الفكر الإسلامي
بقلم: نور عالم خليل الأميني ، رئيس تحرير المجلة
يعني مصطلح «المشاجرة» لغة اشتباك الأشجار أو اشتباك فروع الشجرة وأغصانها وتداخل بعضها في بعض وتصادم بعضها مع بعض؛ ومن هنا أُطْلِقَ على الخصام والنزاع؛ لأن أهله يشتبكون فيما بينهم، وأطلق العلماء على الخلاف الذي حدث بين الصحابة رضي الله عنهم، والذي امتد إلى المعارك السافرة بينهم «المشاجرة» ولم يطلقوا عليه «النزاع» و«الخصام» تأدباً واحتراماً لشأنهم ومكانهم؛(1) لأن اشتباك فروع الشجرة لايشينها، وإنما يزينها.
الاعتراض على الصحابة بما شجر بينهم:
قد يقول قائل:
1 – إذا كان الصحابة كلهم أتقياء عدولاً ثقات زاهدين في الدنيا راغبين في الآخرة، مؤثرين رضا الله على كل غال ورخيص، مبتغين وجهه في كل حال، فلماذا اختلفوا فيما بينهم هذا الاختلاف الهائل الذي أدى بهم إلى حروب طاحنة ومعارك دامية أودت بحياة عدد من خيار الصحابة، وأطاحت بآلاف من السواعد الإسلامية المفتولة التي لو استخدمت في الحروب الخارجية والفتوح الإسلامية ونشر الدعوة المحمدية لأتت بحاصل كبير، وشغلت المسلمين ومنعت سيوفهم عن تحقيق هذه المهمة العظيمة الجليلة عبر خمس سنوات، كان يستطيع المسلمون أن يسجلوا – كما يقول العلامة محب الدين الخطيب(2) – فيها أمجادً لايستطيع غيرهم مثلَها في خمسة قرون.
2 – وإذا اختلفوا وتوزعوا بين خصمين، فلابد أن يكون أحدهما مخطئاً والآخر مصيباً.
3 – فلو صوبنا المصيب واعتقدنا كونه على الحق، وخَطَّأنا المخطئ واعتقدنا مجانبته للحق، لكان ذلك احتراماً للأول وانتقاصاً للثاني. والواجب أن نحترمهما جميعاً ولا نسيء الأدب مع أحد منهما؛ لن كليهما من الصحابة.
4 – وإذا كان أحد الفريقين مصيباً والآخر مخطئاً، ينبغي أن نعلن صواب الأول وخطأ الثاني، وينبغي أن لايكون ذلك سوءَ أدب في حق الثاني؛ لأن تصويب المصيب والإشادة بفضله والثناء عليه، وتخطئة المخطئ والإفصاح عن زيغه عن الطريق وحياده عن الحق، مما تقتضيه حرية الرأي والتفكير والطبيعة البشرية، ولا تمنع منه الأخلاق والقانون الذي وضعناه نحن البشر.
5 – وينبغي أن يكون المصيب عدلاً، ويفقد المخطئ عدالته.
الرد على المسألة الأولى:
وللرد على المسألة الأولى نقول: إن الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم مما تنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن سعيد بن المسيب رحمه الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سألت ربي عن اختلاف أصحابي من بعدي. فأوحى إليّ: يا محمد! إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء، بعضها أقوى من بعض، ولكل نور، فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم، فهو عندي على هدى، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصحابي كالنجوم؛ فبأيهم اقتديتم اهتديتم»(3).
وعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم اختلاف أصحابه رحمةً لنا نحن الأجيال المتلاحقة من أمة الإسلام؛ فعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به، لا عذر لأحدكم في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة ماضية مني، فإن لم يكن سنة مني ماضية فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيها أخذتم به اهتديتم، اختلاف أصحابي لكم رحمة»(4).
وإن هذا الاختلاف الذي أدى إلى المعارك كان ناشئاً عن الاجتهاد الذي يؤجر فيه المصيب عشرة والمخطئ أجرًا واحداً. وكانوا صادرين فيه عن ابتغاء وجه الله وثوابـه. يقول القاضي أبوبكر العربي، وهو يتحدث عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم: «فهذه كلها أمورجرت على رسم النزاع ولم تخرج عن طريق من طرق الفقه، ولا عدت سبيل الاجتهاد الذي يؤجر فيه المصيب عشرة والمخطئ أجرًا واحدًا»(5).
ويقول القرطبي في تفسيره: «كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل»(6).
ويقول ابن الهمام: وما جرى بين علي ومعاوية – رضي الله عنهما – كان مبنياً على الاجتهاد»(7).
