دراسات إسلامية

بقلم: الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى 1297هـ /1880م

تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي (*)

الخامس عشر: عامَّة الناس لايعرفون المصلحة من غيرها، وأما العلماء فهم يُمَيِّزون بين المصلحة وغيرها، إلا أنَّ كل فرقة يختلف عن أخرى في عموم المصلحة وخصوصها. لم يكتب »السيد« أنه أراد بالمصلحة مااصطلح عليه عامة الناس أو خاصتهم. فننظر هل يؤدي مراعاة المصلحة إلى الإساءة إلى رسول الله ﷺ أم لا؟ نعم إنَّ كلمة »الصدق« التي جاءت في رسالة »السيد« والتي تدل على أنَّ المصلحة في عرف عامة الناس أمر يَنسِبُ الكذب أو النطق بالكذب إلى رسول اللهﷺ. فلما أمعنَّا في هذه النسبة وجدناها أنواعًا، ولكل نوعٍ حكم خاص، ومنها »التعريضات« التي لا تُعارض معناها المطابقيُّ الواقعَ، غيرأن المؤيدات الأخرى تَجُرُّ إلى معارضة الواقع. ثم إنَّ صريح الكذب- كذلك- أنواع، ولكل نوع حكم خاص، ولايجب عصمة الأنبياء من جميعها،غيرأن نبينا ﷺكان معصومًا عن جميع أنواعها. وهنا يجب أن أشبع هذا الموضوع بحثًا وتمحيصًا.

       فليُعلم أن من الأفعال ما هو خير؛ لأنه وضع للخير كالنار جاء وضعها للإحراق والحرارة، والماء جاء وضعه للرطوبة والتبريد، والصلاة جاءت لتعظيم الله تعالى. فلا شك أنَّ هذه الأفعال كلها خير، ولايشوبها شيءٌ من الشر. ومنها ماهو شرمحض؛ لأنها وضعت للشر، كقطع أعضاء الجسد وُضِع لهدم بنية الجسم، والظلم لإيذاء الناس، والزنا لخلع العذار، وهكذا. ومنها ما هو ليس خيرًا ولا شرًا، فإن كانت يُتوسَّل بها إلى الخير فهي من أفعال الخير، وإن كانت يُتوَسَّل بها إلى الشر، فهي من أعمال الشر.كالمشي والإبصار والاستماع أفعال لا خير وشر، فإن كان المشي إلى المسجد كان من الطاعات والعبادات، وإن كان إلى الحانة أو معبد الأصنام أو المومسات كان من السيئات. فإن كانت أفعال تجمع بين الخير والشر فيعتبر بالغالب، كاجتماع الرجال والنساء في المساجد، فإن كان الاجتماع يؤدي إلى ثواب الجماعة وبركتها، فيخشى منه الفتنة ، فإن غلب الجانب الأول- وهو الثواب والبركة- بالزمان أو المكان كعهد نبينا ﷺالمبارك الذي كان قد تلاشى خوف الفتنة فيه تقريبًا لكمال زهد الصحابة والصحابيات وغلبة إيمان أهل ذلك العهد. فاجتماعهم في المساجد في مثل ذلك الزمان والمكان كان من الأعمال الحسنة، وإن غلب الجانب الآخر- خوف الفتنة- في زمان أو مكان ينقلب الحكم، فيكون الاجتماع من الأعمال السيئة.

       ثم لننظر أيّ قبح يحتوي عليه الكذب والتعريض؟ فأدعي – ويؤيدني في دعواي أولوالعقول- أنَّ الكذب – بمعنى القول بما يخالف الواقع- ليس قبيحًا لذاته، وإنما هو قبيح لتضرر الناس بالخداع وسوء الاعتقاد. وأما الكذب بمعنى الفهم بما يخالف الواقع فهو قبيح لذاته؛ لأنه عبارة عن الجهل. إذًا فإن كان القول بما يخالف الواقع في حين من الأحيان خاليًا عن المضرة، أو مضمومًا إليه المنفعة بعد خلوه عن المضرة، أو جامعًا لهما لايكون النهي عن الكذب الضار قبيحًا لذاته. ففي الصورة الأولى كان الكذب نفسه أمرًا لغوًا، غيرأنَّه إن تعوَّد أحد مثل هذا الكذب فلا عجب أن يصدر عنه الكذب الضار، فتكون عادة مثل هذا الكذب من وسائل الكذب الضار، ويعرضه قبح الكذب الضار، فيعتبر من المقابح. على كل فيكون هذا الكذب خاليًا عن إيذاء الناس وإلحاق الضرربهم مثل: القصص الكاذبة والمصطنعة.

