمال من العمل ما لا يطيقون، فإذا كلفهم أعانهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يقول بالنسبة للعبيد (لا تكلفوهم ما لا يطيقون) وإذا كان ذلك بالنسبة للعبيد، فالعمال أولى، ولقد قال تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) سورة البقرة آية 286 فالتكليف لا يكون إلا في دائرة الطاقة، والقاعدة الشرعية أنه لا تكليف إلا بالمستطاع وما يمكن الاستمرار عليه من غير جهد. يقول النبي صلى الله عليه وسلم (عليكم من الأعمال بما تطيقون فإن الله لايمل حتى تملوا) وأن الأعمال الدائمة أحب إلى الله وإن كانت قليلة، من الأعمال الكثيرة التي تجهد ولا يمكن الاستمرار عليها، قال عليه الصلاة والسلام (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) وقال (إن الله يحب الديمة من الأعمال) وفي ضوء هذه النصوص يتضح أن الإسلام يتجه في تنظيم الأعمال، إلى أن يكون تكليف العامل مقيدا بكونه في طاقته، وأنه يمكنه الاستمرار عليه، فلا يكلف أقصى الطاقة التي لا يستطيع الاستمرار وهو قوي معافي، فإذا كان يستطيع القيام بالعمل اثنتي عشرة ساعة فإنه لا يستطيع الاستمرار بل يضعف شيئا فشيئًا حتى لا يستطيع القيام بما دون ذلك، ولذلك يبرر الإسلام تقييد ساعات العمل بزمن محدود يستطيعه ويستطيع الاستمرار عليه من غير إجهاد وإرهاق، ومقدار ذلك يختلف باختلاف الأعمال وباختلاف الأحوال وباختلاف الأزمان…(10)

       وإذا قررت الدولة بناء على ما ثبت عمليا أن العمل يجب أن يكون ثماني ساعات في اليوم أو أكثر من ذلك أو أقل، وجب التقيد بذلك، فإذا أراد رب العمل تشغيل العامل أكثر من ذلك، وجب إعطاؤه أجرا إضافيا، ويكون ذلك داخلا تحت قوله عليه الصلاة والسلام (فإذا كلفتموهم فأعينوهم) وإعطاء الأجر على العمل الإضافي إعانة بلا ريب…(11)

       كما أن الإسلام لم يجعل العلاقة بين الأجير والمستأجر جافة خشنة؛ بل جعلها علاقة تقوم على الحب والأخوة والنفع الإنساني المتبادل، ولكي نعرف وجهة نظر المستأجر نحو الأجير في الإسلام نلفت النظر إلى ما دار بين شعيب وموسى عليهما الصلاة والسلام، وهما نبيان استأجر الأول الثاني، فانظر ماذا قال المستأجر للأجير ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ سورة القصص آية 27 فالآية تدلنا على أن المستأجر المسلم الذي يريد لنفسه الصلاح، لا يمكن له ذلك، ما لم يتمتع بدافع يبعثه على الشفقة مع الأجير ويحافظ عليه من المشقة…(12)

       ولا يغيب عنا ما سيعود على المجتمع من جراء توفير للعامل حاجاته المعيشية وحاجات أسرته، حيث لا يشغل باله أو تفكيره بأي من هذه المشاكل وسيتجه بكل ما لديه من طاقة وجهد إلى العمل باطئمنان وارتياح، يؤثر بإيجاب على كفاءته الإنتاجية وعلى كمية الإنتاج، فضلا على أن الفائض من مصروفات المسلم إما أن يستثمره في إحدى المشروعات، بعد أداء ما عليه من زكاة، مما يزيد من دخله، أو أنه يتطوع به في سبيل الله مما يزيد من حسناته في الآخرة، أو أنه يودعه خزائن مملوكة للدولة يسترده حين شاء، وتقوم الدولة بهذه الأموال بالتيسير على إخوانه المسلمين، ورفع حاجاتهم، وهنا سينال المسلم جزاء من فرج على مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عليه كربة من كرب الآخرة. ولا يمنع المسلم من ادخار جزء من ماله، والادخار ثلاث درجات، إحداهما أن يدخر ليومه وليلته، وهي درجة الصديقين، والثانية أن يدخر لأربعين يوما، فإن ما زاد عليه داخل في طول الأمل، وقد فهم العلماء ذلك، من ميعاد الله تعالى، لموسى عليه السلام، ففهم منه الرخصة في أمل الحياة أربعين يوما، وهذه درجة اليقين، والثالثة أن يدخر لسنته وهي أقصى المراتب وهي مرتبة الصالحين…(13)

       أما إذا كان أجر العامل لا يكفي حاجاته، ستجده يسعى لعمل إضافي ليسد العجز في دخله، أي أنه سيعمل أكثر من ثلثي اليوم، مما سيؤثر على جهده وكفاءته، فالإرهاق لا يجعله قادرا على الإبداع أو الجود في أي من العملين، كما سيؤثر على اهتمامه بمنزله وأسرته.

*  *  *

المراجع

دراسة إسلامية في العمل والعمال لبيب السعيد ص 85-89.

التكافل الاجتماعي في الإسلام محمد أبو زهرة ص 51-53.

اشتراكية الإسلام د. مصطفى السباعي ص 153-156.

الحل الإسلامي فريضة وضرورة يوسف القرضاوي ص 69.

العمل في الإسلام د. عيس عبده – أحمد إسماعيل يحيى ص 194-199.

اشتراكية الإسلام د. مصطفى السباعي ص 153-156.

دراسة إسلامية في العمل والعمال لبيب السعيد ص 85-89.

العدالة الاجتماعية في الإسلام سيد قطب ص 126-127.

دراسة إسلامية في العمل والعمال لبيب السعيد ص 85-89.

التكافل الاجتماعي في الإسلام محمد أبو زهرة ص 51-53.

اشتراكية الإسلام د. مصطفى السباعي ص 153-156.

العمل في الإسلام د. عيس عبده – أحمد إسماعيل يحيى ص 194-199.

إحياء علوم الدين أبي حامد الغزالي ج4 ص 192.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، شعبان 1434 هـ = يونيو – يوليو 2013م ، العدد : 8 ، السنة : 37


(*)   6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل، وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.

      الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451

      الجوّال : 0101284614

        Email: ashmon59@yahoo.com

Related Posts