ويقول السفاريني في شرح الدرة المضيئة: «فإنه أي التخاصم والنزاع والتقاتل والدفاع الذي جرى بينهم كان عن اجتهاد قد صدر من كل واحد من رؤوس الفريقين ومقصد سائغ لكل فرقة من الطائفتين(8).
على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تنبأ بهذا الاختلاف هو الآخر، إذ قال في الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»(9).
فأشار النبي صلى الله عليه وسلم أنه تكون هناك فئتان ناشئتان عن الاختلاف وأن الله يصلح بالحسن بن علي رضي الله عنهما بينهما.. وقد كان ذلك، وتم هذا الإصلاح، والحديث من دلائل النبوة.
الرد على المسألتين الثانية والثالثة:
والرد على المسألتين الثانية والثالثة: نعم كان أحدهما مصيباً والآخر مخطئاً، كما هو رأي معظم العلماء، وهناك من العلماء من يرى أنهما كانا مصيبين مجتهدين، وقد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية الكلام في هذا الموضوع، ونسوق فيما يلي مقتطفاً منه يشبع ويشفي:
«ولم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداءً، بل كان من أشد الناس حرصاً على أن لايكون قتال، وكان غيره أحرص على القتال منه. وقتال «صفين» للناس فيه أقوال: فمنهم من يقول: كلاهما كان مجتهداً مصيباً، كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام والفقه والحديث، ممن يقول: كل مجتهد مصيب، ويقول: كانا مجتهدين، وهذا قول كثير من الأشعرية والكرامية والفقهاء وغيرهم، وهو قول كثير من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، وتقول الكرامية: كلاهما إمام مصيب ويجوز نصب إمامين للحاجة، ومنهم من يقول: بل المصيب أحدهما لابعينه، وهذا قول طائفة منهم، ومنهم من يقول: على هو المصيب وحده، ومعاوية مجتهد مخطيء، كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام والفقهاء: أهل المذاهب الأربعة، وقد حكى هذه الأقوال الثلاثة أبو عبد الله حامد من أصحاب الإمام أحمد وغيره، ومنهم من يقول: كان الصواب أن لايكون قتال وكان ترك القتال خيراً للطائفتين، فليس في القتال صواب، ولكن علياً كان أقرب إلى الحق من معاوية، والقتال فتنة، ليس بواجب ولا مستحب، وكان ترك القتال خيراً للطائفتين، مع أن علياً كان أولى بالحق. وهذا قول أحمد وأكثر أهل الحديث وأكثر أئمة الفقهاء، وهو قول أكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو قول عمران بن حصين رضي الله عنه، وكان ينهى عن بيع السلاح في ذلك القتال، ويقول: هو بيع السلاح في الفتنة، وهو قول أسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وابن عمر وسعد ابن أبي وقاص، وأكثر من بقي من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم»(10).
وإذا كان المخطئ في الاجتهاد أيضاً على الحق، وجب الاعتقاد بأنهما جميعاً كانا على الحق، مهما كان أحدهما مصيباً والآخر مخطئاً، والاعتقاد بكون أحد الفريقين مصيباً والآخر مخطئاً، أو كون أحدهما أولى بالحق أو أدنى إلى الحق من الثاني ليس انتقاصاً للثاني ولا إساءة أدب معه.
يقول المفتي محمد شفيع العثماني الديوبندي الباكستاني رحمه الله (1314هـ/1896م – 1399هـ/1978م): «إن أسلاف الأمة قد اختاروا من الأقوال المختلفة قولاً واحدًا – مثلاً – اعتقدوا بحقيته وعملوا بمقتضاه، وتركوا قول فريق آخر، فلم يكن ترك قوله انتقاصاً له؛ لأنهم قاموا بعملية الأخذ والترك في ضوء مبادئ الاجتهاد المقررة في الشريعة، ثم إنهم لم يقولوا في شأن من لم يأخذوا بقوله كلاماً يسيئ إليه، فكذلك أجمعوا فيما يتصل بما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن احترام الفريقين واجب مع الاعتقاد بأن علياً كان أولى بالحق من خصمه في وقعة الجمل وصفين»(11).
ويقول القاضي أبوبكر العربي: «ودارت الحرب بين أهل الشام وأهل العراق، هؤلاء يدعون إلى بيعة علي وتأليف الكلمة على الإمام، وهؤلاء يدعون إلى التمكين من قتلة عثمان ويقولون: لانبايع من يؤوي القتلة، وعلي يقول: لا أمكن طالباً من مطلوب ينفذ فيه مراده بغير حكم ولا حاكم، ومعاوية يقول: لانبايع متهماً أو قاتلاً له وهو أحد من يُطْلَب فيكف نحكمه أو نبايعه»(12).
