دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ صلاح عبد الستار محمد الشهاوي (*)
جاء الإسلام بفضائله وآدابه الاجتماعية السامية فكانت التعزية إحدى هذه الآداب التي من شأنها توثيق الروابط الأخوية بين أعضاء المجتمع وتقوية الإحساس المشترك بينهم فلم يؤثر عند شعراء الجاهلية (الذين هم لسان المجتمع ووسائل إعلانه في ذلك الوقت) تعزية بعضهم لبعض في أشعارهم وإنما كان الشاعر يجتر آلامه ويعزي نفسه بنفسه بإظهار التجلد خشية شماتة الشامتين لذلك لم يعرف العرب في جاهليتهم إلا الرثاء حيث تحتل المراثي مساحة كبيرة من ديوان الشعر الجاهلي على حين لم تحظ التعازي من ذلك بأدنى نصيب فالرثاء في حقيقته بكاء على الميت وتحسر على فراقه، ومن أهم أهدافه تحفيز الهمم والعزائم علي الأخذ بثأره – إذا كان قتيلاً- أما التعازي فإنها على خلاف ذلك فهي تنطوي على تهوين المصيبة وتخفيفها على المصاب ودعوته إلى التغلب عليها بالصبر والسلوان.
والعزاء لغة : الصبر، والتعزية: التصبر، ومعناها الحمل علي الصبر بذكر ما يسلى المصاب وتخفيف حزنه ويهون عليه مصيبته(1).
حكمها: التعزية مستحبـة ولو كان ذمياً لما رواه ابن ماجه و البيهقى بسند صحيح عن عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مؤمن يعزى أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة».
كما روى الترمذي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: «من عزى ثكلى كسي من رداء الجنة».
وهى لا تستحب إلا مره واحدة وينبغي أن تكون التعزية لجميع أهل الميت وأقاربه الكبار والصغار والرجال والنساء (إلا إذا كانت شابة فاتنة لا معز لها إلا محارمها)(2).
والتعزية مستحبة عند العرب قبل الدفن وبعده وتكره بعد ثلاثة أيام لأن التعزية لتسكين القلب المصاب والغالب سكونه بعد ثلاثة أيام فلا يجدد الحزن – يقول الشافعي إنها لا تجوز بعد ثلاثة أيام إلا في صورتين وهما : إذا كان المُعَزِي أو المُعَزَى (صاحب المصيبة) غائباً حال الدفن فاتفق رجوعه بعد ثلاث –(3).
ألفاظها:
أما لفظ التعزية فلا حجر فيه، فبأي لفظ عزاه حصلت فإن اقتصر على اللفظ الوارد كان أفضل – روي البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت ابنة لي للنبي صلى الله عليه وسلم لتقول له «إن ابناً لي قبض فأتنا» فأرسل صلى الله عليه وسلم يقول «إن لله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمي فلتصبر وتحتسب». وأما جواب التعزية فيؤمن المعزي ويقول للمعزي: آجرك الله، وعند أحمد: «إن شاء صافح المعزي وإن شاء لم يصافح وإذا رأى الرجل شق ثوبه على المصيبة عزاه ولا يترك حقاً لباطل وإن نهاه فحسن»(4).
وتعزية المسلم في مصيبته بما يهونها عليه من سنن الإسلام كما قال على لعمر رضي الله عنهما:
إنا نعزيك لا أنا على ثقة
من الحياة ولكن سنة الدين
فلا المعزَي بباق بعد ميتة
والمعزِي وإن عاشا إلى حين
* نماذج من العزاء في التراث العربي الإسلامي:
يذكر أن أول من صافح هو ذو القرنين وأنه لما حضرته الوفاة أوصى أمه إذا هو مات أن تصنع طعاما وتجمع نساء أهل المدينة وتضعه بين أيديهن وتأذن لهن فيه إلا من كانت ثكلى فلا تأكل منه شيئاً. فلما فعلت ذلك لم تضع واحدة منهن يدها فيه فقالت لهن: سبحان الله كلكن ثكلى فقلن أي والله ما منا إلا من أثكلت فكان ذلك تسلية لأمه(5).
