الفكرالإسلامي
بقلم: نور عالم خليل الأميني
رغم أن القرآن الكريم شهد للصحابة رضي الله عنهم بالفضائل والكمالات والإيمان الصادق والرحمة والرضوان، تعتقد الأمة أن ذلك لايعني أنهم معصومون من الأخطاء مبرؤون من الزلات والعثرات، لأن ذلك شأن الأنبياء والملائكة وحدهم، فقد يصدر من بعضهم شيء من هذه الأخطاء والزلات؛ لكن خصيصتهم أنهم لا يصرون على خطأ ما، بل يبادرون دونما تأجيل إلى التوبة وطلب العفو والاستغفار من الله عز وجل، فالأمة سوى الذين انتموا إلى الإسلام كذباً وزوراً وكانوا من أخطاء التاريخ في الواقع – تعتقد أن ذلك لايقدح في حقيقة إيمانهم، ولا فيما بشروا به من الرضوان والرحمة والمغفرة والدرجات العلى. وقد ذكر القرآن الكريم بعض هذه المواقف التي كانت فيها منهم هنات، وسجل إلى جانبها توبة الله عليهم ومغفرته لهم وعفوه عنهم ورحمته بهم.
1 – قال عز من قائل في شأن أخذ الفداء من أسرى بدر:
﴿لَوْلا كِتَابٌ مِنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(1).
فقد صرح بأن المغفرة التي سبقت منه تعالى لأهل بدر كانت مانعة من مؤاخذتهم على ذلك. وقد أسفنا حديثاً صحيحاً رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اطلع الله على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»(2).
2 – وقال الله عز وجل في أهل أحد:
﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾(3).
سجلت الآية ما وقع من بعضهم من فشل وتنازع وإرادة الحياة الدنيا، وسجلت مع ذلك عفو الله عنهم ومغفرته لهم، وصرحت بأن ذلك كان فضلاً من الله عليهم، لأنهم آمنوا بالله ورسوله.
3 – وقال تعالى فيما يتعلق بمن تولى منهم يوم أحد:
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾(4).
نصت الآية الكريمة على عفو الله عما صدر منهم من التولى والفرار في هذا اليوم، لأن الله غفور حليم.
4 – وقال عز وجل في أهل غزوة تبوك والذين تخلفوا عنها:
﴿لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ الله إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(5).
نزلت هذه الآيات في غزوة تبوك، وكان الصحابة قد خرجوا إليها في حر شديد وعسر من الزاد والماء، حتى كاد البعض يزيغ عن الحق لما نالهم من الشدة، وببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم نزلت الأمطار، وقد تاب الله عليهم وغفر لهم، كما شملت توبته الثلاثة الذين خلفوا عنها والذين كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرجأ قبول توبتهم إلى أن يقضى الله فيهم.
5 – وقال تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(6).
ذهب الجمهور إلى أن الآية نزلت في شأن الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فأوثقوا أنفسهم في سواري المسجد النبوي، وأقسموا ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقهم ويرضى عنهم، فلم يطلقهم صلى الله عليه وسلم حتى نزلت، فلما نزلت أطلقهم وعذرهم.
وقيل: إنها نزلت في أبي لبابة الأنصاري، في شأنه مع بني قريظة، وذلك أنهم كلموه في النزول على حكم الله ورسوله، فأشار لهم إلى حلقه يريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبحهم إن نزلوا، ثم ندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد النبوي، فمكث كذلك حتى عفا الله عنه(7).
على كل فإن الله قد تاب عليهم، حيث وعد: ﴿عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ والترجى في كلام الله تعالى يفيد اليقين وتحقق الوقوع كما أكد العلماء رحمهم الله تعالى.
وأحسن العلامة محب الدين الخطيب رحمه الله (1303هـ-1389هـ) إذ قال: «نحن لانعتقد العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من ادعى العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كاذب، فالإنسان إنسان، يصدر عنه ما يصدر عن الإنسان، فيكون منه الحق والخير، ويكون منه الباطل والشر، وقد يكون الحق والخير في إنسان بنطاق واسع، فيعد من أهل الحق والخير، ولا يمنع هذا من أن تكون له هفوات، وقد يكون الباطل والشر في إنسان آخر بنطاق واسع، فيعد من أهل الباطل والشر، ولا يمنع هذا من أن تبدو منه بوادر صالحات في بعض الأوقات»(8).
ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله (150-204هـ) «لا أعلم أحداً أعطى طاعة الله حتى لم يخطها بمعصية الله، إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام، فإذا كان الأغلب الطاعة فهو المعدل، وإذا كان الأغلب المعصية فهو المجرح»(9).
الثناء عليهم والاستغفار لهم والإمساك عما شجر بينهم:
ورغم أنهم لم يكونوا معصومين قد استحقوا من الله المغفرة والرحمة والجنة والحسنى لحسن بلائهم ونصرتهم في الدين ومبادرتهم إلى التوبة والاستغفار، فأمــر الله عـز وجل المؤمنين من بعدهم بالترضي والثناء عليهم والاستغفار لهم فقال: ﴿وَالَّذِينَ جَـاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْـوَانِنَا الَّـذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(10).
من أصول أهل السنة والجماعة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (661-728هـ): «ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله به في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «لاتسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم»(11).
لايجوز ذكر مساويهم:
وقال الإمام أحمد (164-241هـ): «لايجوز لأحد أن يذكر شيئًا من مساويهم ولا أن يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص، فمن فعل ذلك وجب تأديبه، وقال الميموني: سمعت أحمد يقول: ما لهم ولمعاوية نسأل الله العافية، وقال لي: يا أبا الحسن إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فاتهمه في إسلامه»(12).
لا ينتقص أحداً منهم إلا زنديق:
وتعتقد الأمة أن انتقاص الصحابة هو انتقاص الدين وأصوله، لأنهم هم الذين نقلوه إلى من بعدهم.
قال الإمام أبو زرعة(13) العراقي أحد مشايخ مسلم: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة»(14).
لا يساوي الصحابي أحد مهما عظم:
وقال أبو أسامة رحمه الله عندما سأله إبراهيم بن سعيد الجوهري: أيّما أفضل، معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟: «لانعدل بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحدًا»(15).
وما أروع ما قاله محب الدين الخطيب (1303-1389هـ) وقد اعتبر في التشريع الإسلامي أن الطعن فيهم طعن في الدين الذي هم رواته، وتشويه سيرتهم تشويه للأمانة التي حملوها، وتشكيك في جميع الأسس التي قام عليها كيان التشريع في هذه الملة الحنيفية السمحة».
وأضاف: «وأول نتائجه حرمان شباب الجيل وكل جيل بعده، من القدوة الصالحة التي من الله بها على المسلمين ليتأسوا بها، ويواصلوا حمل أمانات الإسلام على آثارها، ولا يكون ذلك إلا إذا ألموا بحسناتهم، وعرفوا كريم سجاياهم، وأدركوا أن الذين شوهوا تلك الحسنات وصوروا تلك السجايا بغير صورتها، إنما أرادوا أن يسيئوا إلى الإسلام نفسه بالإساءة إلى أهله الأولين»(16).
سب الصحابة حرام وسابهم مدخول في إيمانه:
ولذلك قال القاضي عياض (المتوفى 544هـ): «وسب آل بيته وأزواجه وأصحابه وتنقصهم حرام ملعون فاعله»(17).
ثم قال: «قال مالك (93-179هـ): من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل، ومن شتم أصحابه أدب، وقال أيضاً: من شتم أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر، أو عثمان، أو معاوية، أو عمرو بن العاص، فإن قال: كانوا على ضلال وكفر، قتل، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً»(18).
واعتبر ابن كثير (م 774هـ) أولئك الذين يسبون الصحابة – ولا يعزبن عن البال أن السب أعم وقد يكون أهون من الشتم – مشكوكاً في إيمانهم مدخولاً فيه فقد قال: «يا ويل من أبغضهم أو سبهم أو سب بعضهم» ثم قال: «فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم»(19).
