إشراقة
الإنسان لا يَحْسُدُ الإنسانَ على وسائل المادة والمعدة فقط، وإنما يحسده على كلِّ شيء يتفضّل الله تعالى به عليه، من العلم والفضل، والجاه والمكانة، والسمعة الطيبة، والمجد والشرف، حتى المحبوبيّة لدى الله والخلق؛ ولكن الأذهان تَتَطَرّق في الأغلب إلى أنّ الحسد إنما يتعلّق بالمال والنعم الماديّة، وعليها يتركّز، وإليها تتسدّد سهامُه؛ ولكن الواقع ليس كذلك؛ لأن الـمُنْعَمَ عليه محسودٌ مهما كان نوعُ النعمة التي يتمتّع بها.
الحسدُ داء نفسيٌّ خطير ينشأ من روح الأنانيّة والفرديّة، وحبّ الذات، والإعجاب بالنفس، والشعور الزائد بالعلوّ، والصدور في تصرفات الحياة عن نوازع الشرّ. وهو داءٌ يُعَدُّ عُضَالاً يصيب القلبَ، فيُفْسِده إفسادًا لا يُرْجَىٰ معه شفاء إلا أن يشاء الله تعالى الذي لايستعصي عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وله جنودُ السماوات والأرض. وما وُجِدَ هذا الداء في مجتمع إلا زَرَعَه بالخراب والدمار، والشقاق والخصام، والنزاع والجدال، وحرمان السعادة والبركة.
وقد شَنَّعَ عليه الكتابُ والسنّةُ، وذكره الله تعالى في مواضع شدّةِ الضرر والغرر والخطر، والأثر السلبيّ الشامل الأكبر؛ فقد نصّ في سورة البقرة على أن كثيرًا من أهل الكتاب قد جَعَلَهم حسدُهم للمسلمين أنهم يوَدّون ويحاولون محاولةً قويّةً أن يتمكّنوا بحيلة أو بأخرى من ردّهم كفارًا مثلَهم، فقال تعالى: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْم بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِندِ أَنْفُسِهِمْ مِنْم بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» (البقرة/109) وقد دَلَّت الصياغة القرآنية المُعْجِزَة البليغة البارعةُ في «حَسَدًام مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» أن الحسد الذي يُغْرِيهم بإعادة المسلمين كفارًا هو الداء الذي نشأ لديهم من شرّ أنفسهم وخبث باطنهم وفساد قلوبهم وموت ضمائرهم.
وقد أشار القرآن الكريم أن الحسد كان من شيم أهل الكتاب: اليهود والنصارى الذين حسدوا الناسَ على ما آتاهم الله من فضله؛ فقد حُرِمُوا الخيرَ الكثيرَ الكبيرَ من أجل الحسد الذي تعاملوا به مع العرب الذين منّ الله عليهم إذ بعث فيهم رسولاً منهم كان خاتَمَ الأنبياء والرسل. وذلك قوله تعالى: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ إِبرٰهِيمَ الْكِتٰبَ والْحِكْمَةَ و آتَيْنٰهُمْ مُلْكاً عَظِيمًا» (النساء/54).
وقد نهى النبيّ – صلى الله عليه وسلم- عن الحسد أشدَّ النهي قائلاً فيما يرويه سيدنا أنس بن مالك – رضي الله عنـه – «الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب» (ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحسد، رقم الحديث 4210).
ورواه عنه الشيخان بصيغة النهي التي تدلّ على النهي الـمُؤَكَّد عن هذا الداء المفسد لصاحبه قبل إفساد المجتمع من حوله: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا – عبادَ الله! – إخواناً» (البخاري، كتاب الأدب، باب ما يُنْهَىٰ عن التحاسد والتدابر، رقم الحديث (6065)؛ ومسلم، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر، رقم الحديث (2559).