       وأما الصورة الثانية فهي أن يكون الكذب خاليًا عن المضرة متضمنًا للمنفعة، كان هذا الكذب من المحاسن، مثل ما قال رسول اللهﷺ: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا (صحيح البخاري، رقم: 2546)

       وقد حث رسول الله ﷺ على هذا الكذب، فيكون كذبًا محمودًا. وأما إذا صرفنا النظر عما تدل عليه القرينة فنقول: إنه قد نفي عن الكذب القبح الذي يصير هو لأجله معصية، لا طاعة. وأما إذا تناولنا الحديث حيث أنَّه قد نفي فيه الوهم الذي استقرَّ في الذهن عن قبح الكذب الذي يكون مانعاً من مثل هذا الإصلاحات التي تنبني على القول بخلاف الواقع يكون الحديث مسوقًا لأجل المدح.

       وأما الصورة الثالثة فهي إذا غلب الكذبَ جهةُ النفع كان من المنافع، وإذا غلبته جهة الضر كان من المضار، فإن كانت المنفعة دينية كان من الحسنات الدينية، وإن كانت المنفعة دنيوية كان من الحسنات الدنيوية، كالمنفعة والراحة الدنيوية التي يتفرع على إطعام الطعام أو تعليم العلوم الدنيوية. والمنفعة والراحة الدينية تتفرع على تعليم العلوم الإسلامية. فالأولى من الحسنات الدنيوية والثانية من الحسنات الدينية. وتزكية النفس وتهذيبها لبعثها على اتباع محمد ﷺمن الراحة الدينية، وهي خير من الراحة الدنيوية. ومشروعية قتال الكفار كونه في عداد الحسنات من هذا القبيل؛ لأن القتال المذكور – مثل قطع العضو الفاسد من الجسم صحة له- صحة وراحة للناس جميعا، فلما كان إضرار المقتولين هذا الإضرارَ دفعًا للفساد حسنا فكيف لايكون الكذب الصريح الذي يُخدَع به الكفارُ دفعًا للفساد وإعلاءً لكلمة الله حسنا. ولا نسبة بين هذا الإضرار وذلك الإضرار الذي ليس فوقه مضرة دنيوية، ألا وهو القتل، فلما جاز ذلك الإضرار- القتل- للغرض المذكوروعُدَّ من الحسنات فكيف لايجوز هذا الإضرار وهو الكذب.

       نعم سلمنا أن دفع الفساد يحصل بالقتال المذكوررأسًا، وأما الكذب في الحرب الذي يُستَخدم خديعة كما جاء في الحديث: الحرب خدعة (باب الخديعة في الحرب، ابن ماجه رقم:2833) فيتوسل به إلى دفع الفساد المذكور، لذلك فيُتجنب الكذب الصريح ما أمكن، وإنما يستخدم التعريضات، فلا عجب أن يستقبح الأنبياء حتى التعريضات كما تدل عليه قصة إبراهيم عليه السلام. نعم إذا كان دفع الفساد يتوقف على الكذب، مثل الإصلاح بين الناس فلا شك في جوازه.

       على كل فاعتبارالكذب مطلقًا منافيًا لمكانة النبي، بأنه معصية، والأنبياء معصومون عن المعصية لايخلو عن الخطأ. ثم إن التعريضات التي ليست من الكذب في الواقع، وإنما هي تشبه الكذب لاينافي مكانة نبي من الأنبياء.

       على هذا فترك أمر مستحب ينطوي على فساد عظيم يفوق منفعة الاستحباب- وإن كان فيما يبدو مما يوهم معارضة الواقع؛ لأن ترك الأنبياء أمرًا وتبنيهم أمرًا آخر يُشير إلى أنَّه مستحسن، والأمر المتروك ليس مستحسنًا، وهذا يُعتبرلإيهامه معارضة الواقع في عداد الكذب- لاينافي مكانة النبي، بل يلائمها. فترك سيدنا محمد ﷺالكعبة المشرفة على طابعها، وعدم إعادة بنائها على القواعد التي بناها إبراهيم عليه السلام، وعدم رفع دهليزها عن الأرض، ولا فتح بابين لها أحدهما شرقي و ثانيهما غربي- مع رغبته في كل ذلك مما يدل على الاستحباب- لعلمه ﷺبفتنة الذين كانوا حديثي العهد بالإسلام بالمعارضة والردة، والذين كانوأكثرعددًا. فرأى رسول اللهﷺأنَّ التغيير والتبديل في الكعبة يضر أكثرمما ينفع. أما نفع التغيير والتبديل فهوأن الكعبة يسهل الطواف حولها ودخولها، وأنها تعود إلى طابعها الأصيل، وظاهر أن هذا ليس من تبليغ الدين الذي يُبعث لأجله الأنبياء عليهم السلام. وأما ضرر التغيير والتبديل فهو ضرر ليس فوقه ضرر في نظر الأنبياء عليهم السلام، وهو ردة جمع غفيرمن الناس، وهذا يعارض غرض الأنبياء عليهم السلام أكبرَالمعارضة وأشدَّها؛ لأن الأنبياء يُبعثون لإدخال الناس في الإسلام لا أن يسببوا لهم الردة والتكفير.

