دراسات إسلامية

بقلم: الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى 1297هـ /1880م

تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي (*)

السادس: أنَّ الله تعالى بذاته مطاع، وأما الأنبياء فهم – لأجل نبوتهم – مطاعون، وأما العلماء فهم – بوصفهم مبلغين علوم النبوة- مطاعون. فالله تعالى – مثلا- بمثابة الملِك، والأنبياء بمثابة وزرائه الذين لايتمتعون بالحكم الذاتي، وإنَّما حكمهم عطاء من الملك وعارية منه، سلَبَه متى شاء. وأما من تحت الوزراء من الحكام والموظفين فهم أحط منزلة منهم؛ لأنهم ينوبون عن الوزراء في الحكم.

       على كل فليس أحد بذاته مطاعًا وحاكمًا بعد الله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله (سورة يوسف، الآية: 40) نعم الفرق بين مطاعية الله تعالى وبين مطاعية الأنبياء هو أن مطاعية الأنبياء وإن كانت بالعرض، غير أنهم – لأجل القطع بنبوتهم والتيقن بها وعصمتهم – لا شك في مطاعيتهم ولا اضطراب، وإنما تحتاج مطاعيتهم إلى دليل. وأما العلماء والأولياء فأولا: لايعرف بشكل قاطع كونُهم علماءَ وخلقاء بنيابة الأنبياء. وثانيًا إن عرفنا بشكل قاطع كونهم علماء وخلقاء بنيابتهم فمن الممكن أن يصدر عنهم الفعل عن هوى أو نسيان أو خطأ. نعم إن هذا النوع من الاحتمالات ظنية. فكما أنه يُعرف بالأمارات كونُ الرجل شجاعًا أو جبانًا أوسخيًا أو بخيلاً أو صادقًا أو كاذبًا أو كريم الخلق أو سيئه أو صديقًا أو عدوًا أو صالحا أو فاسقًا أو مؤمنًا أوكافرًا، وهذه المعرفة ظنية، فكذلك لايخفى كون الرجل كامل العلم أو ناقصه أو مبتغي مرضات الله أو متبع هواه. وتحصل المعرفة في هذا الخصوص كما حصل في الأمور المذكورة، غيرأن أهل العلم لايسمون هذه المعرفة يقينًا في مصطلحهم وإنما يسمونها ظنًا، ويطبقون عليها أحكامه. وأقل ما يثبت به الوجوب هو الظن، ولايتصور الوجوب إلى مرتبة الشك، فإذا تجاوز الشك وحصلت مرتبة الظن ثبت الوجوب. ولأجل ذلك فإن قضى القاضي على المدعي بعد ما شهد له شاهدان من العدول كا ن آثمًا. على هذا فمعارضة خبر الواحد- إذا كان صحيحًا- يؤدي إلى الفسق.

       ولولم يُثبت الظن الوجوب لما كان لهذا الإثم والفسق معنى. وواضح أن القاضي بعد ما يسمع شهـادة عادلين، والرجل الذي يسمع خبر الواحد لا يحصل لهما اليقين المصطلح عليه في عرف العلماء، وإنمـا تحصـل لهمـا غلبـة الظن. فإن كان الظن يثبت الوجوب فإذا كان في مسألة من مسائل الدين قـولان مختلفان وتـرجـح أحـدهما بغلبـة الظن يثبت الوجـوب وفقًا لما قدَّمت من المبادئ التي تنبني عليها القواعد الشرعية ويدل عليها العقل. نعم إن الاختـلاف ممكن في الظنـون، فمن الممكن أن يترجح لدى أحد جانب الإيجاب ولدى آخر جانب السلب.

       على كل فالقول بأنَّه لا نسلم بقول أحد أو فعله دونما دليل ليس بصحيح وفقا لما قدمت من المبدأ. وكيف يصح هذا القول على الإطلاق؟ فإن لم يكن قول أحد أو فعله جديرًا بالتسليم فقول الرواة: هذا قول الله تعالى، وهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم  كيف يكون جديرًا بالتسليم والأخذ؟ فإن نأخذ قولهم صادرين عن حسن الظن بصدقهم وصحة قولهم فما ذنب العلماء والفقهاء، فلانُحسن بهم الظن؟ فلا بد أن نُحسن بهم الظن، وإن لم نعرف لقولهم دليلا؛ لأنَّ الفقهاء والعلماء الربانيين ليسوا أقلَّ شأنًا عن الرواة في استحقاق حسن الظن بهم.

