إشراقة
من حين لآخر تُتَاح لي فرصةُ زيارةٍ لدور التعليم الأهلية، المعروفة بـ«المدارس» في ديارنا الواسعة المُمْتَدَّة على كلٍّ من الهند وباكستان وبنغلاديش ونيبال، المعروفة بـ«القارة الهندية». وربّما نرى فيها ما يَسُرُّنا كثيراً، من الاهتمام بالنظافة في الطرق والفصول الدراسية والغرف السكنية والمسجد، والمكاتب الإدارية، والثياب والملابس على جسوم الطلاب الصغار والكبار، والتركيز المطلوب على تبادل السلام والمصافحة واستخبار الأحوال، واحترام الكبار، وإكرام العلماء، وتوقير المشايخ.
وكلُّ ذلك شيءٌ جيِّد وجديرٌ بالإشادة والتقدير، والذكر والتسجيل؛ لأنه عنصرٌ ضروريٌّ لدارِ تعليمٍ دينيةٍ ومدرسةٍ إسلاميّةٍ؛ لأنها مطلوبة في الشريعة ومقصودة في الدين، ولازمةٌ للتربيةِ المثمرةِ، وتخريجِ المتعلمين على الأخلاق الإسلامية؛ لكي يُصبحوا علماء في معنى الكلمة، ودعاة إلى الدين، بسلوكهم لابقولهم وحده؛ لأن الدعوة بالسلوك أقوى وأفعل في القلوب من الدعوة بالقول المُجَرَّد.
لكن الاكتفاءَ بذلك وحده أو التركيز عليه أكثر من التركيز على العناصر الأخرى لايعطي من النتائج ما هو المرجوّ، من الاهتمام بالمعلمين والموظفين الآخرين، وتغطية حاجاتهم الضرورية، وعلى رأسها منحهم رواتبَ لائقةً، وتوفير مبانٍ سكنيّة لهم، وتشجيع المُؤَهَّلِين منهم عن طرق متعددة، من بينها استصدار قرارات تقدير من قبل مجالس شورى المدارس أو مجالس الإدارة لديها، وصرف جوائز نقدية لائقة لهم من وقت لوقت، وإتاحه فرص الحج والعمرة لهم من سنة لأخرى من قبل المدرسة، وتَحَسُّس حاجات كثيرة تعترض سُبُلَ حياتهم وتجعلهم يفقدون الهدوءَ والطمأنينةَ وروحَ الانقطاع إلى الدراسة والتدريس؛ حيث إنّ الحاجات تُلحُّ عليهم أن يُوَفُّوها دونما تأجيل، وهم لايجدون إلى ذلك سبيلاً؛ فذلك يُشَوِّش عليهم هدوءَ البال، ولا يقدرون على التفرغ النفسيّ والعمليّ لوظيفتهم؛ فلا يتمكنون من أدائها على ما ينبغي، فيُشَكِّل ذلك شوكةً في قلوبهم إذا كانوا من الشاعرين بالمسؤولية.
