إشراقة
كان معلم اللّغة العربية المُلْهَم العبقريّ في شبه القارة الهنديّة الشيخ المهذّب وحيد الزمان الكيرانويّ رحمه الله تعالى (المتوفى 1415هـ/1995م) كان يركّز كثيراً – فيما كان يركّز في مستهلّ العام الدارسيّ في المدارس الإسلاميّة في الهند في شهر شوّال، ولدى بدئه تدريس الموادّ الموكّلة إليه في الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند، وهو يزوّد الطُلاَّب بالآداب العامّة التي كان لابدّ لهم من أن يتقيّدوا بها ولا سيّما في الحصص التي كان يحاضرهم هو فيها – على الطاعة وامتثال الأمر والتقيّد بالتعليمات.
وكان رحمه الله يكثر من قوله: إنّ ذكاء الطّالب واجتهاده لا ينفعانه بمثلما ينفعه التزامُه بأوامر الأستاذ. هاتني طالباً مهما قلّ ذكاؤه يفيض حلاوةَ طاعة، وجمالَ تأدّب، وبهاءَ تواضع، ونورَ صلاح، وطلاقةَ وجه، هاتني طالباً مهما فقد الذكاء ولكنّه إذا قلتُ له مثلاً: قف في هذه الشمس المحرقة ثلاث ساعات متواليات؛ فلم تطب نفسه بأن يتساءل حتى في قرارة نفسه: لماذا أمرني سيّدي الأستاذ بالوقوف في هذا الحرّ الشديد. وإذا أسندتُ إليه مثلاً أن يحفظ متن هذا الكتاب في ظرف أسبوعين؛ فلم يقل في نفسه ولا مرة واحدة: ماذا سأجني من وراء حفظ هذا المتن الجافّ. وإذا كلّفتُه بأن يحضر الفصل قبل جميع زملائه، فلم يتخلّف يوماً بدون عذر. وإذا قيّدتُه أن ينسخ كل يوم صفحة أو صفحتين من كتاب في الأردية وآخر في العربية مكتوبين بخطين جميلين، ليحاكيهما في جمال الخط واستقامة الحروف؛ فلم يقعد عن هذه الوظيفة طوال سنة. وإذا فرضتُ عليه أن يحوّل الجملَ الاسميّة في هذا الكتاب إلى الجمل الفعليّة أو الأفعال الماضية إلى الأفعال المضارعة وبالعكس أو كليهما إلى الأمر والنهي؛ وحددتُ له مدة شهر، صنع ذلك في ظرف خمسة عشر يوماً أو أقل منها.
هاتني مثلَ هذا الطالب ودعني أصنع منه ما أشاء بتوفيق الله عزّ وجل أوّلاً وبصلاح الطالب ثانياً وبما وهبني الله الكريم من القدرة على صياغة الطالب في قالب أنفع ثالثاً.
دعني أحوّله متقناً لهذه العلوم التي تُدَرَّسُ في الجامعة.. أو متقناً للغة العربية التي هي من اختصاصي.. أو متقناً للنطق بها فقط إن مال إلى ذلك وحده.. أو متقناً للكتابة فيها إن رغب فيها أكثر من رغبته في غيرها.. أو متقناً لفن الإدارة: إدارةِ مدرسة، أو إدارة حفلة، أو إدارة مجلس من المجالس، أو إدارة قطاع من قطاعات الحياة الثقافية والاجتماعيّة.. أو متقناً لفن القري واستقبال الضيف والحفاوة به بطريقة جامعة بين الإسلامية والعصريّة.. أو متقناً لفن التعايش مع الحياة مع بردها ولفحها وظلها وشمسها، والتعامل مع الناس مع شتى قطاعاتهم.. أو جامعاً بين ذلك كلّه لحدّ مستطاع وتوازن مطلوب.
دعنى أحوّله إنساناً مثقفاً ينفع نفسه وأسرته ودينه وامته ووطنه، انساناً يفيض خيراً، وينشر سعادة، ويوزّع حسنات، ويجني الدعاء من ألسنة الخلق، ويملأ عيونَ والديه وأعضاء أسرته وأقاربه قرّةً، وصدورَهم فرحةً.
إنّ الطاعة تضمن للصغار والتلاميذ والشباب كاملَ النجاح والسعادة فيما يتوخاه من أغراض الدنيا والآخرة.
