لمحات من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العطرة (5/5)

دراسات إسلامية

بقلم :  د. نزار بن عبد الكريم بن سلطان الحمداني

الفتح الأعظم :

          وفي العاشر من شهر رمضان لسنة ثمان من الهجرة توجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى مكة – زادها الله عزّا وشرفا – في عشرة آلاف صحابي – رضي الله عنهم – يريد فتحها وتطهيرها من رجس الشرك والوثنية. وكان السبب المباشر لهذا التحرك هو نقض قريش لمعاهدة صلح الحديبية المبرمة بين الجانبين في ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة؛ وكان من بنود هذا الصلح أن أي قبيلة تحالف أحد الفريقين تعتبر جزءًا من ذلك الفريق فيحترمها الفريق الآخر ولا يعتدي عليها، والاعتداء عليها يعتبر اعتداءً على حلفائها، فدخلت قبيلة خزاعة في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – ودخلت قبيلة بني بكر بن وائل في عهد قريش، ثم أن جماعة من بني بكر أغاروا في ليلة من ليالي شهر شعبان من السنة الثامنة الهجرية على خزاعة فأصابوا منهم رجالاً وأعانت قريش بني بكر بالرجال والسلاح، فكان هذا التصرف من قريش وحلفائها غدرًا محضًا ونقضاً صريحاً للعهد والميثاق الذي واثقوا به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فما كان من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا نصرة حلفائه قبيلة خزاعة التي استنجدت به وطلبت منه نصرتها، فسار إلى مكة مؤدّبًا وفاتحاً، فدخلها صباح الأربعاء السابع عشر من شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة. فطاف بالبيت المعظم، وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل – صلى الله عليه وسلم – يطعنها بقوس في يده ويقول: ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ (الإسراء:81) ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيْدُ﴾(1) (سبأ:49)، والأصنام تهوي على وجوهها.

          ثم خطب رسول الله – صلى الله عليه وسلم  – الناس، وكانت قريش قد ملأت المسجد الحرام صفوفًا ينتظرون ما هو صانع، فقال: لا إله إلا الله وحده لاشريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

          يا معشر قريش، إنَّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظُّمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب. ثم تلا قول الله – تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيرٌ﴾ الحجرات:13).

          ثم أعلن العفو العام عن القوم الذين ظلموه وأصحابه واضطهدوهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، فقال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟

          قالوا: خيرًا، أخٌ كريم وابن أخٍ كريم.

          قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: ﴿..لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ..﴾ (يوسف:92)؛ اِذهبوا فأنتم الطُّلقاء(2).

          وأقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمكة تسعة عشر يوماً يُقيم معالم الإسلام، ويرشد الناس إلى الخير، ويعلمهم أحكام هذا الدين العظيم.

          وهكذا كان فتح مكة هو الفتح الأعظم والمعركة الفاصلة التي قضت على كيان الوثنية قضاءً نهائيّاً ليس في مكة فحسب؛ بل في ربوع جزيرة العرب برمّتها.

          ثم رجع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد غزوة حُنين، وغزوة الطائف، وانتصاره على فلول الشرك، رجع إلى المدينة في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة.

الجبهة الخارجية:

          وبعد أن استقرت الجبهة الداخلية لصالح المسلمين، توجه النبي – صلى الله عليه وسلم – لتأمين الحدود الشمالية لجزيرة العرب؛ فقد كان الرومان يشكِّلون أكبر قوة عسكرية في الأرض آنذاك، وكانوا يهددون أمن وسلامة الدولة الإسلامية الفتية وكان المسلمون على وجل وتخوّف من هجوم مُرْتَقَب يشنه الرومان عليهم ولا سيما أن أنباء الاستعدادات الرومانية لمثل هذا الهجوم تترامى إلى المدينة. وما كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – ليذر الرومان يزحفون بجيوشهم على دار الإسلام، ففي زحفهم المرتقب هذا خطر عظيم على الدعوة إلى الله ونشر الإسلام؛ لذلك فقد قرر القيام بغزوة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومان عند الحدود الشمالية، فكانت غزوة تبوك في رجب من السنة التاسعة الهجرية.

          وما كاد الرومان يتسامعون بتحرك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى تبوك حتى قذف الله – عز وجل – في قلوبهم الرعب، و ولّوا الأدبار، متفرقين داخل بلادهم.

          ثم جاء عظماء الروم إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مصالحين مسالمين معطين الجزية عن يد وهم صاغرون.

          ثم رجع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى مدينته بجنده الصُّدُق البواسل، مظفّرين منصورين(3).

          وكان لهذه الغزوة أعظم أثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويته على جزيرة العرب، وأيقن الناس أن لاقوة لأحد في هذه الجزيرة سوى قوة الإسلام وأهله(4).