       على كل فالأنبياء عليهم السلام يضعون نصب أعينهم في الأمور التي ليست بذاتها حسنة ولا قبيحة مضارها ومنافعها، كما يوضع نصب العين في حرارة الطبيعة الإنسانية وبرودتها – رغم تواجد العناصر الأربعة- غلبة العناصر، كذلك يؤخذ بالغالب عند تعارض المنفعة والمضرة.

       وقد أحلَّ الله تعالى الأشياء وحرَّمها نظرًا إلى هذا المبدأ، حيث قال: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُمِنْ نَفْعِهِمَا (البقرة، الآية:219) نعم قد يكون شيء ضارًًّا كثيرًا وينفع قليلا، مثل: الكذب، وهو يضرّ كثيرًا. على أنَّ الكلام موضوع للتعبير عما في الضمير سواء كان نافعًا أو ضارًا. والكذب يعارض ذلك، فيؤدي إلى معارضة الناس، والفساد في الدين، واضطراب حبل النظام، لذلك فالأنبياء يتجنبون- جهد طاقتهم – حتى التعريضات بالكذب.

       فعرفنا من ذلك أنه ينبغي للذين يديرون المعاهد والمؤسسات كمدرسة العلوم [جامعة عليجراه الإسلامية حاليًا] أن يحترزوا عما يثير الكراهية والنفور لدى عامة المسلمين، فضلا عما هو حرام أو مكروه بذاته، ويتجنبوا استخدام المحرمات والمكروهات، حتى لا تتبخرآمالهم هواءً ويعضوا على بنان الندم.

       على كل حال فإن الأنبياء عليهم السلام لايمارسون الأعمال رئاءَ الناس (أي طالبين مطامع الدنيا متسترين بالدين) وإنما يُمارسونها عن بصيرة وفطنة. فإن كانت مراعاة المصالح يؤدي إلى الكفر فهذا يعني الإفتاء بالكفر على أمورتعتبر من عين الإيمان. اللهم أرنا الحق  حقًا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه.

       أما بعد، فليس من عادتي خوض الجدال والمناقشة دونما حاجة، ولوكان من عادتي كذلك كان خيرًا لي أن ألوذ بالصمت في هذا الزمان، كما قال رسول الله ﷺ: إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك يعني بنفسك ودع عنك العوام (أبوداود، رقم:4341 ) لأن أسباب النصح مفقودة، وأسباب التعصب متوفرة، والشأن كما قال الشاعر»مؤمن« الدهلوي في أحد أبياته، ومعناه:

       «إن عدو الدين إنما استهدف »الإيمان« وأحبطه، فعفا الله عنك يا»مؤمن«ماذا فعلت؟!»

       فهذا يؤدي إلى رقي الباطل وازدهاره دون رقي الحق وازدهاره.

       على كل فهذه المخاوف موجودة دائما، غير أنها كثرت في هذا العصر من ذي قبل، فقلة المؤمنين وكثرة الكفار في العالم منذ القدم، وغلبة الهوى وقوة الشح، وإيثار الدنيا على الآخرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، مع أنَّ الإسلام نزلت له الكتب، وبعث له الأنبياء، وظهرت له المعجزات والكرامات، وميز العلماء الحق والباطل بالأدلة والبراهين، كما وعد الله الناس بالثواب وتوعَّدهم بالعقاب، ونصر المؤمنين وهزم الكفار. وأما الكفرفلم يكن معه شيء من هذه الوسائل، رغم ذلك فالكفر قوي والإسلام ضعيف، والكفار كثيرون والمسلمون قلة.