       فللفقهاء في شأن الأقوال المستخرجة منصبان أحدهما: الاستخراج والاستنباط، وثانيهما: الرواية أي القول بأن لهذا الحكم مصدرًا. فإن سلمنا لهم المنصب الثاني فهذا يعني أنهم كذَّابون. فإن جازوصف أحد بالكذب – رغم آثار الصدق والأمانة – فمن يمنع وصف رواة الأحاديث بالكذب؟ فإن لم نسلِّم الفقهاء والعلماء الربَّانيين في شأن المصدر رواة لم يكن للدين حجة. نعم ومن المعترف به أن منصبهم الأول موضع تأمل، لذلك هو يحتمل خلافه مما ينشأ منه الظن ، لذلك يثبت وجوب الأحكام المستخرجة لفقهاء المسلمين بشكل أقل درجة من وجوب الأحكام المنصوصة. ويكون التفاوت بينهما كالتفاوت بين فرضية الصوم والصلاة.

       فالقول بأنا لا نسلِّم قول أحد لايصح،أما القول بأن إنكاره لايؤدي إلى الكفرفنعم. إن إنكار الخبر الواحد لايؤدي إلى الكفر أيضًا، وإنما يؤدي إلى الفسق، فكذلك ههنا إنكاره يؤدي إلى الفسق ولوقليلا.

       على هذا فالقول بأن تسليم قول غيره صلى الله عليه وسلم إشراك في النبوة لايصح مطلقًا، فمن كان يعتقد – بصرف النظر عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم – قول أحد وفعله واجب الاتباع بكل أشكاله – شأن متبعي تقاليد آبائهم بدل سنة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبالرغم من تيقنهم بسنته صلى الله عليه وسلم وعدم ثبوت تقاليدهم- كان هذا الاتباع إشراكاً في النبوة، إن كانوا يعتقدون عن آبائهم كما يعتقد متبعو النبي عن نبيهم كانوا مشركين بالمعنى الصحيح. فإن كانوا يتبعون التقاليد مخافةَ قالة الناس ويؤمنون بأنبيائهم كما ينبغي كانوا مؤمنين ولو إيمانًا ضعيفًا.

       على كلً فإن كان أحد يرى صاحب القول أوالفعل خليقًا بحسن الظن وموضع الظن الغالب في شأن كمال العلم والأمانـة، والأمارت تدل عليهما، كما تدل الأمارات على شجاعة الشجعان المشهورين وسخـاوة الأسخيـاء المعروفين، بالإضافة إلى دعواهم – بالتصريح أو الإيماء- بأن هذا القول أو الفعل حكم الله تعالى أو سنة رسوله. بينما لايتمتع هو بهذا المنصب حيث لايعرف في مسائل الدين الارتباط الذاتي بين الموضوع والمحمول، أي الموضوع علة وملزوم للمحمول، والمحمول للموضوع معلول أو لازم الذات أو العرض، أي أن كلا من الموضوع والمحمول علة ومعلول ولازم الذات والملزوم  للآخر، كان لازمًا عليه ذلك القول والفعل.

       بل إن كان يرى صاحب هذا القول والفعل أحق بغلبة الظن من الآخرين كان اتباع قوله وفعله أوجب عليه – حسب المبدأ الذي ذكرته- لأن المرأ محكوم بغلبة ظنه على الأقل.

       وهنا يجب أن يوضع في الاعتبارأن المرأ ربما يُعجب بنفسه قبل الحصول على هذا المنصب الخطير، فيرى نفسه أهلا له، كالأعمى يرى نفسه دليلا للآخرين. لاينال أحد هذا المنصب بمعرفة ترجمة الكتب العربية، فإن كان حافظ للقرآن والحديث عارفًا باللغة العربية  فذلك لايسمن ولايغني من جوع؛ لأن الأعمى – إذا حمل بيده شمعة- لايعود بصيرًا، وبائع الأدوية- بمجرد معرفة أسماء الأدوية- لا يصير طبيبًا.