وكذلك التقصيرُ في شأن قضايا الإسكان والإعاشة والإطعام، يشكّل عائقًا كبيرًا دون النتائج المُتَوَخَّاة من المدارس هذه التي تهدف أصلاً إلى تخريج جنود أوفياء للإسلام؛ ففي الأغلب وجدتُ حتى المدارس التي
تهتم بالمباني وتشييدها شَامِخَةً وزَخْرَفَتِها لا تصنع شيئاً في شأن العناية بالطلاب والمدرسين والموظفين، وإنما تهتم فقط بالظاهر، لكي تجذب الأنظار وتتأثر منها عيون الزوار والمارّة، وتُحْدِث في قلوبهم انطباعاً بأن القائمين عليها يتمتّعون بالشعور بالجمال وطبيعة الهندسة المعمارية الفريدة؛ فلابد أنهم يتمتعون بأهلية تربية الطلاب وتخريجهم مؤهلين لنشر الدين والدعوة؛ ولكن غرفها من الداخل تكون في الأغلب ضيقة، أو تكون كبيرة، ولكن يوضع فيها من الطلاّب عددٌ أكثر من السعة، ثم هي لاتكون مُزَوَّدة بالتسهيلات اللازمة، فالنور الكهربائي يكون خافتاً، والمراوح لاوجودَ لها في غرف الطلاب، ونظامُ التنظيف يكون غير لائق، والوجباتُ الغذائية تكون محدودةً للغاية أو تكون فاسدة أو ذات نوعيّة غير لائقة لاتُزَوِّد الطلاب بالقوة والانتعاش، ولا تُنَمِّي فيهم الطموحَ وبُعْدَ الهمّة، ومناخُ المحيط المدرسيّ في الأغلب لايُحْدِث في طلاب المدارس علوًّا فكريًّا، وسموًّا خلقيًّا، ولايثير في أذهانهم عاطفةَ مُغَالَبَة طلاب المدارس العصريّة والجامعات الرسميّة والكليات الإنجليزيّة؛ بل يثير فيهم الانبهارَ بهم والاعجابَ بحياتهم التعليمية، ويُؤَدِّي بالمجموع بهم إلى الشعور بالدونية ومُرَكَّب النقص.
والسببُ في ذلك يرجع إلى أمرين أساسيين: الأوّل أن المُنَاخَ الحياتيّ الذي يُعَاشُه الطّلابُ يكون بالمجموع مُثَبِّطاً للهمة، متخلفاً بهم فكريًّا ونفسيًّا؛ لأنهم لايجدون في مدارسهم في الأغلب ما يصوغ حياتَهم في قالب علوالهمة وسموالفكر والانطلاق إلى غاية سامية. الثاني أن الأساتذة والمدرسين يفقدون أيضاً جميعَ المُؤَهِّلاَت التي تعين على تخريج الطلاب على علو الهمة والتفاني في سبيل الهدف والغاية؛ لأنهم يعيشون بدورهم حياةَ الفقر والكفاف والتقشف والبساطة الزائدة غير المقصودة والهمـة القليلة والإرادة الضعيفـة؛ لأن إدارة المدارس لاتمنحهم من المكافآت المالية إلا القدرَ الذي يُبْقِي بصعوبة على حياتهم وحياة عائلاتهم، وهم يعيشون حياتَهم مهمومين بالمشاكل والمصاعب.
المدارسُ التي مواردُها قليلة، وهي تعاني جدًّا قلةَ الإمكانيّات، وتواجه معاناةً كبيرةً في تسيير نفسها وإدارتها، معذورةٌ في كل ما تصنع مع مُدَرِّسِيها ومُوَظَّفِيها وطلاّبها؛ ولكن المدارس التي لديها إمكانياتٌ مُوَفَّرَة وتمويلُها واسعٌ ومواردُها المالية مضمونةٌ ومُؤَمَّنة، ورغمَ ذلك تسير سيرةً سيئةً مع طلابها الذين يقصدونها لكي يتخرّجوا مُؤَهَّلِين للقيام بمهمة الدعوة والإصلاح، وقيادة الأمة، وتوجيه المسلمين، ولكي يكونوا قدوة تُحْتَذَىٰ وتُقْتَدىٰ، في كل من القول والفعل، والسيرة والسلوك. إن هذه المدارس تضيع حياةَ كثير من العلماء المُؤَهَّلِين الذين يشتغلون لديها مدرسين وأساتذة، والموظفين الذين يعملون لديها في كثير من المجالات، بإعطائهم رواتبَ ضئيلةً لاتسمن ولا تغني من جوع؛ ولكنها تنفق أموالاً طائلة على إنشاء المباني، ورصف شوارعها الداخلية، وتلميع مظهرها من كلّ الوجوه، وتجميل واجهتها الظاهرة، حتى يُحْدِث ذلك كلُّه انطباعاً جميلاً غيرَ عاديّ لدى كل من يزورها من العلماء والمثقفين، والقادة والمفكرين، والأثرياء وذوي الوجاهة الاجتماعية ورجال الأعمال والمال، حتى يبادروا إلى تقديم دعم مالي كبير لها، أو يشفعوا لتمويلها ويشيروا على الأثرياء ورجال الأعمال بتدعيمها المادّي، وحتى يخرجوا منها بانطباعات تجعلهم يقولون: إنها أفضل المدارس في تربية النشء وتخريج الرجال وإنتاج الدعاة والعلماء الأكفاء.. إن هذه المدارس ترتكب ذنوباً لا تُغْتَفَر، ويجب على المعنيين من القادة وأولي الأمر محاسبتُها فمؤاخذتها، والإعلانُ عنها بأنها لاتصنع ما يجعلها تستحقّ هذا الدعمَ الماليّ الكبير، والتعاونَ المعنويَّ اللامحدود.