قال بعضهم ساب الصحابة خارج من الدين:
واعتبر الإمام محمد بن أحمد شمس الدين الذهبي (م748هـ) من يطعن في الصحابة أو يسبهم خارجاً من الدين، ومارقاً من ملة المسلمين، وأكد أن الطعن فيهم إنما يرجع إلى إنكار ما نص عليه كتاب الله من الثناء والمدح، وما أثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم وأشاد بفضائلهم ومناقبهم، ثم إنهم الجسر الذي انتقل به الدين إلينا، فإذا هدمناه هدمنا الدين، وقد فصل الذهبي الكلام في هذا الصدد، وأصاب كبد الحقيقة، ووضع النقاط على الحروف، وأبان وأفصح، ولم يترك مجالاً لمن في قلبه مرض أو غرض، وإلى القاريء مقتطفات من نصوصه:
«فمن طعن فيهم أو سبهم فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين.. لأن الطعن لايكون إلا عن اعتقاد مساويهم، وإضمار الحقد فيهم، وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنائه عليهم وفضائلهم ومناقبهم، ولأنهم ارضى الوسائل من المأثور والوسائط من المنقول، والطعن في الوسائط طعن في الأصل، ولأن الازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول هذا ظاهر لمن تدبره وسلم من النفاق والزندقة والإلحاد»(20).
ويقول: «من ذم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء وتتبع عثراتهم وذكر عيباً، وأضافه إليهم، كان منافقاً، بل الواجب على المسلم حب الله وحب رسوله وحب ما جاء به وحب من يقوم بأمره، وحب من يأخذ بهديه، ويعمل بسنته، وحب أصحابه وأزواجه وأولاده وغلمانه وحب من يحبهم وبغض من يبغضهم»(21).
احترام النبي يستلزم احترام أصحابه:
وصرح القاضي عياض المالكي (م544هـ) بأن احترام النبي صلى الله عليه وسلم يستوجب احترام أصحابه والاقتداء بهم وحسن الثناء عليهم، يقول: «ومن توقيره صلى الله عليه وسلم توقير أصحابه، وبرهم، ومعرفة حقهم، والاقتداء بهم، والاستغفار لهم، والإمساك عما شجر بينهم، ومعاداة من عاداهم، والإضراب عن أخبار المؤرخين وجهلة الرواة»(22).
يجب اتباعهم بإحسان:
وقال الإمام فخرالدين محمد بن عمر التيمي البكري الرازي (م606هـ) لدى تفسير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِيْنَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾(23).
أو يقال: إن المراد أن يتبعوهم بإحسان في القول، وهو أن لايقولوا فيهم سوءًا، وأن لايوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه»(24).
وأضاف: «فوجب أن من لم يحسن القول في المهاجرين والأنصار، لايكون مستحقاً للرضوان من الله تعالى وأن لايكون من أهل الثواب لهذا السبب، فإن أهل الدين يبالغون في تعظيم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يطلقون ألسنتهم في اغتيابهم وذكرهم بما لاينبغي»(25).
لايمكن أن يبلغ مرتبة أدناهم أحد:
وأكد ابن حزم (علي بن أحمدم) الأندلسي (994م-1063م) أن أي واحد ممن بعد الصحابة لايمكن أن يبلغ مرتبة أدناهم، فقال: «ولا سبيل إلى أن يلحق أقلهم درجة أحد من أهل الأرض»(26).
وقد أسلفنا قول الصحابي الجليل سعيد بن زيد البدري رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة: «والله لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم ولو عمر عمر نوح»(27).
وقال العلامة القرطبي (المتوفى 671هـ) في تفسير قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أمةٍ أخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ إن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورآه مرة في عمره أفضل ممن يأتي بعده، وإن فضيلة الصحبة، لايعدلها عمل»(28).
عمر بن عبد العزيز يبين مكانة الصحابة:
حقًا إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم قد أجمعت سوى الفرق الضالة التي كانت حثالة التاريخ ونفاية المجتمع البشري، على أن الصحابة هم كما وصفهم ربهم وكما مدحهم نبيهم، وتقيدت بأن توفيهم حقهم من الاحترام والإنصاف والاعتراف والتعظيم والتقدير، لشرف صحبتهم ومكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإحسانهم إلى الأمة، وحسن بلائهم في سبيل الدين، وتمكينه في الأرض.
ويحلو لنا أن ننقل هنا قطعة من إحدى رسائل عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي (61-101هـ) الذي يعتبر أفضل التابعين، تلك التي أبان فيها مكانة الصحابة وأفضليتهم، وأمر الناس بالتقيد بالتأدب معهم والإحترام لهم:
«فارض لنفسك ما رضي به القوم – الصحابة – لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: إنما حدث بعدهم، ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مقصر وما فوقهم من محسر، وقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم»(29).