ثم قال: «… أما وجود الحرب بينهم فمعلوم قطعاً، أما كونه لهذا السبب(13) فمعلوم كذلك قطعاً، وأما الصواب فيه فمع علي، لأن الطالب للدم لايصح أن يُحَكَّم، وتهمة الطالب للقاضي لاتوجب عليه أن يخرج عليه، بل يطلب الحق عنده، فإن ظهر له قضاء، وإلا سكت وصبر، فكم من حق يحكم الله فيه»(14).
وقد أشار النبي الذي كان لاينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، إلى أن إحدى الطائفتين تكون أدنى إلى الحق. يقول أبوبكر العربي: «والذي تثلج به صدوركم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الفتن، وأشار وبين، وأنذر بالخوارج، وقال: «تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق»(15). فبين أن كل طائفة منهما تتعلق بالحق؛ ولكن طائفة علي أدنى إليه، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(16). فلم يخرجهم من الإيمان بالبغي بالتأويل، ولا سلبهم اسم «الأخوة» بقوله بعده: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾(17).. وقال صلى الله عليه وسلم «تقتله الفئة الباغية»(18).
على كل فكلاهما كانا مجتهدين مخلصين لم يريدا إلا الله؛ ولم يتوخيا إلا مصلحة الإسلام، وكلاهما قد أصابا، كما يقول طائفة من العلماء كما أسلفنا من حديث ابن تيمية رحمه الله في الموضوع، أو أحدهما أصاب والثاني أخطأ، ولكن كليهما مأجوران مغفوران محبوبان عند الله وعند الناس.
وقد صدق العلامة محب الدين الخطيب عندما قال: «أهل السنة المحمدية يدينون لله أن عليّاً ومعاوية ومن معهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا جميعاً من أهل الحق، وكانوا مخلصين في ذلك، والذي اختلفوا فيه إنما اختلفوا عن الجهاد، كما يختلف المجتهدون في كل ما يختلفون فيه، وهم لإخلاصهم في اجتهادهم مثابون عليه في حالتي الإصابة والخطأ، وثواب المصيب أضعاف ثواب المخطيء، وليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر معصوم عن أن يخطيء، وقد يخطئ بعضهم في أمور ويصيب في أخرى.
ثم قال: «ونرى أن عليّاً المبشر بالجنة أعلى مقاماً عند الله من معاوية خال المؤمنين(19) وصاحب رسول رب العالمين، وكلاهما من أهل الخير، وإذا اندسّ فيهم طوائف من أهل الشرّ، فإن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (7: 277) عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الشيباني قاضي إفريقية المتوفي 56هـ – وكان رجلاً صالحاً من الآمرين بالمعروف، وذكر أهل صفين، فقال: «كانوا عرباً يعرف بعضهم بعضاً في الجاهلية، فالتقوا في الإسلام معهم على الحمية وسنة الإسلام، فتصابروا، واستحيوا من الفرار، وكانوا إذا تحيزوا دخل هؤلاء عسكر هؤلاء وهؤلاء عسكر هؤلاء، فيستخرجون قتلاهم فيدفنونهم» قال الشعبي: هم أهل الجنة، لقي بعضهم بعضاً، فلم يفر أحد من أحد»(20).
* * *
الهوامش:
«مقام الصحابة» للمفتي محمد شفيع الديوبندي الباكستاني، ص:87.
انظر هامش 1-2 رقم 2 من كتاب «العواصم من القواصم».
أخرجه رزين، والشطر الأول من الحديث إلى قوله: «فهو عندي على هدى» ذكره السيوطي في «الجامع الصغير» ونسبه إلى السجزي في «الإبانة» وابن عساكر. والشطر الثاني من الحديث: «أصحابي كالنجوم» رواه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» 2/91 من حديث سلام بن سليم عن الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: … فذكره، وإن كان في إسناد هذا الحديث ضعف؛ ولكنه روي من عدة وجوه، يتقوى بعضها ببعض.
«الكفاية في معرفة علم الرواية» للخطيب، ص: 46، و«الإصابة» لابن حجر، ج1 ص:11.
«العواصم من القواصم» ص:171.
تفسير القرطبي – سورة الحجرات: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) الآية.