       أما التفاوت الواقع بين العلماء والأنبياء فمسلَّم به، غير أن هذا التفاوت لايقدح في الوجوب الذي ذكرته. وإلا فالتفاوت الواقع بين الله وبين رسوله أكبرمما وقع بين الأنبياء وأممهم من التفاوت. فإن كان مجرد التفاوت يؤدي إلى عدم الثقة يكون للتفاوت تاثير بعيد المدى. فإن كانت النسبة  إلى الله- أي إن أقوال الرسول هي في الحقيقة أقوال الله تعالى ، لذلك يجب اتباعها- تعمل عملها، فهذه النسبة تعمل عملهاهنا أيضًا. نعم إن النسبة هناك يقينية وهنا – بسب إمكان الخطأ – ظنية، مما يثبت التفاوت في الوجوب. وهذا لايمت إلى الإشراك في النبوة بصلة.

       السابع: من المسلّم أن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الدين واجب، فإن كانت أحكام الدين عبارة عن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم فلا ندري لهذا التفريق معنى، هو أننا مجبرون على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الدين، وأما الشؤون الدنيوية فنحن أحرار فيها. نعم من الأقوال ما هو أمر وما هو مشورة، فإن كان الأمر للوجوب فالعمل به واجب، وأما مشورة  النبي صلى الله عليه وسلم أوغيره فلا وجوب في اتباعها، بل لم يأمرالله تعالى باتباع مشورة النبي صلى الله عليه وسلم أمرَ استحبابٍ.

       لاشك أنَّ الأفعال الاختيارية تترتب عليها ثمرتان، إحداهما: منافـع الدنيا ومضـارها، وثانيتهما: منافع الآخــرة ومضارها. فللمشورة سعة في بيان منافع الدنيا ومضارها. وأما اعتبار الأنبياء مشيرين في منـافـع الآخرة ومضارها أو كعامة الناس فهو يُعضِّـد مبنى الإشراك في النبوة. فإن كان أساس المشورة على الوحي، وأُمِرَالرسول صلى الله عليه وسلم بـ» وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ «(آل عمران، الآية:159) مما عادت الاستشارة سنة للأبد، فهذا يعني أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليس خاتم النبيين. فإن  كان مبنى المشورة على مجرد الرأي فهذا يعني أن الأنبياء يخرصون كعامة الناس.

       جملة القول أن الأنبياء يكونون مشيرين في منافع الدنيا ومضارها، فإشارتهم يحسن أن تُسمى عرض الرأي، لا الأمر.وهذا التفريق بدوره مستحسن.

       خلاصة ما قلته آنفًا هي أنَّ وضع طريق الفلاح في الآخـرة هووظيفـة الأنبيـاء، ووضع طريق الفلاح في الدنيا ليس وظيفتَهم. وقد يكون بعض طرق الفلاح في الدنيا معارضًا لطرق الفلاح في الآخــرة، وبعضها مـوافـقًا لها، وبعضها لايكون موافقًا ولا معارضا. فالطرق المعارضة مثل: السرقــة، واللصوصية، والغصب، والزنا منهي عنها للمعارضة. والطرق الموافقة مثل: الاستيجارعلى تلاوة القرآن، والدعوة والإرشاد منهي عنه، لأجل أن الموظف الحكومي يطالب أجرة على عمله الرسمي. وأما الطرق التي ليست موافقة ولا معارضة فنستطيع أن نعدَّها طرق الفلاح في الدنيا، ولابد أن نضع في الاعتبار في شأن هذه الطرق أن لا تكون معارضة لطرق الفلاح في الآخرة، ففساد البيوع والإجارات وبطلانها ينبني على هذا المبدأ.

       فإن تـدخَّل الأنبيـاء في وضـع طرق الفلاح في الدنيا أوفي أسباب رقيهـا وانحطاطها فهم يشـيرون صادرين عن النصـح، ولايطالب الله تعالى بقبـول مشـورتهم. ومـا قال الرسولصلى الله عليه وسلم للأنصار في مسألة تأبير النخل: أنتم أعلم بأمور دنياكم (صحيح مسلم رقم الحديث:6277 )  مبنـي على أنه لم يكن بارعًا في هذا المجال، ولا مبعوثًا من الله لهذا الغرض.

