الفكر الإسلامي
بقلم : د. سلمان بن فهد العودة
حللت أهلاً أيها الشهر الكريم ، فغمرت قلوب المؤمنين فرحةٌ عظيمة بقدومك: ذلك أن المؤمنين الطائفين المحسنين يسرون بقدوم رمضان، ويتباشرون ويتبادلون التهاني بحلوله؛ لأنه شهر يربون فيه أنفسهم على الصبر عن الشهوات، ويتذكرون الانتصارات، فشهر رمضان شهر النصر لأمة الإسلام، ويفرح به؛ لأنه يجدد فيهم الأمل، في عودة المسلم لربه، وعودة الملة لسالف أمجادها، ولعلمهم ما أعده الله فيه من الثواب الجزيل والعطاء العظيم ومضاعفة الحسنات، وتكفير الخطايا والسيئات، ويفرح المؤمنون برمضان لصلاة التراويح، وبقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، ويفرح المؤمنون برمضان لقيام ليلة القدر، وبقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَه مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه)، ويفرحَ المؤمنون برمَضان؛ للعلم، وتلاوة القرآن، والذكر، والتفكر، والتأمل ومضاعفة الأجر والصدقة، والروحانيات التي ينبعث أريجها في كل مكان؛ وانشراح الصدر، والطمانينة، والخير، والفضل ﴿قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحَمَتِهِ فبِذَلك فَلْيَفْرَحُوْا﴾.
وعلى حين يفرح المؤمنون برمضان، وتنشرح نفوسهم، وتسمو أرواحهم ينقبض منه آخرون، ويعتبرونه سجناً، تستوحش منه أجسادهم، وتنفر منه أرواحهم؛ إذ لا يعدو رمضان عندهم أن يكون حرماناً من حظوظ النفس، وشهوات الجسد؛ فهم يستثقلون الشهر ويستعظمون مشقته؛ فإذا نزل بهم عدّوه كالضيف الثقيل، يعدون ساعاته وأيامه ولياليه، منتظرين رحيله بفارغ الصبر؛ ذلك أنهم اعتادوا التوسع في الملذات والشهوات، فضلاً عن مفارقتهم للذات المحرمة؛ فرمضان حبسهم عن شهواتهم، وحال بينهم وبين ملاذهم؛ فاستثقلوه، وأيضاً إنهم قوم عظم تقصيرهم في الطاعات، حتى أن منهم من قد يفرط في الفرائض والواجبات، كالصلاة مثلاً؛ فإذا جاء الشهر التزموا بعض الطاعات، وشهدوا الجمع والجماعات، و واظبوا على الصلاة كل يوم؛ فثقل عليهم حمل الشهر؛ فتبرموا منه.
يجلس المرء منا ساعات طويلة في سمر وسهر حتى الفجر، ثم في نوم عميق متصل حتى الظهر، فإذا قام إلى الصلاة حضرت الأشغال، واشتدت الأعصاب، وتذكر المواعيد، وغنت الهموم فوق رأسه حتى يصلي عجلاً، ولا يكاد يفقه كم صلى؟!
التهنئة بدخول رمضان
التهاني من العادات والأصل فيها الإباحة؛ سواء في ذلك رمضان أو العيد أو عند تجدد نعمة أو دفع نقمة، وهذا المسائل وما أشبهها مبنية على أصل عظيم نافع، وهو أن الأصل في جميع العادات القولية والفعلية الإباحة والجواز؛ فلا يحرم منها ولا يكره إلا ما نهى عنه الشارع، أو تضمن مفسدة شرعية، وهذا الأصل الكبير قد دل عليه الكتاب والسنة في مواضع، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
والعادات والمباحات قد يقترن بها من المصالح والمنافع ما يلحقها بالأمور المحبوبة لله، بحسب ما ينتج عنها وما تثمره، كما أنه قد يقترن ببعض العادات من المفاسد والمضار ما يلحقها بالأمور الممنوعة، وأمثلة هذه القاعدة كثيرة جدًا.
وفي قصة الثلاثة الذين خلفوا، وتهنئة الصحابة لهم بالتوبة، وتبشير النبي – صلى الله عليه وسلم – دليل على استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية، والقيام إليه إذا أقبل، ومصافحته؛ فهذه سنة مستحبة، وهو جائز لمن تجددت له نعمة دنيوية، وأن الأولى أن يقال له: ليهنك ما أعطاك الله، وما منّ الله به عليك، ونحو هذا الكلام، فإن فيه تولية النعمة ربها، والدعاء لمن نالها بالتهني بها.
والجمهور من الفقهاء على أن التهنئة بالعيد لا بأس بها، وهو أشهر الروايات عن الإمام أحمد، وذهب بعضهم إلى مشروعيتها، قال حرب: سئل أحمد عن قول الناس في العيدين تقبل الله منا ومنكم. قال: لا بأس به، يرويه أهل الشام عن أبي أمامة: قيل: و واثلة بن الأسقع؟ قال: نعم. قيل: فلا تكره أن يقال هذا يوم العيد. قال: لا. وذكر ابن عقيل في تهنئة العيد أحاديث منها: أن محمد بن زياد، قال: كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك.
