الفكر الإسلامي
بقلم : معالي الشيخ الدكتور محمد بن سعد الشويعر/الرياض(*)
أخذت حياة الإنسان في تنظيمها ودقّة أعمالها، تتغير مع علم الله الذي علمه للإنسان، كما أخذ المخترعون أساسيات اختراعاتهم، مما كوّن الله جلّ وعلا، وما أودع في الإنسان في جسده وأجساد الكائنات الحية، من عجائب وغرائب، وفي قمتها الإنسان الذي يذكّره خالقه ببعض النعم عليه، وأنه في حياته ينعم بحفظ الله وعنايته.
ألم يقل سبحانه في معرض التنبيه للإنسان، وتذكيره ببعض نعمه عليه، ليتحرك الإيمان في أعطافه، ولا يتعالى على خالقه بعصيانه، والتمرد على شرائعه التي خُلق من أجلها، وتقوده كلّها إلى العبادة الخالصة له جلّ وعلا، والعرفان بأعظم النعم عليه، ألم يقل سبحانه في سورة الانفطار، في خطاب تكريمي للإنسان، الذي فضله خالقه على كثير مما خلق ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ (الآيات 68).
وإذا كانت النواحي الأمنية، التي تحرص عليها أمم الأرض تدفع في أمنها تهيئةً وتدريبًا، وتعليمًا مع التوعية والاستعداد والأموال، ويزداد الأمر تعقيدًا وتكثيفًا عندما يكون هناك صراع بشري أياً كان حجمه ونوعه، بالتهيئة وبذل الجهد الكبير، والاستعداد بكل الإمكانات عقليًا وماليًا وجهدًا بشريًا برغبة الغلبة والانتصار.
لكن هل فكر الإنسان لأخذ العبرة، مما أودع الله في جسمه من أمور؛ لأن أسرار الحياة، وما يدور في المجتمعات تؤخذ عبرتها مما أودع الله في الجسم البشري.
وفي النواحي الأمنية، والصراعات بين البشر فإنهم يحتاجون إلى تفكير وإعداد خطط، واجتماعات وتنظيم، وخاصةً في الأمور الخفيّة، بالرجال والسلاح والأجهزة والعتاد، الذي لايظهر إلا عندما تتأزم الأمور.
في هذه النظرة: علينا أن نأخذ العبرة من جسم الإنسان، الذي أوجده الله وحفظه في «فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ».
لنقول: إن الله العليم الحكيم، قد حمى هذا الجسم البشري ومثله سائر المخلوقات كلّ بحسبه ومهمته من الآفات، ودافع عنه سبحانه بقدرته وتدبيره الشرور، وعلم تلك الجنود المنبثة في الجسد، حيث يقول سبحانه للشيء: «كن فيكون»، وهذا مالا يدركه غالبية الناس، إلا الراسخون في العلم، مما يجب معه أن نوظف هذا العلم على مهمة وسرّ وجود الإنسان، الذي خُلق لمهمات عديدة، ومنها التكاثر وعمارة الكون، وفي مقدمتها عبادة الله.
فقد أودع الله في الجسد، لأي كائن حي، على وجه الأرض من العجائب والغرائب ما يعجز الإنسان عن إحصائه، مما يجب معرفة بعضه بقدر ما يستوعب الإنسان لشكره عند ذكره؛ ومِنْ ثم أداء حق الله في حكمة إيجاد هذه العجائب والغرائب، بدون جُهد منا، أو بمنّ ولا ثمن، إلا زيادة الإيمان بالخالق القادر على كل شيء «اَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ» (المؤمنون آية 115). ذلك أن جسم الإنسان، يبرز عند الباحثين في دقائقه وخلاياه، بين حين وآخر والدارسين المتعمقين أشياء كثيرة دؤوبة العمل، ووراء هذه الأشياء المحكمة والدقيقة في صنعها وعملها، ما يحتار المرء في إدراك الكُنه والمهمة؛ لكن العجب والذهول إذا عُرف أن وراء ذلك سرّ إلهي، خلق الله الإنسان لتوظيف هذا السر في الدعوة لدين الله العلي العظيم؛ لأن العلم يدعو للإيمان.
