الفكرالإسلامي
بقلم: الشيخ/ أحمد عبد اللطيف الكلحي
رفع الإسلام للمرأة ذكرها وأعلى قدرها وسوى بينها وبين الرجل فيما ليس فيه مجال للمفاضلة، ولم تكن قبل شيئاً مذكورًا، وقد فاق الإسلام غيره من الشرائع والأديان في هذا الميدان حتى غدت المرأة لها كيان في المجتمع الإسلامي، وأخذت حظها في الحياة العفيفة الشريفة آمنة على نفسها غدر الآباء ونزوات التقاليد الممقوتة والأحكام الجائرة التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبَغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (سورة النور: آية33)، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ (سورة النحل: الآيتان 58، 59).
وسجل الإسلام ما للمرأة من مآثر ومفاخر عدت بها زوجة مثالية وأمّا وأختاً حانيةً ومجاهدةً صادقةً ورائدةً نهضةً اجتماعيةً وثقافيةً وخلقيةً، حتى قال قائلهم في شأن واحدة منهن:
ولو كان النساء كمثل هذى
لفضلت النساء على الرجال
والتاريخ الإسلامي يقص علينا بما لا يدع مجالاً للشك الأدوار التي قامت بها نساء الإسلام وفتياته في سبيل تحقيق الغاية التي يريدها، وقرأنا على سبيل المثال الدور الذي قامت به فاطمة الزهراء رضي الله عنها بنت الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تزيل عن أبيها ما ألقى أعداؤه عليه من أقذار، بدت عليها مظاهر البنوة في صورتها الإسلامية، والدور الذي قامت به كزوجة لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه والذي قامت به من قبل السيدة خديجة – رضي الله عنها – مع زوجها الرسول صلى الله عليه وسلم حيث دثرته وأذهبت الروع عنه، وقالت قولتها المشهورة: (تالله لن يخذلك الله أبدًا، إنك لتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الدهر)، ومن مفاخر السيدة خديجة أيضاً أنها كانت مثالاً للمرأة المكافحة التي تعمل في الميدان الاقتصادي كتاجرة بمالها، لا تغالي في الأسعار ولا تحتكر البضائع ولا ترضى إلا بالربح الحلال المشروع ﴿وأحل الله البيع وحرم الربا﴾ (سورة البقرة: الآية 275)، وقد ضربت المرأة المسلمة في عهود الإسلام الأولى أروع المثل كأم تربى أبناءها على مكارم الأخلاق وخلق الشيم وتدفع بهم إلى ميادين الجهاد والاستشهاد وتترفع بهم عن الدنايا ومحقرات الأمور، وبرزت آفاق العلم والثقافة حتى رأينا الشاعرة التي تنطق بالحكمة والخطيبة التي تسحر الألباب بجواهر لفظها وبلاغة قولها والفقيهة التي تفتى في أمور الدين بما تعلم، وكلنا نذكر خديجة وعائشة ونسيبة وأسماء والخنساء وغيرهن ممن رضي الله عنهن ورضين عنه.
إن في التاريخ لصفحات مشرفة متلألئة بما سطر فيها من فخر المرأة المسلمة في ميادين العلم والرأي والأدب والتوجيه والتربية، إن التاريخ لا ينسى مثلاً موقف الزوجة الأولى في الإسلام خديجة بنت خويلد حين جاء إليها زوجها محمد – صلوات الله وسلامه عليه – يرجف فؤاده وقد رأى الملك ليلة الرسالة، وهو يوحى إليه في غار حراء قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (سورة العلق الآيات: 1-5)، إنه ذهب بها إلى خديجة يرجف فؤاده وأخبرها خبر الملك الذي نزل عليه بها، وقال لها: «ما لي يا خديجة؟! ما لي؟! لقد خشيت على نفسي» فقالت له خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الدهر. فهذه سيدة من كرائم السيدات خبيرة مجربة عرفت أخبار محمد صلى الله عليه وسلم في حله وترحاله واختبرت أخلاقه في عسره ويسره ودرست نفسه، فانتهت إلى وصفه بهذه الصفات العالية التي يرجع أغلبها إلى خلق التضحية والإيثار والتخلص من الأنانية وشح النفس. عرفت فيه هذه الأخلاق فبشرته بالنجاح وأن الله تعالى لن يخزيه ولن يتركه، وبذلك ثبتت فؤاده ووقفت وراءه في أحرج أوقاته وآمنت به وآزرته طول حياتها بمالها ورأيها وعطفها وحنانها مما جعله يقول لزوجته عائشة حين ذكرتها: «آمنت بي حين كفرالناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستنى بمالها إذ حرمني الناس».