ومما يدل على ابتغائهم وجه الله عز وجل وحده ما نقله الحافظ ابن عساكر (7: 86 – 87) من قول الشعبي (19-103هـ ) أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رأى طلحة رضي الله عنه مُلْقىً (بعد القتل) في بعض الأودية (وكان طلحة في وقعة الجمل ضد علي) فنزل فمسح التراب عن وجهه، ثم قال: «عزيز علي أبا محمد أن أراك مجدلاً في الأودية وتحت نجوم السماء. إلى الله عجري وبجري» (قال الأصمعي: أي سرائري وأحزاني التي تجول في جوفي). وقال: «ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة». وقال أبو حبيبة مولى طلحة: دخلت أنا وعمران بن طلحة على علي بعد الجمل، فرحّب بعمران وأدناه، وقال: «إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال فيهم (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُتَقَابِلِيْنَ).
شرح المسابرة، ط: ديوبند (الهند) ص:132.
شرح الدرة المضيئة للسفاريني، ج2، ص:386.
رواه البخاري في مناقب الحسن والحسين من كتاب فضائل الصحابة في صحيحه، عن الحسن البصري أنه سمعه من أبي بكرة أن أبا بكرة رأي النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه، فقال ذلك. وانظر البداية والنهاية 8/17-19، وابن عساكر 4/211- 212.
«منهاج السنة» لشيخ الإسلام ابن تيمية، ج2، ص219- 220.
«مقام الصحابة» ص:89.
العواصم، ص:162 – 163.
الذي أشار إليه من خلال قوله: هؤلاء يدعون إلى بيعة علي – إلى فكيف نحكمه أو نبايعه.
العواصم من القواصم، ص: 164.
رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق».
الحجرات، الآية:9.
الحجرات، الآية: 10.
رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير من صحيحه. وعن طاؤوس عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه: لما قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص، فقال قتل عمار، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقتله الفئة الباغية» فقام عمرو بن العاص فزعاً يُرَجِّع، حتى دخل على معاوية، فقال له معاوية: ما شأنك؟ قال: قتل عمار. قال معاوية: قد قتل عمار، فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقتله الفئة الباغية» فقال له معاوية: دحضت في بولك، أو نحن قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه، جاؤوا به حتى ألقوه بين رماحنا أو قال: بين سيوفنا. (مسند الإمام أحمد بن حنبل، 4/199 وأنساب الأشراف، 1/168).
فمعاوية رضي الله عنه أَوَّل الحديث تأويلاً، ولم يكذب ولم يكذب؛ لأنه كان يعلم فبما بينه وبين الله علم اليقين أنه لم يرتكب البغي في حرب صفين ولا في غيرها.
يقول محب الدين الخطيب رحمه الله: «وقد كان معاوية يعرف من نفسه أنه لم يكن منه البغي في حرب صفين؛ لأنه لم يردها، ولم يبتدئها، ولم يأت لها إلا بعد أن خرج علي من الكوفة وضرب معسكره في النخيلة ليسير إلى الشام؛ ولذلك لما قتل عمار، قال معاوية: «إنما قتله من أخرجه».
ثم يقول (وما أصدق ما يقول): «وفي اعتقادي الشخصي أن كل من قتل من المسلمين بأيدي المسلمين منذ قتل عثمان، فانما إثمه على قتلة عثمان؛ لأنهم فتحوا باب الفتنة، ولأنهم واصلوا تسعير نارها، ولأنهم الذين أوغروا صدور المسلمين بعضهم على بعض؛ فكما كانوا قتلة عثمان، فإنهم كانوا قاتلين لكل من قتل بعده، ومنهم عمار ومن هم أفضل من عمار، كطلحة والزبير، إلى أن انتهت فتنتهم بقتلهم عليّاً نفسه، وقد كانوا من جنده وفي الطائفة التي كان قائماً عليها.. فالحديث.. أي تقتله الفئة الباغية من أعلام النبوة، والطائفتان المقاتلتان في صفين كانتا طائفتين من المؤمنين وعلى أفضل من معاوية، وعلي ومعاوية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دعائم دولة الإسلام، وكل ما وقع من الفتن فإثمه على مثيري نارها؛ لأنهم السبب الأول فيها، فهم الفئة الباغية التي قتل بسببها كل مقتول في وقعتي الجمل وصفين وما نفرع عنهما» (هامش رقم(1) ص17 من «العواصم من القواصم».
أقول: لأن أحتها أم حبيبة بنت أبي سفيان كانت إحدى أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
هامش ص:168 – 169، رقم (4) من «العواصم من القواصم».
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1433 هـ = مارس 2012م ، العدد : 4 ، السنة : 36