       على كل فأمر النبي صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع أو مستحبه في كل شأن من الشؤون. وأما مشورته فلا وجوب في اتباعها ولا استحباب. غير أنه مما يقتضي حسن الأدب أن تُقَدَّم مشورة النبي صلى الله عليه وسلم على مشورة غيره من المشيرين،لأمرين، أحدهما: أن عماد المشورة على كمال العقل لا على التجارب، فمن أكمل عقلاً من الأنبياء؟ وثانيهما: أن اتباع شخص في أي أمرٍ كان، يسبب رضا المتبوع، فرضا الأنبياء كيف لا يسبب اليمن والبركة والدعاء منهم ؟ ولهذا السبب الخارجي والطارئ تكون مشورة النبيصلى الله عليه وسلم مستحبًا ولو استحبابًا عرضيًا.

       الثامن: من يشك في يقينية الأحكام المنصوصة، وظنية الأحكام الاجتهادية؟ وإنما يشك في أيها منصوصة وأيها اجتهادية؟ وذلك أن كثيرًا من الناس يعُدُّون بعض الأمور منصوصًا عليها لقلة التأمل. فقد ظن موسى عليه السلام – بله الآخرين- أن الخضر- الذي قال الله تعالى عنه: آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (الكهف، الآية:65) كسر سفينة المساكين ظلمًا، وقتل نفسًا زكية دونما جريمة ارتكبها. وقد جاء ذلك في القرآن الكريم.

       فإذا سألتم أحدًا من الناس – بصرف النظر عن » أما السفينة …إلى نهاية الركوع- يقول: إن كون الخضر عليه السلام خارقًا للسفينة وقاتلا للنفس الزكية منصوص عليه. ففي كثير من الأحيان يُضيف الناس إلى  المعنى الحقيقي الموضوع أفكارًا جادت بها قرائحهم والتي أنست بها أذهانهم، ومعاني زائدة، ولايميزون بين ما جادت به آراءهم وبين أقوال النبي صلى الله عليه وسلم.

       هكذا يبدو معظم أبناء العصر بل كلهم، فكل واحد يدل كلامه على مبلغ علمه، غيرأن معظم العلماء في هذا العصر- إذا أنصفنا- ليسوا علماء، وإنما هم أنصاف العلماء الذين يحسبون أنفسهم علماء الشريعة، كالقرد الذي وقع في حوض مملوء بالمائع الأزرق حسب نفسه طاوسًا.

       الحق أن مراتب العلم ثلاثة، إحداها: معرفة اللغة العربية، وأشيرإلي هذه المرتبة في قوله تعالى: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ (آل عمران، الآية:164) وثانيتها: معرفة المجملات في الكلام ، وقد أشير إليها في قوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ( آل عمران، الآية:164) بيان هذا الإجمال أن المفهومات الكلية تحتمل تشخصات كثيرة، مثلا: الإنسان مفهوم كلي، والخصائص الزائدة لزيد وعمروبكرتشخصات له. فإن جاء مفهوم كلي في القرآن، ولم يصرح بتشخصاته، فإن كان أحد يعرف – بما أوتي من الذكاء والفهم- هذه التشخصات بسياقه وسباقه ولواحقه وتوابعه فهو معلم الكتاب.

       فمثلا: لفظة »ظلم« في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم (الأنعام، الآية: 82) لها مفهوم كلي يعم الصغيرة والكبيرة والشرك والبدعة، وأما الشرك فليس مصرحًا به في الآية، غيرأن لفظة »لبس« يشير إليه بواسطة قوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ( لقمان، الآية: 13).  

       كذلك قراءة »أرجل« بالكسر في آية الوضوء تثبت المسح عليها إذا عطف على الرأس، ولم يذكرغسل الأرجل، غيرأن »الغسل« كذلك من أفراد المسح، لأن المسح عبارة عن إمرار اليد على شيء سواء كانت مبتلةً أوجافة أوللغسل، أو بالرطوبة القائمة باليد، فالمسح مفهوم كلي له أفراد كثيرة وتخصصات متعددة لم يصرح بواحد منها، وإنما المصرح هو المفهوم الكلي فحسب. نعم إذا رأينا »إلى الكعبين«توصلنا بعد إمعان إلى الغسل.

       وإذا تأملنا»الرأس« وباء الاستعانة ثبت لنا المسح على ربع الرأس، وذلك إذا جعلنا الرأس كرة حقيقية والماء سطحًا مستويًا أوكرة حقيقية ثبت المسح على شعرة أو شعرتين. على كل ففهم المعاصي كلها منصوصًا عليها بلفظة»الظلم« وبلفظة »الرأس« الرأس بأسره تعسف وتكلف، لا غير.