* سيدة من بني دينار تعزى الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد:
في طريق عودة المسلمين من أحد مروا على سيدة من بني دينار استشهد في المعركة أبوها وزوجها وأخوها فأسرعت نحوهم تسألهم عن أنباء المعركة فنعوا إليها الزوج والأب والأخ وإذا بها تسألهم في لهفة. وماذا فعل رسول الله؟ قالوا خيراً بحمد الله كما نحب، قالت أرونيه حتى أنظر إليه؟ ولبثوا بجوارها حتى اقترب الرسول فلما رأته أقبلت نحوه تقول: «كل مصيبة بعدك أمرها يهون». وكان ذلك أجمل عزاء للرسول في شهداء أحد وسيدهم حمزة.
وعندما حلت الكارثة بوفاة سيد الخلق – محمد صلى الله عليه وسلم – كان الشاعر – كعب بن مالك – من أوائل من رثاه وبكى فقده، فقال:
يا عين فابكي بدمع ذرَى
لخير البرية والمصطفي
وبكِّي الرسول وحُقَّ البكاء
عليه لدى الحرب عند اللقا
على خير من حملت ناقة
وأتقى البريَّة عند التُّقى
ويقول من قصيدة أخرى:
وباكية حرَّاء تُحزن بالبكا
وتلطمُ خدها والمقلدا
على هالك بعد النبي محمد
ولوعلمت لم تبك إلا محمداً
فُجعنا بخير الناس حياً وميتا
وأدناه من رب البرَّية مقعدا
وقال شاعر الإسلام – حسان بن ثابت- يرثي فقيد الثقلين أفضل ما خلق الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يعزي كل فاقد ويواسي كل واجد:
وما فقد الماضون مثل محمد
ولا مثله حتى القيامة يُفقدُ
ويقول آخر معزياً كل فاقد:
وإذا أصبت مصيبة تشجى بها
فاذكر مصابك بالنبي محمد
* نساء بني هاشم يعزين فاطمة رضي الله عنها:
عندما فاضت روح المصطفي صلى الله عليه وسلم إلى ربها أخذت فاطمة تقول في لوعة وأسى:
يا أبتاه أجاب رباً دعاه
يا أبتاه جنة الفردوس مأواه
وتوجهت جموع الشعراء والشاعرات بالعزاء إلى فاطمة فهي وحدها التي تركها النبي صلى الله عليه وسلم من ذريته وإن كان المسلمون جميعاً قد استشعروا اليتم بعده فهذه أروى بنت عبد المطلب ترثي ابن أخيها وتذكر فاطمة إذ تقول:
كأن على قلبي لذكر محمد
وما خفت من بعد النبي المكاويا
أفاطمة صلى الله رب محمد
على حدث أمس بيثرب ثاويا
أبا حسن فارقته وتركته
فبكَّ بحزن آخر الدهر شاجيا
وقالت صفية بنت عبد المطلب:
أفاطمة بكىَّ ولا تسأمي
بصحبك ما طلع الكوكب
هو المرء يبكي وحق البكاء
هو الماجــد السيد الطيب
فأوحشت الأرض من فقده
وأى البريــة لا ينكب؟
وقالت هند بنت أثاثة بن عباد بن عبد المطلب:
إلى رب البرية ذاك نشكو
فإن الله يعلم مـا أتيت
أفاطمة إنه قد هد ركني
وقد عظمت مصيبة من رزيت(6)
أما رثاء فاطمة لأبيها:
فقد فاق كل رثاء قيل فيه، فقد كان المسلمين جميعاً صادقين في حزنهم على الرسول صلى الله عليه وسلم في بكائهم عليه ورثائهم له ولكن حزن فاطمة كان مضاعفاً لقد فقد المسلمون فيه رسولهم الأمين وهاديهم العظيم ونبيهم الكريم ولكن فاطمة فقدت فيه ذلك وفقدت معه الأب العطوف والوالد المشفق والقلب الذي تفزع إليه في الملمات والصدر الذي يحس بما يعتمل في نفسها قبل أن تبوح به لذا ضربوا بها المثل في الحزن عليه صلى الله عليه وسلم وعدوها من البكائين الخمسة – بكى آدم ندما، وبكى نوح قومه، وبكي يعقوب ابنه يوسف، وبكي يحي خوف النار وبكت فاطمة أباها(7).