إني شخصيًّا أودّ أن تهتمّ المدارس بشأن طلابها ومدرسيها وموظفيها أولاً وقبل كل شيء، ولا تُعْنَىٰ بالمظهر وإشادة المباني إلاّ للقدر الذي تقتضيه الحاجةُ الواقعيّة، لا الحاجةُ الخيالية المصطنعة؛ لأن هذا النوع من «الحاجة» لاحدَّ لها ولا نهاية. إن الطلاب والمدرسين أولاً والموظفين ثانياً هم العمود الفقري في أي دارِ علمٍ ومؤسسة تعليمية؛ فلابدّ من إيلائهم الأولويّةَ المستحقةَ.
العملُ على تحسين الحالة التعليميّة والحالة الإسكانيّة والحالة الإعاشيّة وإيجاد الكفالة المطلوبة للحياة الكريمة لكل من الطلاب والمدرسين والموظفين هو العمدة التي تتوقف عليها مسيرة المدارس إلى جهةٍ صحيحة تضمن تحقيقَ الهدف الذي من أجله وُضِعَ أساسُها. ربما زُرتُ المدارس فوجدتُ فيها كلّ شيء يدعو للثناء والتحبيذ، فلما أدركتُ حالةَ الطلاب واطلعتُ على الوضع المأساوي الذي يعيشه المدرسون والموظفون فيها، فحَزِنتُ كثيرًا؛ حيثُ قرأتُ عدمَ الارتياح في وجوه الطلاب، وتداعياتِ الإسكان والإعاشة غير اللائقة باديةً على كيانهم، وحصيلاتِ الحوائج الفاغرة فاها بارزةً على أشخاص كل من المدرسين والموظفين؛ فقلتُ: إنها جريمة شنيعة ترتكبها هذه المدارس؛ لأنها تُعْنَىٰ بالمظهر، وتُقَصِّر فيما يتعلق بالمخبر.
لو حَصَلَ أن رُكِّزَتِ العنايةُ على تحسين هذا الجانب من المدارس، لاستقامت سيرتُها، وصَحَّت مسيرتُها، وجرى قطارُها على الخطّ المطلوب، وأتت بحاصل مرجوّ كبير، وحقَّقت الغاية التي تهدف إليها، واستفادت الأمّةُ منها على المستوى الذي ترجوه منها؛ ولكن المؤشرات كلّها تقول: إن الوضع الحالي ربّما لايتغير لأجل بعيد؛ لأن القائمين عليها يجب أولاً تغييرُ نفسيتهم التي تعقَّدت لكونهم نِتَاحُ بيئةٍ ضيّقة الأفق؛ شحيحة النفس، تهتم بمصالح رخيصة شخصية وتزهد في مصالح سامية عامّه تهم الأمةَ.
أبو أسامة نور
(تحريرًا في الساعة 9 من صباح يوم الأربعاء: 25/جمادى الأولى 1433هـ = 18/أبريل 2012م)
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1433 هـ = يونيو 2012م ، العدد : 7 ، السنة : 36