وهذه عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – تملأ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أنساً وبهجةً وتملأ حياة المسلمين علماً وروايةً وتشارك في الأحداث برأيها وجهادها وتضرب المثل الأعلى لنساء الدنيا فيما يمكن أن تقوم به المرأة في مجتمعها حين تفقه في الدين وتعلم العلم وتعرف حقوق الزوج والأهل والوطن والمجتمع، ولا عجب فهي بنت أبي بكر وخريجة البيت النبوي، فيه اكتمل نموها ونضجت شخصيتها وتلقت دراستها وانتفعت فيما يتلى فيه من آيات الله والحكمة وعاصرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبة منه قرب الزوجة الحبيبة إلى قلبه، الأثيرة عنده، فعرفت أهداف الإسلام وعاشت في أحداثه وظل ذلك طابع حياتها حتى لقيت ربها كأطهر ما يكون النساء وأكملهن عقلاً وأسبغهن فضلاً وهذه أختها أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين التي قامت في شبابها بدور الفدائية في أحلك ساعة من ساعات رسول الله صلى الله عليه وسلم وساعات أبيها رفيقه في الغار إذ كانت تحمل إليهما الطعام والشراب كل مساء متسللة تحت جنح الظلام حتى لا تراها عيون المشركين المتربصين بهما، والهول يومئذ شديد والخطر محدق، وقد علمت قريش بما كانت تفعل فأتى إليها نفر منهم بينهم أبوجهل بن هشام وسألوها في غلظة أين أبوك يا بنت أبي بكر فقالت: والله ما أدري أين أبي وكانت صادقة في هذا القسم إذ كان هذا السؤال لها من المشركين بعد أن غادر الصاحبان مكانهما في الغار وساروا متجهين على المدينة ويومئذ لطمها أبو جهل لطمةً قاسيةً على خدها طار من شدتها قرطها، وكان لها موقف آخر في كهولتها إذ كانت أماً لعبد الله بن الزبير فجاء إليها وقد أحاط به أعدؤه وعلم أنه مقتول لا محالة فاستشارها فيما يفعل فقالت له: إن كنت تعلم أنك على الحق فامضى في سبيلك غير مهاب ولا وجل فقال لها: يأماه والله ما أهاب الموت ولكني أخشى إذا مت أن يمثلوا بي وكان يريد أن يعرف بذلك مدى احتمالها وصبرها على الكارثة فقالت له: يا بني إن الشاة لا تتألم بعد الذبح بالسلخ وهكذا غطت بالعقل والإيثار والتضحية على عاطفة الأمومة من الشفقة والرحمة والجزع واللهفة فكانت خير مثل للمجاهدات الأبيات الواقفات في جانب الحق مهما كلفهن هذا الوقوف من مشاق وتضحيات، ويذكرنا هذا الموقف بموقف الخنساء الشاعرة المشهورة بقصائدها التي ترثى بها أخاها صخرًا فتقول في بعضها:
يذكرني طلوع الشمس صخرًا
وأذكــره بكل مغيب شمس
ولولا كثـــرة الباكين حـولي
على مـوتاهـم لقتلت نفسي
هذه المرأة كان لها أربعة بنين فلما تجهز جيش المسلمين لفتح فارس في السنة السادسة عشرة من الهجرة سارت هي وأبناؤها الأربعة وحضرت وقعة القادسية وأوصتهم من أول الليل قائلةً لهم: يا بنيّ إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين والله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم وقد تعلمون ما أعد الله من الثواب الجزيل للمجاهدين فيحرب الكافرين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستنصرين تظفروا بالمغنم والكرامة في دار المقامة.
فخرج بنوها قابلين لنصحها فقاتلوا حتى قتلوا جميعاً فلما بلغها الخبر قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته. فأي طراز من الأمهات هذا الطراز؟ وقد كان النساء في صدر الإسلام يغشين الحروب، ويحضرن الغزوات مع الرجال، وكان لهن أثر عظيم في إثارة الحماسة في النفوس وحث المحاربين على الإقدام.