وأكّد الدارسون لهذا الموضوع وخبراء الصحةِ النفسيّة أنّ الحسد يضرّ الحاسد أكثر من المحسود؛ لأنه داء خفي كامن في أعماق النفس، فهو يُسَبِّب له القلقَ الدائم، والتوتّرَ المتصلَ، والاكتئابَ الذي لا ينتهي، والحزنَ الذي يستمرّ معه ما استمرّ في الحسد والتعامل به مع الناس. كما أنّ الحسد قد يمتدّ شرُّه إلى المحسود، ولذلك لَقَّنَ الله تعالى نبيَّه – صلى الله عليه وسلم – العِيَاذَ به تعالى في سورة مستقلة، وهي سورة الفلق، فقال: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفّٰثٰفِ فِي العُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ» (الفلق/1-5)
وكأن الحاسد – إذا أراد الله لحكمة يعلمها – يكون بمقدوره أن يصيب محسودَه بالشرِّ والضرر قد يصعب النجاة منه؛ ولذلك أوصى النبيُّ الكريمُ – الذي كان رحمةً للعالمين – المسلمين كلَّهم أن لا يتحاسدوا ولا يتباغضوا ولا يتدابروا ولا يَبِعْ بعضُهم على بيع بعض، فأراد أن يَقِيَهم فتنةَ هذه الآفة الشنيعة حاسدين ومحسودين، ضارّين ومضرورين، إذا شَقِيَ منهم من رَضِيَ لنفسه بممارسة الحسد مع أخيه والتعامل به معه ومحاولته للإضرار به.
ومن نفسيّة الحاسد أنه لا يحسد إلاّ ذوي الفضل والخير والنعمة والمكانة المرموقة؛ لأن رؤيته له متمتعاً بذلك تُنْشِئ لديه شعورًا بالدونيّة أو مُرَكَّب النقص الذي يحمله على أن يحسده ويتمنَّى أن يزول عنه ما هو فيه من النعمة والخير والمكانة المرموقة والفضل المغبوط. وقديماً قال الشاعر:
وَفِي السَّمَــاءِ نُجُــومٌ لا عِـدَادَ لَهَا
وَلَيْسَ يُخْسَفُ إِلاَّ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وقال الشاعر الذي أصاب وأجاد:
وشَكَوْتَ مِنْ ظُلْمِ الوُشَاةِ وَلَمْ أَجِدْ
ذَا سُــؤْدَدٍ إِلاَّ أُصِيبَ بِحُسَّــــدِ
لاَزِلْتَ يَا سِبْـطَ الكِـرَامِ مُـحَسَّدًا
وَالتَّافِهُ الْـمِسْكِيْنُ غَــيْرُ مُـحَسَّـدِ
والحسدُ يُنْشِئ لدى الحاسد عِدَاءً شديدًا نحو المحسود الذي يكون لم يرتكب معه ذنبًا ولم يُلْحِق به ضررًا. وهذا العداء من شأنه أن لا يزول إلاّ إذا زال الحسد. قال الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى – الـذي لاينطق في شعـره الخالد إلاّ بالحكمة وحقائق الحياة:
كُلُّ الْعَدَاوَاتِ قَدْ تُرْجَىٰ مَوَدَّتُهَا
إِلاَّ عَدَاوَةُ مَنْ عَادَاكَ مِنْ حَسَدِ