ونموذج من الأمور التي تُبرز المعقول بالمحسوس في معرفة بعض تلك الجنود الخفية، التي حمانا الله بها والتمعن في أسرار ما جعل الله في جسد الإنسان، ولنأخذ بعض وظائف الدم، ذلك السائل الأحمر المتحرك في عروقنا، المنتظم في سيرته، بهدوء لا إحساسَ معه، المحافظ على الأجساد في دورانه (الدورة الدموية)، وأداء مهمته.
يقول المختصّون في دراسة تكوينه: بأنه يتألف من محلول مائي، يُسمى البلازما من خلايا الدم الحمراء وخلايا الدم البيضاء والصفيحات حسبما أطلقوا من تسميات للمعرفة والإيضاح.
وخلايا الدم نوعان: الحمراء والبيضاء هي المعروفة باسم (كُريّات) بالتصغير وتعرف أيضاً بكُريّات الدم الحمراء، وكُريات الدم البيضاء وهذا هو الاسم العلمي؛ لأنها على شكلها عندما تكبر حيث تبرز على هيئة كرة صغيرة الحجم، لاتُرى إلا بالمجهر، (المكيروسكوب)، وشكلها هذا أعطاها خصائص لفائدة هذا الجسد، لا إله إلا هو القادر على كل شيء (كن فيكون).
والبلازما هي التي تشكل ما يقرب من 70٪ من حجم الدم لها وظيفة دقيقة، في العمل، والإفادة للجسم، فهي تضمّ المواد الغذائية الذائبة فيه لتختلط بالمحلول المائي الذي يميل لونه إلى الاصفرار. ولمرونتها وليونتها فإنها تقوم بحركة منظمة ومستمرة في أنحاء الجسم، بمثابة كتائب الجيش الخلفية، التي تؤدي دور الحراسة والحماية في الحروب، وذلك بفضل الله ثم فضل الضخ من القلب.
وبهذه الدورة ينتقل الغذاء إلى أجزاء الجسم ويأخذ كل عضو ما ينفعه ليستمر النمو والحيوية فسبحان من قدر ذلك.
ولما كان الجسم دقيق الصنع، محكم الجوانب، محمي من الله سبحانه وتعالى عن الشبيه والنظير كما تُحْمى الكتائب والجيوش المحاربة: حراسة من الخلف، حتى لايدخل أي مؤثر يغيّر بهم، فإن من تركيب هذا الجسد الذي خصه الله به هو ضرورة الحاجة إلى الأوكسجين، ليتجدّد نشاطه بعد المحافظة عليه من الأضرار، وفي هذا شبه بالإمدادات والتموين في الجيوش المحاربة، لدرء الخطر عنها، ولتصمد في المصاولة.
ومن قُدرة الله جلّ وعلا، ودقة صنعه «الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى» (طه آية 50) فقد جعل مهمة تجديد الهواء، وتنقية أطراف الجسد عن التأكسد، بجنود دؤوبة وخفية، وعملها محكم في حماية الجسد، إنها خلايا الدم الحمراء، كُريات الدم ذات الشكل القرصي المقعّر من الجانبين، وأعطاها المختصون اسماً علميًا تعرف به.
هذه الخلايا غنية بمادة حمراء، تعرف باسم (الهيموجلوبين) الذي له دور مهم، في نقل الأوكسجين وثاني أوكسيد الكربون من الرئتين وإليهما، حيث يوجد بهما المعمل المحكم للتكرير والتنقية، وهذا المعمل لتبديل شيء فاسد بشيء هو من جند الله التي تحمي الجسم البشري من الآفات التي تضربه.
ويتراوح عدد الخلايا: أي عدد خلايا الدم الحمراء في المليمتر الواحد، من الدم ما بين 4.5 إلى 5 ملايين خلية فسبحان من أوجد ذلك، وأحصى عددهن ونظمه في عمله أليس هذا مما يدعو للتفكر والشكر؟!