وقد احتفظ التاريخ بأخبار الكثيرات منهن: كالزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية التي كانت تركب الجمل الأحمر وتقف بين الصفين في موقعة صفين التي كانت بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وتقول في مناصرة أمير المؤمنين علي:
أيها الناس: إن الحق كان يطلب ضالته فوجدها، فصبراً يا معاشر المهاجرين والأنصار على الغصص، وأقبلوا على الحرب قدماً غير ناكصين ولا متشاكسين. وقد أقدمها معاوية بعد أن ولى الخلافة، وقال لها يعاتبها ويلومها: يا زرقاء لقد شاركت علياً في كل دم سفكه، قالت له: أحسن الله بشارتك فمثلك من بشر بخير وسر جليسه. قال: أو يسرك ذلك. قالت: نعم. فضحك معاوية وقال: لوفائكم له بعد موته أعجب عندي من حبكم له في حياته، وهكذا لم تتنصل من حبها لعلي ونضالها عنه فدلت على ما تتحلى به من الشجاعة والوفاء. ودخلت عكرشة بنت الأطرش على معاوية بعد أن تولى الخلافة – وكانت من ألد أعدائه يوم كان علي حيا – فقالت له: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: الآن نعم، إذ لا علي حي! قال: ألست المتقلدة حمائل السيف وأنت واقفة بين الصفين بصفين تحرضين المحاربين علي، والله لقد كدت يومئذ لتفلين أهل الشام لولا قدر الله، فما الذي حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين يقول الله جل ذكره: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ (سورة المائدة: الآية 101)، وإن اللبيب إذا كره أمرًا لا يحب إعادته! قال: صدقت وسكت عنها.
ووفدت سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان، فاستأذنت عليه فأذن لها، فلما دخلت عليه سلمت، فقال لها: كيف أنت يا ابنة الأشتر؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال لها: أنت القائلة لأخيك:
شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة
يوم الطعان وملتقى الأقــران
وانصر علياً والحسين ورهطه
واقصد لهنـــد وابنها بهـوان
إن الإمام أخــا النبي محمـد
علم الهدى ومنـــارة الإيمان
فقد الجيوش وسر أمامه لوائه
قدما بأبيض صارم وسنان
وبالله أسألك يا أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته. قال: قد فعلت فقولي حاجتك. قالت: ياأمير المؤمنين أنت للناس سيد ولأمورهم مقلد. والله سائلك عما افترض عليك من حقنا. ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك ويبسط بسلطانك فيحصدنا حصاد السنبل ويدوسنا دياس البقر ويسومنا الخسيسة ويسألنا الجليلة. هذا ابن أرطاة قدم بلادي وقتل رجالي وأخذ مالي، ولو لطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإما لو عزلته فشكرناك وإما لا فعرفناك. فقال معاوية: إياي تهددين بقومك؟ والله لقد هممت أن أردك إليه على قتب أشرس فينفذ حكمه فيك. فسكتت ثم قالت:
صلى الإله على روح تضمنـــه
قبر فأصبح فيه العدل مدفـونا
قد حالف الحق لا يبغى به ثمنا
فصار بالحق والإيمان مقــروناً
قال: ومن ذلك؟ قالت: علي بن أبي طالب رحمه الله. قال: ما أرى عليك منه أثرًا. قالت: بلى أتيته يوماً في رجل ولاه صدقاتنا فكان بيننا وبينه ما بين الغث والسمين. فوجدتــه قائماً يصلي فانتقل عن الصلاة ثم قال برأفة وتعطف: ألك حاجة؟ فأخبرته خبر الرجل فبكى ثم رفع يديه إلى السماء فقال: اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ولا ترك حقك، ثم أخرج من جيبــه قطعة من جراب، فكتب فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّنْ رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوْا الْكَيلَ وَالْـمِيْزَانَ﴾ (سورة الأعراف: آية 85). ﴿وَلاَ تَبْخَسُوْا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِيْنَ * بَقِيَّتُ الله خَيْرُ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِيْنَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيْظ﴾ (سورة هود: الآيتان 85، 86) إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك حتى يأتي من يقبضه منك والسلام. فعزله يا أمير المؤمنين ما خزمه بخزام ولا ختمه بختام. فقال معاوية: اكتبوا إليها بالإنصاف لها والعدل عليها. فقالت: إلى خاصة أم لقومي عامة؟ قال: وما أنت وغيرك؟ قالت: هي والله إذن الفحشاء واللؤم؛ إن كان عدلاً شاملاً، وإلا يسعني ما يسع قومي. قال: هيهات، لمظكم ابن أبي طالب الجرأة، وغركم قوله:
فلو كنت بواباً على باب جنة
لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
وقوله:
ناديت همدان والأبواب مغلقة
ومثل همدان سنى فتحة الباب
كالهند واني لم تفلل مضاربــه
وجه جميل وقلب غير وجاب
اكتبوا لها بحاجتها.
ألا إن هذه المرأة ومثيلاتها لجديرات بقول المتنبي:
ولو كان النساء كمثل هـذى
لفضلت النساء على الرجال
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1434 هـ = نوفمبر ، ديسمبر 2012م – يناير 2013م ، العدد : 1-2 ، السنة : 37