المؤرخون الغربيون يشهدون بعظمة الصحابة:
ونختم هذا الفصل بشهادة مؤرخين غربيين بعظمة الصحابة: يقول المؤلف الألماني «كاتاني» (Caetani) في كتابه «سنين الإسلام»:
«لقد كان هؤلاء الصحابة الكرام ممثلين صادقين لتراث رسول الله الخلقي، ودعاة الإسلام في المستقبل، وحملة تعاليم محمد صلى الله عليه وسلم التي بلغها إلى أهل التقوى والورع، لقد رفع بهم اتصالهم المستمر برسول الله وحبهم الخالص له، إلى عالم من الفكر والعواطف لم يشهد محيط أسمى منه وأرقى مدنية واجتماعاً.
والواقع أن هؤلاء الصحابة كان قد حدثت فيهم تحولات ذات قيمة كبيرة من كل زاوية، وأثبتوا فيما بعد في أصعب مناسبات الحروب أن مبادئ محمد صلى الله عليه وسلم إنما بذرت في أخصب أرض أنبتت نباتاً حسناً، وذلك عن طريق أناس ذوي كفاءات عالية جدًا، كانوا حفظة الصحيفة المقدسة وأمناءها، وكانوا محافظين على كل ما تلقوه من رسول الله من كلام أو أمر، لقد كان هؤلاء قادة الإسلام السابقين الكرام الذين انجبوا فقهاء المجتمع الإسلامي وعلماءه ومحدثيه الأولين»(30).
ويقول الفاضل الفرنسي المعروف الدكتور «غوستاف ليبان» (Gustayelleban) في كتابة «حضارة العرب»: «وبالجملة فإن هذا الدين الجديد كان يواجه مناسبات وفرصاً كثيرة وإن فراسة الصحابة وحسن تدبيرهم قد جعلهم ينجحون لدى كل فرصة ومناسبة، لقد وقع الاختيار للخلافة في العهد الأول على أناس، كان جل غرضهم نشر الدين المحمدي»(31).
* * *
الهوامش:
الأنفال: 68.
رواه أبو داود: باب في الخلفاء.
آل عمران: 152.
أل عمران: 155.
التوبة: 117 و 118.
التوبة: 102.
«منزلة الصحابة في القرآن «لمحمد صلاح محمد الصاري» ط: دارطبية – الرياض.
محب الدين الخطيب: تصديره العواصم من القواسم» ص:3.
الكفاية للخطيب البغدادي، ص:79، وأيضاً السنن الكبرى للبيهقي ص:10.
الحشر: 10.
العقيدة الواسطية، ط: دارالإفتاء – الرياض 1403هـ – ص 166-167.
انظر الصارم المسلول لابن تيمية.
قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: ما جاء الجسر أحفظ من أبي زرعة، وقال الإمام أبو حاتم: إن أبا زرعة ما خلف بعده مثله. (العواصم من القواسم، ص34، ط: الرياض 1404هـ).
الكفاية للخطيب البغدادي، ص: 49، ط: حيدر آباد الدكن (الهند) 1357.
الروضة الندية: شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية، ص:405.
تصدير «العواصم من القواسم» ص:6.
الشفا، ج2، ص:307.
المصدر نفسه.
ابن كثير في معرض الحديث عن «لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة» الخ.
كتاب «الكبائر» للإمام الذهبي، ص:238.
كتاب «الكبائر»للإمام الذهبي، ص239.
انظر كتاب «الأساليب البديعة» ص:8.
التوبة: 100.
التفسير الكبير، ج4، ص:494.
المصدر نفسه، ج4، ص:492.
الفصل في الملل والأهواء والنخل، ج4، ص117.
رواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج1، ص:171.
أخرجه أبوداود في سننه.
Caetani: (Annalidiell, Islam) Vol:11, P.:429 T.W Arnold, Preaching of Islam, London, 1935 نقلا عن كتاب صورتان متضادتان لأبي الحسن الندوي، ترجمة سعيد الأعظمي الندوي بالعربية، ط: الهند 1405هـ، ص23.
«حضارة العرب» ص:134، ترجمة شمس العلماء الدكتور السيد علي البلكرامي، نقلا عن المصدر السابق، ص:24.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1433 هـ = ديسمبر 2011م ، يناير 2012م ، العدد : 1-2 ، السنة : 36