الوفود .. التوحيد والوحدة :

          وفي السنة التاسعة والعاشرة من الهجرة جاءت الوفود من أنحاء حزيرة العرب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ممثلين قبائلهم في إعلان إسلامهم ومبايعتهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على السمع والطاعة في المنشط والمَكْرَه.

          وبذلك توحّد العرب في جزيرتهم تحت راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وتخلّصوا من الوهم والخرافة، ومن العبودية والرق، ومن الفساد والتعفُّن، ومن القذارة والإنحلال؛ بل وتخلص المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان، ومن التفكُّك والاِنهيار، ومن فوارق الطبقات، واستبداد الحكّام، واستذلال الكُهّان.

          واستمرت الدعوة الإسلامية الغراء ببناء العالم على أُسس من العفة والنظافة، والإيجابية والإعمار، والحرية والتجدد، والمعرفة واليقين، والثقة والإيمان والعدالة والكرامة، والعمل الدائب لتنمية الحياة وترقيتها، وإعطاء كل ذي حق حقه فيها(5).

كتبه إلى الملوك والعظماء :

          وكتب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى الملوك والعظماء وأرسل بكتبه رسله إليهم يدعوهم فيها إلى الهدى ودين الحق؛ فكتب إلى النجاشي أصمحة بن أبجر ملك الحبشة فأسلم، كما كتب إلى المقوقس جريج بن متّى ملك مصر فتوقّف ولم يُسلم، وأهدى إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – جاريتين: مارية وسيرين، أما مارية فقد اتخذها سريةً له، و ولدت له إبراهيم، وأما سيرين فأعطاها صاحبه: حسَّان بن ثابت الأنصاري.

          وكتب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام فلما قرأ كسرى الكتاب مزّقه، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين بلغه ذلك: مزّق الله ملكه.

          وقد كان كما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حيث ثار عليه ابنه شيرويه فقتل أباه، وأخذ الملك لنفسه.

          وكتب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى هرقل ملك الروم فلما قرأ الكتاب وأيقن أنه رسول الله – وكان على علم بأن نبيًا سيبعث وقد أظل زمانه – قال: لو أنّي أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءَه، ولو كنت عنده لغسّلت عن قدميه.

          وكتب – عليه الصلاة والسلام – إلى المنذر بن ساوى حاكم البحرين فأسلم وأقرّه عاملاً على البحرين.

          كما كتب إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة ولم يسلم، فدعا عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – فهلك.

          وكتب إلى الحارث بن أبي شمر الغسّاني صاحب دمشق، فأبى ولم يسلم. كما بعث بكتاب إلى جيفر وعياد ابني الجُلُندي الأزديين، مَلِكَيْ عُمان، فأسلما وصدّقا النبي – صلى الله عليه وسلم – (6).

حجة الوداع :

          وما إن اطمأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى استقرار الدين وإلى تمكّن عقيدة التوحيد في قلوب المؤمنين، حتى انتابه شعور وإحساس خفيان أن مهمته قد انتهت وأنه على وشك اللحاق بالرفيق الأعلى.

          وبناءً على هذا فقد قدّر الله – عز وجل – لنبيه في هذه السنة العاشرة أن يحج البيت ويجعل ذلك خاتمةً لأعماله الجليلة وعباداته المنيفة، مجتمعًا بالمسلمين معلّماً إياهم مهمات هذا الدين، ومشهدًا إياهم على تبليغه – صلى الله عليه وسلم – رسالة ربه.

          وفي يوم عرفة التاسع من ذي الحجة من العام العاشر للهجرة ألقى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خطبته الشهيرة، وقد التفَّ حوله ما يقارب المائة والخمسين ألفاً من المسلمين فقال:

          (أيها الناس: اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا(7). إنَّ دماءَكم، وأموالكم حرامٌ عليكم كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.

          ألا كلُّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوعٌ، ودماء الجاهلية موضوعة، وإنَّ أوّل دمٍ أضع من دمائنا دم ابن ربيعة(8) بن الحارث، كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هُذَيْل.

          وربا الجاهلية موضوع؛ وأوّل رباً أضع ربانا: ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوعٌ كُلُّه.

          فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله(9). ولكم عليهنَّ أن لا يُوطئن فُرُشكم أحدًا تكرهونه(10)؛ فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربًا غير مبرح(11).

          وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله.

          وأنتم تُسألون عنّي، فما أنتم قائلون؟).

          قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.

          فقال – بإِصبعه السبَّابة، يرفعها إلى السماء وينكُتها إلى الناس – : (اللهم اشهد، الله اشهد) ثلاث مرات(12).

          فقضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الحجّ وقد أراهم مناسكهم، وأعلمهم ما فرض الله عليه من حجّهم، وما أحل لهم، وما حرّم عليهم، فكانت حجة البلاغ، وحجة الوداع، وذلك أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يحجّ بعدها(13).