تقول فاطمة:
أغبر أفاق السماء وكورت
شمس النهار وأظلم العصران
فالأرض من بعد النبي كئيبة
أسفاً عليه كثيرة الرجفان
فليبكه الطود المعظم جوه
والبيت ذو الستار والأركان
يا خاتم الرسل المبارك صنوه
صلى عليك منزل القرآن(8).
* نماذج من التعزية:
عزى أعرابي رجلاً فقال: لا أراك الله بعد مصيبتك ما ينسيكها.
وقيل إن أعرابياً مات له ثلاثة بنين في يوم واحد فدفنهم وعاد إلى مجلسه فجعل يتحدث كأنه لم يفقد أحد فلاموه في ذلك فقال: «ليسوا في الموت ببديع ولا أنا في المصيبة بأوحد ولا هوى للجزع فعلام تلومونني».
وعزى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الأشعث بن قيس في ابنه فقال: «إن تحزن فقد استحقت ذلك منك الرحم وإن تصبر ففي الله خلف من كل هالك واعلم أنك إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت موزور، سرك وهو بلاء وفتنة و حَزَنك وهو ثواب ورحمة(9).
وقد ذكر ذلك أبو تمام في شعره فقال:
وقال علىّ في التعازى لأشعث
وخاف عليه بعض تلك المآثم
أتصبر للبلوى عزاء وخشية
فتؤجر أو تسلو سلو البهائم؟(10)
ويروى أنه مات أخو الحسن البصري فأجهش عليه بالبكاء فقال له رجل، وأنت يا أبا سعيد تبكي! فقال لقد بكي يعقوب يوسف حتى ابيضت عيناه فما عيره الله بذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما كان من العين والقلب فمن الله ومن الرحمة وما كان من اليد واللسان فمن القسوة والشيطان»(11).
وفي صدر الإسلام: جاءت التعازي الشعرية مقطوعات صغيرة بعضها مستقل وبعضها الآخر ضمن قصائد الرثاء.
من أمثلة التعازي المستقلة قول سعيد بن يربوع يعزى أخته في زوجها- شماس- بموته شهيداً في طاعة الله ومرافقته لحمزة أسد الله:
أقني حياءك في ستر وفى كرم
فإنما كان شماس من الناس
لا تقتلي النفس إذا حانت منيته
في طاعة الله يوم الروع والباس
قد كان حمزة ليث الله فاصطبري
فذاق يومئذ من كأس شماس
ومن أمثلة التعازي المشتركة قول عبد الله بن رواحة من قصيدة له رثي فيها حمزة وعزى بني هاشم في مصابهم ودعاهم إلى التحمل بالصبر يقول:
أصيب المسلمون به جميعاً
هناك وقد أصيب به الرسول
أبا يعلى لك الأركان هدّت
وأنت الماجـد البـــرّ
عليك سلام ربك في جنان
مخالطها نعيم لا يــزول
ألا يا هاشم الأخيار صبراً
فكل فعالكم حسن جميل
رسول الله مصطبر كريم
بأمر الله ينطق إذا يقول
وفي العصر الأموي: ظهرت القصيدة المتفردة بالتعزية إلى جانب المقطوعة المستقلة بهذا الموضوع، يقول أحد شعراء العصر الأموي معزياً ابن عم له في والده مستمدا تعزيته من حتمية الموت وحلوله بكل حي:
وأن أخاك الكاره الورد وارد
وأنك مرآى من أخيك ومسمع
وأنك لا تدرى بأية بلدة
صداك ولا عن أي جنبك تصدع
أتجزع إن نفس أثارها حمامها
فهلا التي بين جنبيك تـدفـع