ولكني أعوذ بالرحمن – ولا يزال الحديث لشيخنا الكيرانويّ – من التلميذ العاصي، مهما كان ذكيًّا فطنًا، فهماً واعياً؛ لأن العصيان لا ينفع معه الذكاءُ والفطنة والفهم والوعي؛ حيث تضيع هذه الصفات هدرًا في أغراض تافهة لا تُزَيّن حاضرًا ولا تبنى مستقبلاً.
ولا يمكن صهر تلميذ عاصٍ في قالب نافع مطلوب، ولا يمكن نحته بمقياس ثقافي أو اجتماعيّ، ولا يُسْتَطَاعُ تخريجه على معيار رغبة وليّ أمره؛ لأنّه يضرب بعصيانه جميعَ أوامر أستاذه ومربيه عرضَ الحائط وكأنّها لم تقرع أذنيه!.
لو ساءلني أحد من عقلاء العالم: ما هي الصفة الأنفع للطالب؟ لقلتُ دونما تردد: إنّها صفة الطاعة والانقياد والخضوع الأعمى لأوامر الأستاذ؛ ولا سيّما إذا كان الأستاذ جامعاً بين التعليم والتربية، وبين العلم والصلاح، وبين سعة الاطّلاع وثقوب النظر، وبين فهم الدّين وفهم العصر. (انتهى حديثه رحمه الله).
وقد صدق شيخنا رحمه الله تعالى لا بنسبة مائة في المائة ولكن بنسبة ألف في الألف إذا صحّ التعبير وقَبِلَه عرفُ الناس.
فقد جرّبتُ ولا أزال مصداقيةَ كلامه وعمقَ تجربته وخوضَه في أغوار نفسيّة الطالب والمتلقي من الشباب، فوجدتُ أن أكثر الطلاب انتفاعاً في أقل ما يمكن من الأوقات وبأسهل ما يمكن من الطرق، هو الطالب المطيع المنقاد السبّاق إلى تنفيذ أوامر أستاذه حرفاً حرفاً. إنّ هذا الطالب يتقدّم كل لحظة خطوات، وكل يوم أميالاً، وكلّ أسبوع مسافات بعيدة، وكل شهر يصل إلى أبعد الغايات، وكلّ عام يُحرز أنبل الأهداف.. تباركه يدُ الرحمن، وتحدوه أدعيةُ الأستاذ، وتدفعه تعليماتُ المربّي، ويقوده حنانُ الأمّ وعطفُ الأب ولطفُ الأسرة ولفتاتُ الأقارب وثناءُ الزملاء وإعجابُ الأقران.. فيزداد ذكاءً على ذكاء، وسناءً على سناء، وفضلاً على فضل، وعلماً على علم، وسعادةً على سعادة.. وبشكل ملموس، يزداد كثرةً بعد القلة، ونباهةً بعد الخمول، وعزًّا منيعاً بعد أن لم يكن عنده رصيدٌ منه.
وجرّبتُ في جانب آخر أنّ الطالب المهمل العاصي وبالتالي الطاغي يبقى في موقفه لا يبرحه، ولا يتقدم علماً أو فكراً أو فضلاً مهما كان لديه رصيدٌ من الذكاء والفهم؛ لأنهما لاينفعان إلاّ إذا بُذِلا وفق توجيهٍ من خبير وهو الأستاذ والمدرس ههنا. بل جرّبتُ أن كثيرًا من الطلاب العصاة الطغاة العتاة يجتازون رحلةً معكوسةً ويتنازلون من العلو إلى السفل؛ لأنهم بسلوكهم المؤلم قد يؤذون المربّيَ العطوفَ والأستاذ الشفوقَ فيستحقون من الله الخيبةَ والخسرانَ وفق سنته تعالى في الحياة والكون، وربطه تعالى الأشياءَ بالأسباب، والخيرَ والشرَّ بعللهما.
كم طالبٍ وجدتُه يتمتع بذكاء مدهش و وجدتُه يبذل جهودًا مضنية في غنى عن تعليمات الأستاذ بل في رفض لأوامره، فلم يستفد ولم يفد، ولم يجن الغرض الذي في سبيله خرج، ومن أجله ركض، وعليه سهر، وفيه عصر اجتهاده. رأيته ضاع كما يضيع البرقُ الخُلَّب أو الضربةُ النابيةُ التي تُوَجَّهُ دونما تسديد مسبق.