ولاشك أن رمضان وقدومه من أفضل النعم.
الاستعداد لرمضان
كل المسلمين يستعدون لرمضان؛ فمنهم من يستعد لرمضان بإخلاص القلب، وتصحيح النية، والإقبال على العبادة، وتجريد القصد لله – تعالى – والعزم على التوبة، وهذه أعظم المنازل وأرقاها وأوفاها.
ومن الناس من يستعد لرمضان بألوان الأطعمة والأشربة والمأكولات، كما يفعله كثير من الناس، والقدر المعتدل من هذا حسن؛ فإن التوسعة على النفس والأهل خلق الكرام، وإنما يفرح بالمال لهذا، وللإحسان والكرم والجود.
ومنهم من يستعد لرمضان ببرنامج خاص؛ كما يفعل الإعلاميون، يحتوي على المواد المتنوعة التي يخاطب بها الناس ويوجهون توجيهاً معيناً، وإذا كان يقدم للناس في غير رمضان المسرحية المنحرفة، والتي يمثلها فلان وفلان، وتدرب على المعاني الرديئة، فإنه في رمضان قد يقدم لهم المسرحيات التي يظهر فيها ذلك الممثل نفسه يؤدي دور خالد بن الوليد، أو صلاح الدين الأيوبي أو غيرهما من أبطال الإسلام وعظماء التاريخ؛ حتى يظن الناس أن أولئك كانوا كهؤلاء، ويلتبس الأمر عليهم، وتتحول الحقيقة إلى خيال، ويتحول الجد إلى هزل.
فضلاً عن أن بعض القنوات تسير عكس الاتجاه، وتحاول انتهاك قدسية الشهر وحرمته بعرض الأجساد العارية، وانتخاب الوجوه الحسنة، ولعمر الله لقد صفدت الشياطين ومردة الجن فمن يكون هؤلاء؟!
ومن الناس من يستعد لرمضان باللهو واللعب كما نجده في كثير من البلاد في ألوان المباريات الكروية والدورات الرياضية، وإذا سهر الإنسان الليل كله يشاهد الكرة فماذا تراه سيصنع في نهاره؟ هل سيدرس؟ هل سيتعلم؟ هل سيقرأ القرآن؟ هل سيتعبد لله – تعالى -؟ هل سيؤدي الصلوات الخمس مع المسلمين؟
والرياضة المتوازنة التي بها حفظ البدن، والاستعداد لمواجهة صروف الحياة مطلب، وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول: عَلِّمُوا أبناءكم السباحة والرماية وركوب الخيل.
لكن المذموم شيئان: الإسراف والمبالغة وإضاعة الأوقات. و وضع الشيء في غير موضعه.
ومن الشباب من يستغلون ليالي رمضان في تنظيم دوريات خاصة بهم في عدد من الأحياء والأماكن والملاعب تستغرق جل الليل، مصحوبة باللغو التشاتم والعصبية والغضب. وربما كان أجمل ما ذكرهم برمضان ويربطهم به هو تلك الأنوار الكاشفة، والملاعب الليلية، والدوريات وما اشبهها.
وجدير بشباب الإسلام أن يدرك حجم التحديات التي تواجهها أمته، وأن يعد نفسه للمهمات الصعبة، ويتزود بالخبرات والملكات، وألا يقبل ضياع العمر والوقت والجهد من غير طائل.
نعم! قوة البدن من مقاصد الشريعة، والترفيه المنضبط لا تثريب فيه، بيد أن لكل شيء حدودًا، ولكل وقت وظيفة مناسبة.
إنه جدير بالمسلم أن يحقق معنى الصيام، ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْن﴾ فإذا لم يدع الإنسان قول الزور والعمل به، وشهادة الزور، واللغو والرفث، فأي سبب يدعوه إلى الصيام إذن؟!
إن الله – تعالى – ليس بحاجة إلى أن يدع لهذا الإنسان طعامه وشرابه، وليس بحاجة لأن يدع أحد طعامه وشرابه، سواء ترك الزور أم لم يتركه؛ فعُلِم بهذا أن الصوم لله في نيته وقصده وأجره؛ ولكنه للعبد خالصاً في ثمرته وعائدته وفائدته.
كان الحسن يقول: عجبت لأقوام أمروا بالزاد، ونودي فيهم بالرحيل، وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون.
وقال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة؛ فاستكثروا منها في أوان كسادها؛ فإنه لو جاء وقت نفاقها لم تصلوا فيها إلى قليل ولا كثير.
وكان أبو بكر بن عياش يقول: لو سقط من أحدهم، درهم لظل يومه يقول: إنا لله ذهب درهمي، وهو يذهب عمره، ولا يقول: ذهب عمري، وقد كان لله أقوام يبادرون الأوقات، ويحفظون الساعات، ويلازمونها بالطاعات.
هي فرصة؛ فقد لا تدرك رمضان غير هذا.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1433هـ = يوليو – سبتمبر 2012م ، العدد : 9-10 ، السنة : 36