إن هذه العملية في دورتها الدموية الدائبة، ما هي إلا دورية حراسة مُخلِصَة، من دوريات الأمن في المجتمع في الشبه، تجعل عمل هذه الخلايا المزدوج، بارزًا في الدفاع، حيث ينْشُرانِ الغِذاء والأوكسجين الضروريان في الجسم مع الدم أو من الدم، فيما يفيده ويزيده حيويةً وفائدةً؛ إذ لو انقطع هذا الإمداد عن الجسم، فترةً قصيرةً، لمات صاحبه؛ ولذلك يعتبرون أن الإنسان من ضرورة الحياة عنده: الماء والهواء.. فالماء يمثّل الغذاء، والهواء يمثّل الأوكسجين.
وبالمقابل: ينتقل غاز ثاني (أوكسيد الكربون) مع الإفرازات الضارة، من الجسم إلى الدم، حيث تعاد إلى مصانع التكرير والتنقية، وهذا من مدافعة الله سبحانه عن الإنسان الآفات والمصائب، حتى ينعم بحواسه كلها التي وهبها الله له «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا» (الإسراء آية 36) والأمر لايقتصر على فائدة الجسم والدفاع عنه، من هذا الطريق المحكم الدقيق، والحركة الدائبة المنتظمة فقط؛ ولكن الله أودع في أجسامنا جيشاً آخر.
هذا الجيش يحمينا من أي ضرر، يدخل الجسم لاتقوى عليه مئات من الناقلات للغذاء، والمنظفة للجسم، للمحافظة عليه، من التسمم والفساد. فما هو هذا الجيش المتهيئ للدفاع بخطوات فدائية، دون أن نحس بحركته وتنقلاته أو بعمله وحرصه على المحافظة والوقاية لأجسادنا دون سابق إنذار منا؛ بل هو المستجيب بأول اتصال يوجه إليه، فقد أوجده في عمله الدائب: العزيز الحكيم القادر على كل شيء، إنه الجيش الغذائي: خلايا الدم البيضاء، أو باسمها العلمي: كُريات الدم البيضاء وهي تتكوّن من عدة أنواع ويسمونها الجيش الانتحاري؛ لأنها تدفع بنفسها في سبيل المحافظة على صحة كل فرد منا، بصمت وعمل منتظم، فتندفع بسرعة لٍتغْذي المصاب، وتموت من أجله.
ولها دور مهم في الدفاع، عن الأجسام وذلك لقدرتها على ابتلاع الجراثيم والفيروسات الطارئة والقضاء عليها، وهذا نوع آخر من السلاح الذي يُهاجم به كل غريب يدخل الجسم، لقدرتها على إفراز مواد تُضعِف هذه الطفيليات وتقتلها: من جراثيم أو فيروسات وغيرها.
فكريات الدم البيضاء تهاجم كل غريب يدخل الجسم، كما تعمل كلابُ الحراسة في طرد الذئب أو اللص عن الغنم، فتحمي الجسم، وتدافع عنه بهيئة انتحارية، فإذا شعرت بالضعف عن المقاومة اندفعت بقوة ثم تتجلط، وينشأ عن هذا ما يسمى (بالقيح) وهذه أمثل طريقة انتحارية للدفاع عن الجسد البشري، وتوقف تغلغل الخطر عن الجسم، حتى يتمكن جهاز المناعة بالنشاط، ومن ثم مزاولة قدراته في مقاومة بعض الأمور الطارئة، بعد أن كاد الجيش الغذائي الكريات البيضاء يعجز عن التصدي للخطر، فطلب المدد من جهاز المناعة وموطنه الكبد.
فسبحانه من سخر لنا هذا ونحن عنه غافلون.
وللبحث صلة.
(*) مستشار سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1433 هـ = فــــبرايـــر 2012م ، العدد : 3 ، السنة : 36