إنّي أوصي الشباب والتلاميذ الذين يودّون أن لا يضيع ذكاؤهم في غير موضعه، وأن لا تذهب جهودهم هباءً، وأن لا يعود مشوارهم التحصيلي موبوءًا بالفشل، وأن تعطي رحلتهم المتصلةُ وركضُهم الدؤوبُ ثمارهما المرجوة.. أوصيهم بالتقيد بأوامر الأستاذ تقيُّدَ الجيش بقائده، وتقيد المريد بتعليمات شيخه، وتقيد العبد بتوجيهات سيده.
إنّ القضيّة مشروحة في كتب السلف من قديم الزمان، ومضغوط عليها كثيرًا في مقالات الكُتّاب ودراسات الباحثين وأطروحات المفكرين؛ ولكني لا أودّ أن أقف ههنا موقف الواعظ الذي يطيل الكلامَ بسرد أقوال العلماء وحكايات السلف والقصّاصين، ولذلك اكتفيتُ بسرد نبذة شاملة من قول الأستاذ العبقريّ الذي صدر فيما قاله عن أرض صلبة من تجاربه الطويلة الحكيمة، وعاش مُعَلّمًا مثالياً يجمع بين التّعليم والتربية والتثقيف والتهذيب، وكان فريدًا في موضوع التدريس كأنّه خُلِقَ مُعَلِّماً.
كما أردفتُه بما عشتُه من تجربتي الذاتية في مهنة تدريس اللغة العربية وآدابها منذ أكثر من ربع قرن من الزمان ومررتُ خلال هذه المدة الطويلة حقًّا بحلو الحياة ومرّها؛ وبالطلاّب السعداء الأوفياء، الذين وجدتُ طينتهم قد عُجِنَتْ بالانقياد المطلوب والطاعة المنشودة والتواضع الثرّ؛ فرأيتُهم ينمون نموَّ نبات كريم في أرض كريمة سقته ورعته يدٌ كريمة. كما مُنِيْتُ – مع الأسف – ببعض الْمُسَمَّيْنَ بـ«الطلاب» الذين ضاعت فيهم كلُّ نصيحة غالية كانت قطعةً من القلب وفلذةً من الكبد، ضياعَ مياه الأمطار الطيّبة في أرض سبخة.
إنّ العصيانَ وعدمَ الطّاعة صفةٌ قبيحة ممجوحة في ذاتها لا تقف عند حدّ، وإنما تتجاوزه إلى مسافات بعيدة، وتؤدّي بصاحبها إلى الشقاء والحرمان من كثير من الخير في رحلةالحياة الطويلة بشتى مجالاتها ومختلف شُعَبِها.
فالجنديُّ الذي عصى القائد ربما أصابته أهداف العدوّ فأَصْمَتْه، وإن نجا من ذلك فربّما فُصِلَ عن الوظيفة.
والولدُ الذي تعوّد على عصيان والده، واستهان بعقوقه، لم يُحْرَمْ سعادةَ الآخرة وحدها؛ ولكن قد يحرم إرثَه في الدنيا إذا أعلن – الوالد – بعقوقه بشكل قضائي.
والمسلم الّذي عصى العلماءَ والفقهاءَ ولم يتقيّد بفتاواهم ولم يستمع لمواعظهم ولم يرقّ بزواجرهم واستخفّ بإرشاداتهم، لم يُحْرَمِ الثّواب وحده، بل ربّما استحقّ العقاب، وربّما أدّى به ذلك – لا قدّر الله ذلك لأحد – إلى الفسوق فالمروق من الدين.
والمرأة التي عصت زوجَها ولم تبالِ بطاعته ولم تراعِ المكانة التي أكرمه الله بها تجاهها ولم تهتمّ بأمر قوّاميّته، ولا بما رصده الله تعالى لها من الثواب الكبير في طاعة زوجتها ووفائها به وولائها له وسهرها على خدمته، وبما أعدّه لها الله من االعقاب والعذاب إذا شقّت عصا طاعته.. لم تُحْرَمِ ثوابَ الآخرة فقط وإنما إلى ذلك حُرِمَتْ في الأغلب رباطَ الزوجيّة وشَقِيَتْ بالطلاق وعاشت المرارة في الحياة. فأرجو أنّ أعزاءنا الطلاب وآمالنا الشباب سيتحلّون بصفة الطاعة ويجعلونها شعارًا لهم ودثارًا، ليحوزوا الحسنات بكلتا يديهم.
أبو أسامة نور
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1433 هـ = ديسمبر 2011م ، يناير 2012م ، العدد : 1-2 ، السنة : 36