          ثم قفل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر. وضرب على الناس بعثًا إلى الشام، وأمّر عليهم أُسامة بن زيد بن حارثة مولاه، وهو آخر بعث بعثه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (14).

          وكان جميع ما غزا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بنفسه سبعًا وعشرين غزوة(15) أما بعوثه وسراياه التي لم يخرج فيها بنفسه فثمان وثلاثون(16). وعليه يكون مجموع العمليات الجهادية التي قام بها المسلمون على عهد نبيهم – صلى الله عليه وسلم – في سني ما بعد الهجرة خمساً وستين عمليةً.

وفاته – – ، المقدمات والخاتمة:

          وفي أواخر صفر وأوائل شهر ربيع الأول من العام الحادي عشر للهجرة انتابته – صلى الله عليه وسلم – حمّى شديدة استمرت معه ثلاثة عشر يومًا، وقبل وفاته – صلى الله عليه وسلم – بخمسة أيام خطب الناس، فقال: (لعنةُ الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وقال: (لاتتخذوا قبري وثناً يُعْبَدُ).

          وعرض نفسه – صلى الله عليه وسلم – على الناس قائلاً: (من كنتُ جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنتُ شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه) ثم قال: (إنَّ عبدًا خيّره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاءَ، وبين ما عنده، فاختار ما عنده). فبكى أبوبكر – رضي الله عنه – وقال: فديناك بآبائنا وأمّهاتنا(17). فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يُخبرُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن عبد خيّره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأُمّهاتنا!.

          قال أبو سعيد الخدري: فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو المخيَّر، وكان أبوبكر أعلمنا.

          ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : (إنّ من أمنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله: أبابكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أُخُوَّة الإسلام ومودته، لا يبقينَّ في المسجد بابٌ إلا سُدَّ(18)، إلاّ باب أبي بكر)(19).

          وقبل وفاته – صلى الله عليه وسلم – أوصى بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب(20). وقالت عائشة – رضي الله عنها – : كان آخر ما عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن قال: لايُترك بجزيرة العرب دينان(21).

          وقبل وفاته بيوم، خرج – صلى الله عليه وسلم – من كل ما يملك، فأعتق غلمانه، وتصدّق بسبعة دنانير كانت عنده، و وهب للمسلمين أسلحته. وكانت درعه – صلى الله عليه وسلم – مرهونةً عند يهودي بثلاثين صاعا(22) من الشعير(23).

          ولمّا اشتد به – صلى الله عليه وسلم – وجعه استأذن نساءه في أن يُمرَّض في بيت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر فأذِنَّ له(24).

          فلما كان يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول للسنة الحادية عشرة من الهجرة(25) (632م)(26) – وهو اليوم الذي قبض فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عاصبًا رأسَه إلى الصبح، وأبوبكر يصلي بالناس، فقام على باب عائشة، فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتهم برسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين رأوه فرحًا به، وتفرّجوا(27)، فعرف أبوبكر أن الناس لم يصنعوا ذلك إلا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فنكص عن مُصلاّه، فدفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ظهره، وقال: (صَلِّ بالناس)، وجلس إلى جنبه، فصلّى قاعدًا عن يمين أبي بكر(28).

          فلما فرغ من الصلاة أقبل على الناس قائلاً: (أيها الناس، سُعِّرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني – والله – ما تمسَّكون عليَّ بشيء، إني لم أُحِلَّ إلا ما أحلَّ القرآن، ولم أُحرِّم إلا ما حرّم القرآن)(29).

          ثم رجع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى بيت عائشة وبدأ الاحتضار فأسندته عائشة إليها، وكانت ابنته فاطمة – رضي الله عنها – تقول: واكرب أباه، فقال لها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم(30).

          قالت عائشة: (كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول – وهو صحيح – : إنه لم يُقبض نبيٌّ حتى يرى مقعده من الجنّة، ثم يُخيّر. فلما نزل به – ورأسه على فخذي – غشي عليه، ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت، ثم قال: اللهمَّ الرفيق الأعلى..)(31).

          فلما مات – صلى الله عليه وسلم- قالت فاطمة – عليها السلام– : يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه(32).

          لقد كانت وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – من أعظم المصائب وأفدحها وقعًا على المسلمين حتى أن العقلاء منهم قد طاشت عقولهم فلم يُحسن تفكيرًا، وبعضهم عقدت ألسنتهم فما استطاعوا كلامًا، وبعضهم أقعد فما استطاع قيامًا(33)، وهم في ذلك معذورون غير ملومين، كيف وقد فقدوا بوفاته – صلى الله عليه وسلم – نزولَ الوحي الذي هو الهدى والنور والحياة، وفقدوا بفقده القيادةَ الهادية، والرعايةَ الحانية، والرحمةَ الدانية، فقدوا بفقده الظلَّ الوارف، والركنَ الآمن، والنعمةَ السابغة، المستغفر لهم إذا أذنبوا، والمصلي عليهم إذا حتاجوا، المستجاب استغفاره والمتقبل دعاؤه. فصلاة ربي وسلامه وتبريكاته الدائمة المتلازمة عليه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين إلى يوم الدين.