       والمرتبة الثالثة : هي ما أشير إليه بلفظة »الحكمة« في قوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ( آل عمران، الآية:164) وذلك أن لكل حكم علة ولكل وصف موصوفًا حقيقيًا، فالعلة الحقيقية للمطاعية هي الكمال والجمال ومالكية النفع والضرروالموصوف الحقيقي والمحكوم عليه الحقيقي، وهو له معلول حقيقي ووصف حقيقي ومحكوم به حقيقي، فالنسبة بينهما حقيقية.

       كذلك موصوف عارض فوصف »الرسالة« أو»الخلافة« أو »أولوالأمرية« للمطاعية موصوف عارض وعلة عارضة ومحكوم عليه عارض، والنسبة بينهما عارضة ومجازية.

       أو خذ مثالا آخر هو أن علة عدم توريث الأنبياء وحرمة نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وسلم هي حياته الجسدية التي انقطع حسها وحركتها لتواريها بالموت العارض، كالقنديل الذي وضع في الإناء الفخاري لايفيض نوره فيما حوله.لا كحياتنا الجسدية- التي كان للروح سلطان عليها- تزول بالموت زوالَ الظل بالشمس.

       وما يدل» السلام عليكم يا أهل القبور« (المعجم الكبير، رقم الحديث: 1083).من علاقة الجسد بالروح، ممايوهم حياته، مَثله كمثل وصول الخبر عن طريق السلك البرقي من مدينة مومبائي، أو كالكوتا، أو لندن إلى ميروت أو بنارس.أو علاقة الجسد بالروح كعلاقة المنفي بوطنه، فهذه العلاقة تسبب للروح الاطلاع على بعض أحوال جسدها، كاطلاع المفارق وطنه والضارب في أقطار الأرض على أوضاع وطنه. غيرأن هذه العلاقة لاتثبت للروح التصرف في جسدها، فيتوهم حياته.وليس كروح الشهيد التي فارقت جسده وتقمصت جسدًا آخر، مما يقال: لما انقطعت علاقة الروح بالجسد الأول انقطعت علاقة هذا الجسد بأزواجه وأمواله، فلايمنع التوريث والنكاح. وما إلى ذلك من أمثلة كثيرة.

       جملة القول أن معرفة الموصوف الحقيقي من الموصوف المجازي والعلة الحقيقية من العلة المجازية هي »الحكمة« التي أشيرإليها في قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا(البقرة، الآية:269) فمن بلغ مرتبة الحكمة فهو مسموح بالاجتهاد إذا كان واسع الاطلاع على الكتاب والسنة، وعرف الناسخ والمنسوخ والقوي والضعيف. وأما من بلغ مرتبة »تعليم الكتاب«فهو غير مسموح بالاجتهاد واستنباط الأحكام غيرالمنصوصة، وإنما هو مسموح بالتامل في الأحكام المنصوص عليها ومعاني القرآن لا غير.

       أما بعد فإن أخطأ حكيم الأمة وعالم الكتاب كان كجواد صحيح الجسم قوي الأعضاء سريع السيرإذا كبا، ولايقاس هو على فرس ضعيف أعرج، فلا يتوقف عن ركوبه.

       كذلك حكيم الأمة وعالم الكتاب لايمنع من الاجتهاد وطرح الرأي إذا أخطأ صادرًا عن ضعفه البشري، فخطأه ليس كخطأ عامة الناس.

       وأما المرتبة التي تعرف من» يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ «هي -فيما يبدو- مرتبة العلم أيضًا، غيرأنها ليست مرتبة العلماء الربانيين، فيتوقف أصحابها عن التقليد، وإلا لم يكن لجملة » وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ « معنى، وأما من حفظ العلوم فله أن يتوقف عن التقليد. على كل فأصحاب المرتبة الأولى لايسعهم إلا أن يقلدوا، ولايجوز لهم أن يتزعموا ويجعلوا الناس يقلدونهم، فيَضلون ويُضلون غيرهم. فأصحاب الفرق الضالة كلهم كانوا يتمتعون بهذه المرتبة والذين بلغت بهم الهمة والجراءة إلى أن استخدموا الناس وفق آرائهم.

*   *   *


(*)        أستاذ الأدب العربي بالجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند، الهند.

                Email- sajidqasmideoband@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، محرم – صفر 1434 هـ = نوفمبر ، ديسمبر 2012م – يناير 2013م ، العدد : 1-2 ، السنة : 37

Related Posts