       لقد أحسن موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ما لم يُحسن أحد إلى قومه، حيث خلَّصهم من تعذيب فرعون واستعباده، وجعلهم ملوكا في الأرض، وأبدى لهم المعجزات العظيمة، وكانوا خليقين أن يطيعوه لتوافقهم في الدين والجنس. رغم ذلك فلم يطيعوا أمره حتى رفع الله تعالى الجبل عليهم كالظلة. أما السامري فلما أراهم شعوذة متمثلة في عجل لايسأل ولا يُجِيب، خفّوا إليه مشغوفين به. ثم إن السامري لم تتمكن من هذه الشعوذة إلا بفضل سيدنا موسى عليه السلام، وجبرئيل عليه السلام الذي رأى هو فرسه تخضَرُّ مواقع حوافره، فأخذ قبضة من ترابه، وصنع الشعوذة.

       كل أولئك كان؛ لأن ما كان يدعو إليه موسى عليه السلام لم يكن يوافق هواهم، وأما ما صنع السامري من شعوذة، فقد وافق هواهم. فالاعتماد على العقل المعبر عنه بإعجاب كل ذي رأي برأيه سبب رئيس لضياع النصح. فالتصدي لمثل هذه الأموربدا لي غيرَ مجدٍ، إلا أن مطالبتك، وأمر الشيخ محمد يعقوب الديوبندي، وسمعة السيد وأخلاقه، والنصح والتألم (الذي هو من الأخلاق الإسلامية والذي ينبغي أن يبذل) لأولي الهمة وخَدَمَة الإنسانية كل ذلك اضطرني أن أكتب الرد على هذه الرسالة التي تلقيتها قبل الأمس، فبدأت كتابته بعد الظهر، وما زلت أكتب في أوقات مختلفة حتى أنهيها الآن فيما بين الظهر والعصر.

       إلا أنني مازلت أفكر ماذا يُجدي هذا نفعًا؟ أ يُرضي السيد ما قمت به من التغيير والتبديل والإلحاق والتغليط والتصحيح أم يغضبه؟ فيُمسك القلم للرد عليَّ. وقد عقدت عزمي على أني أنأى بجانبي عن مثل هذه الخلافات. نعم إن بدت أمارات العدل والإنصاف من »السيد« واستشارني في فكره وآرائه وشؤونه وأحواله عملا بما جاء في القرآن: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم (الشورى، الآية:38) لا أتحاشى عن إسداء المشورة وبذل النصح، امتثالا لما أمر به رسول اللهﷺ: المستشار مؤتمن(سنن ابن ماجه، رقم: 3745) غيرأني عند ما أفكر في ضآلة شخصيتي ومكانة »السيد« يبدو لي هذا أمنية بعيدة المنال، وأضحك على نفسي.

       على كل فإني أرسل إليكم هذه الرسالة راجيًا أن ترسل صورتها إلى »السيد« وترد الرسالة نفسها إليَّ، واقرأ عليه مني السلام، وقل له: إن جاءت كلمة في الرسالة تؤذيك كتبتها عن جهل أو غفلة فاجعلني في حِلٍّ منها؛ لأننا نحن أهلَ القرى لا نُحسن أساليب الكلام ووجوه الخطاب.

       وأما ما قال من أن اجتماع التوحيد والكفرمن جملة المستحيلات فصحيح؛ لأن هذا الاجتماع كاجتماع الحيوان الناطق والحيوان الناهق في روح واحدة. ومن لا يعرف أن هذا الاجتماع هو كاجتماع الضدين. إلا أنه لا شك أنَّ تصور الروح الإنسانية بصورة الحمار أوالكلب أوالخنزيرممكن، كذلك تصور الإيمان بصورة الكفر وظهور الكفر بمظهر الإيمان ممكن. على هذا فكما أن الروح الإنسانية – لظهورها بمظهرالجسم الحيواني- تعد في عداد الكلب والخنزير والحمار، ويكرهها كل أحد كراهةَ الحيوانات المذكورة، وتُعامل في معظم المعاملات معاملة مثلها، مع أنهم يعرفون أن هذا الجسم يحتوي على الروح الإنسانية، كذلك الإيمان والإسلام الظاهر بمظهر الكفر لايرضاه الله؛ فنظرًا إلى »إن الله جميل يحب الجمال«(صحيح مسلم ، رقم:147) لايرضى صورة الكفر، ويعاملان هما- الإسلام والإيمان – في كثير من المعاملات  معاملةَ  الكفر الحقيقي.

الله يهدينا وإياكم إلى سواء الصراط، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.


(*)      أستاذ الأدب العربي بالجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند، الهند.

                Email- sajidqasmideoband@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ربيع الثاني 1434 هـ = فبراير ، مارس 2013م ، العدد : 4 ، السنة : 37

Related Posts