وإذا أمعنتَ النظرَ وجدتَ أنّ الحاسد في الحقيقة يَسْخَطُ على الله ويسيء الأدب معه ويعترض على قضائه بأن وهب لفلان النعمةَ التي يحسده عليها، على حين إنّه هو – كما يزعم – الأحقُّ الأَلْيَقُ بها، وتلك نفسيّةٌ شيطانيّةٌ؛ لأن الشيطان اعترض على الله تعالى وانتقده على قضائه وفعله وأَمْرِه بأن يسجد لآدم – عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام – فكان أوّل من سَنَّ سنّة انتقاد الله عزّ وجلّ – الذي لا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَلَ وهم يُسْأَلُونَ – على أفعاله وقضائه؛ ولذلك قال الشاعر:
أَيَا حَـاسِــدًا لِي عَلَىٰ نِعْمَتِــي
أَتَدْرِي عَلَىٰ مَنْ أَسَأْتَ الْأَدَبْ
أَسَأْتَ عَلَى اللهِ فِي حُكمِـــــهِ
لِأَنَّكَ لَـمْ تَرْضَ لِي مَـا وَهَبْ
فَـــأَخْــزَاكَ رَبِّـي بِأَنْ زَادَنِي
وَسَدَّ عَلَيْكَ وُجُـــوهَ الطَّلَبْ
ومن عاقبة الحسد الوخيمة أنه يُؤَلِّب على الحاسد الهمومَ التي كان هو في غنى عنها وراحة منها لو أنه كان قد اجتنبه وأسلم أمره لقضاء الله وقدره، واقتنع بما أعطاه من النعم، ورضي بقسمة الله تعالى فيه؛ حيث هو أعلم بأحوال عباده منذ أن لم يخلقهم، فهو يتعامل مع الكل بما هو أهله. وقد جاء في حديث طويل عن أبي ذر الغفاري – رضي الله عنه – رواه مسلم في صحيحه، فيما يرويه – صلى الله عليه وسلم – عن ربّه تعالى: «يا عبادي! إني حَرَّمت الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحَرَّماً؛ فلا تظالموا» (صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الظلم، رقم الحديث: 2557) ومن أشدّ الظلم أن يحسد المرأُ أخاه على ما آتاه الله من النعم التي رآها تليق به ورآه في علمه القديم المحكم أهلاً لها، ويتمنى أن تزول عنه وكأنه يراه ليس أهلاً لها مهما رآه الله أهلاً لها.
الحسدُ في الواقع ينشأ من ضعف الإيمان بقضاء الله وقدره، وعدله وفضله، وإحاطته علماً بجميع ما كان وما يكون؛ لأن النعم كلّها المادِّيَّة منها والمعنويّة إنّما يقسمها الله بين عباده بمشيئته وحكمته وحسبَ مصلحتهم، كما يراعي فيها أعمالهم وتصرّفاتِهم التي إنما تأتي على ما يشاء من الخير الذي يرضاه أو الشرّ الذي لا يرضاه؛ فقد وَرَدَ في الحديث المذكور: «يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أُوَفِّيكُم إِيَّاها؛ فمن وَجَدَ خيرًا فليحمد الله، ومن وَجَدَ غير ذلك فلا يلومن إلاّ نفسَه». إن الله لديه خزائن السماوات والأرض، ولن يضرّه أن يعطي كلَّ إنسان و جنيّ في الكون جميع ما تمنّاه؛ ولكنه إنما يعطي الكلَّ بقدر معلوم؛ لأنّه يعلم أنه – القدر المعلوم – هو الذي يليق به وهو الذي يتأهّل هو له؛ ففي الحديث المذكور: «يا عبادي! لو أن أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيتُ كلَّ واحد مسألتَه، ما نقص ذلك ممّا عندي إلاّ كما ينقص المِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ البحرَ».