وجمع بعض الشعراء في هذا العصر بين التعزية والتهنئة وأول من جمع بينهما – عبد الله بن همام السلولى- فقد ذكر صاحب العقد الفريد أن معاوية بن أبي سفيان مات ويزيد غائب ثم قدم من يومه ذاك فلم يقدم أحد على تعزيته حتى دخل عليه عبد الله بن همام فدعاه إلى الصبر على الرزية وحمد الله على العطية (الخلافة) فقال:
اصبر يزيد فقد فارقت دامقة
واشكر بلاء الذي بالملك حاباك
لا رزء أعظم في الأقوام نعمة
كما رزئت ولا عقبـى كعقبـاكا
أصبحت راعي أهل الدين كلهم
فأنت ترعــاهم والله يـرعاك
وفي معاوية الباقي لنا خلف
إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا(12)
ومن أمثله التعازي في العصر العباسي: ما كتبه – إبراهيم بن يسار – إلى – المأمون- يعزيه في أحد أبنائه «أما بعد فإن أحق من عرف الله فيما أخذ منه من عظم حق الله فيما بقاه له واعلم أن الماضي قبلك هو الباقي لك، وأن الباقي بعدك هو المأجور فيك وأن أجر الصابرين فيما يصابون له أعظم من النعمة عليهم فيما يعانون منه».
وفي زمن الخليفة المعتصم أصابت وصيف التركي والي الشام مصيبة، فركب إليه محمد بن عبد الملك الزيات فعزاه بأخبار وأشعار وأمثال. ثم أصيب الزيات بمصيبة فركب إليه وصيف وقال: يا أبا جعفر، أنا رجل أعجمي لا أدري ما أقول، ولكن انظر ما عزيتني به ذلك اليوم فعز به نفسك الآن. فاستظرف الناس كلامه(13).
وسُنة الله في خلقه: جمع ثم شتات ولقيا، ثم افتراق ثم سلوى. ومن هذين كل الحادثات. قال شوقي في وصف هذه السُنة التي تساوى فيها الخلائق معزياً نفسه:
خلقنا للحياة وللممات
ومن هذين كل الحادثات
ومن يولد يعش ويمت كأن لم
يمـر خيالـه بالكائنات
هي الدنيا.. قتال نحن فيه
مقاصد للحسام وللقنـاة
* * *
المـراجع
(1) مجمع اللغة العربية – معجم ألفاظ القرآن الكريم – الهيئة المصرية للكتاب الجزء الثاني ص40.
(2) السيد سابق – فقه السنة- المجلد الأول – دار الفتح للإعلام العربي ص 304.
(3) المصدر السابق ص 305 .
(4) المصدر السابق ص 306 .
(5) ابن عبد ربه – طبائع النساء- مكتبة القرآن ص 199 .
(6) أبي على القالى – الأمالى – التراث للجميع العدد 7 ص 243 .
(7) أبي الحسن الماوردي – أدب الدنيا والدين- مكتبة الأسرة 2009م سلسلة التراث ص373.
(8) المبرد – الفاضل- الهيئة المصرية العامة للكتاب- الجزء الأول ص64
(9) د/ حمزة الشيمي – آل بيت النبوة- ص 627.
(10) د/ بنت الشاطئ – بطلة كربلاء- دار الهلال ص 40.
(11) ابن سعد – طبقات الشعراء – الجزء الثالث ص 90.
(12) ابن عبد ربه – العقد الفريد- المجلد الأول – تحقيق يسري الغرباوى ص 61 .
(13) المنتخب من أدب العرب جمعه وشرحه: طه حسين وأحمد أمين وآخرون، سلسلة الذخائر 69 الهيئة العامة لقصور الثقافة 2001م ص321 .
والله الموفق
(*) مصر – طنطا – دمشيت.
هاتف محمول : 0109356970(002)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالقعدة – ذوالحجة 1432 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2011 م ، العدد : 12-11 ، السنة : 35