ولكنّ نفسيّة الحاسد تقتضي منه أن يغالط نفسه فيما يتعلّق بالحقائق التي أقرّتها الشريعة، وثَبَّتَها الله لإدارة الكون، وعَمَّقَها للعمل بسنته القديمة التي لن تتغير ولن تتحوّل كما نصّ على ذلك في كتابه العزيز: «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً» (الأحزاب/62) «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيْلاً» (فاطر/43)
لم يحدث في التاريخ البشريّ كلّه، ولم يُسَجِّلِ التاريخُ حادثاً واحدًا أنّ حاسدًا حَسَدَ أحدًا على نعمته، فزَايَلَتْه إليه؛ ولكنه الشقاء المكتوب عليه والخسران المُقدّر له أنه يحسده عليها، ليُسَبِّب لنفسه همًّا دائماً، وحزنًا قائماً، وحسرة قاتلة، وإنهاكاً لجسده، وعذاباً لروحه، وألماً لنفسه، وصدمة لعقله، وهواناً لشخصه في المجتمع حوله، ونفورًا منه في أبنائه، وهدرًا لحسناته التي يأكلها حَسَدُه غيرَه كما تأكل النارُ الحطبَ، كما أن أبناء المجتمع كلّهم يعودون ألسنةَ مذمةٍ له، فيصير مبغوضاً عند الجميع. وعاد مثلاً في العربية: «الحسودُ لايسود» لأنه يصبح منعزلاً عن المجتمع لايحبّ أحد أن يتّصل به، وينتمي إليه، ويتعامل معه.
الاقتناع بما يوجد لدى المرء من النعم الكثيرة التي تكثر لدى التقدير والشكر، وتقلّ أو تزول لدى التنكّر والكفران هو العلاج السريع المفعول المعقول لداء الحسد الذي عدّه علماء النفس عضالاً لا يقبل علاجاً ولا ينفع فيه دواء ولا يتعرض له طبيب بالفحص والتشخيص و وصفه له دواءً. الإيمان بأن الحالة التي هو فيها هو أحسن الحالات التي رَضِيَها له ربُّ العزة والجلال الذي لايخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو أقوى العلاج وأدومه وأشفاه لداء الحسد الذي حارت فيه الأطباء النطاسيّون الذين يعالجون الظواهرَ بالأدوية الظاهرة. ومن هذا الإيمان يتفرّع الإيمانُ بأنّ ما أصابه لم يكن ليُخْطِئَه، وما أَخْطَأَه لم يكن ليصيبه كما وَرَدَ في الحديث الذي رواه غيرُ الترمذي من المحدثين بهذا اللفظ. (انظر مثلاً: مسند أحمد،ج1، ص308، رقم الحديث: 2803؛ ورواه الترمذي بلفظ آخر، انظر جامع الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم الحديث: 2516).
ومن يؤمن بذلك يؤمن بأن الخير له ولغيره من إخوانه في المجتمع البشري أن يعيش معهم بالمودة والتعاون، والإخاء والتكافل، وروح العطف والتعاضد، والتسامح والتعاذر. وإن كان لابدّ من التنافس، ففي التنافس الشريف مجال واسع، ومقنع وكفاية، وبلاغ ونهاية؛ لأنه – التنافس الشريف – يعني الحر ص على إنجاح العمل الجماعي، والفرح الصادق بنجاح الآخرين من أبناء المجتمع، كما يعني ذلك الاهتمام بتحقيق الكفاءة اللائقة، والأهلية المنشودة، والإتقان المطلوب للعمل، الذي دعت إليه الشريعة، وحَرَّضت عليه بأكثر من أسلوب، وكذلك يعني التمسك الدائم بالانضباط والالتزام، والحرص على الإبداع والابتكار، والجِدّ والجِدِّيَّة، والعزيمة التي لا تُغَالَب، والإرادة التي لا تُقْهَر، والإيمان الراسخ بالعمل والتحرك والنشاط، ذلك الذي يزرع في القلب السعادة الموفورة، ويُسْعِد المجتمع بالإنتاج وحصائد العمل. وقد قال كثير من العلماء السلف: إنّ العمل هو السعادة، أو السعادة في العمل.
أبو أسامة نور
nooralamamini@gmail.com
(تحريرًا في الساعة 2 من ظهر يوم الثلاثاء: 6/جمادى الأولى 1434هـ = 19/مارس 2013م)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الثانية – رجب 1434 هـ = أبريل – يونيو 2013م ، العدد : 6-7 ، السنة : 37