          أقبل أبوبكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر، وعمر يكلم الناس نافيًا وفاةَ النبي – صلى الله عليه وسلم -، زاعمًا أنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران – فقد غاب عن قومه أربعين ليلةً، ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات – وأنه راجع كما رجع موسى، واصفًا من زعم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد مات بالنفاق متوعدًا إياهم – إذا رجع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقطع أيديهم وأرجلهم(34)؛ أقبل أبوبكر فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بيت عائشة، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – مسجّى(35) في ناحية البيت، عليه بُردٌ حَبرة(36)، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم أكبَّ عليه فقبّله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها(37) ثم لن تصيبك بعدها موتةٌ أبدًا. ثم ردّ البُرد على وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم –(38).

          ثم خرج أبوبكر ولازال عمر يكلّم الناس، فقال: على رسلك ياعمر، أنصت، فأبى إلا أن يتكلّم، فلما رآه أبوبكر لايُنصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر؛ فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال:

          أيها الناس، إنه من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لايموت، قال الله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران: 144).

          قال أبوهريرة وابن عباس: فوالله لكأنَّ الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبوبكر يومئذ، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها.

          قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبابكر تلاها فعقرت حتى ما تقلُّني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعرفت أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد مات(39).

          ويوم الثلاثاء وبعد أن بويع أبوبكر الصديق – رضي الله عنه – بالخلافة، أقبل الناس على جهاز رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فولي غسله علي بن أبي طالب يسنده إلى صدره، والعباس بن عبد المطلب وولداه الفضل وقثم يقلّبونه معه، وأُسامة بن زيد وشُقران مولى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصبّان الماء عليه، وعليه صلى الله عليه وسلم قميصه يدلكه عليٌّ من ورائه لا يفضي بيده إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهو يقول: بأبي أنت وأمي، ما أطيبك حيًّا وميتًا(40).

          فلما فُرغ من غسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتكفينه دخل الناس على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصلون عليه أرسالاً، دخل الرجال حتى إذا فرغوا أُدخل النساء، حتى إذا فرغن أُدخل الصبيان، وصلى الناس على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دون أن يؤمهم أحد(41).

          وحُفر لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – لحدٌ تحت فراشه الذي توفي عليه في بيت أم المؤمنين عائشة، لقول أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – : إني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (ما قُبض نبيٌّ إلا دُفن حيث يُقبض)(41).

          ودُفن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جوف الليل من ليلة الأربعــاء(42)، فلما دفن قالت فاطمة – عليها السلام – : أ طابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التراب(43)؟

          لقد عظمت بوفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مصيبة المسلمين، فكانت عائشة تقول: لما توفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، لفقد نبيهم – صلى الله عليه وسلم – حتى جمعهم الله على أبي بكر(44).

          وهكذا انتهت حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الدنيا بعد أن أحياها بدين الله: الإسلام، وعرّفها بالمُثُل العليا، والقيم الفضلى، والأخلاق الكريمة، و وضع الناس على جادة الخير والسعادة.

الأنموذج الفريد:

          نعم، إن رسول الله محمدًا – صلى الله عليه وسلم – كان أنموذجًا فريدًا للإنسان الكامل في خَلْقِهِ وخُلُقِه وسلوكه الخاص والعام. إنه – صلى الله عليه وسلم – أرسى قواعد المجتمع المثالي، والدولة المثالية، كما كان في نفسه أنموذجًا مرموقًا للإنسان المثالي في علاقته بأزواجه وأسرته وبأصحابه ومجتمعه، كيف وقد أدّبه الله وربّاه، فأحسن تأديبه وتربيته.

          لذلك كله أمر الله – عز وجل – بطاعته في مواضع متعددةً من كتابه العزيز – كما سنذكر ذلك في وجوب طاعته – إن شاء الله – بل جعله هو الأسوة الحسنة والقدوة المستحسنة فقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب:21).

          إذن ما من إنسان يتطلع إلى لقاء ربه بقلب سليم، ويطمح إلى الفوز بجنات النعيم في الآخرة، إلا وجب عليه التأسي والاقتداء برسول الله محمد – صلى الله عليه وسلم – فيما يأتي ويذر من قول وعمل.

عقيدة الاستعلاء:

          والإسلام الذي بعث الله – عز وجل – به محمدًا – صلى الله عليه وسلم – (عقيدة استعلاء، من أخصِّ خصائصها أنها تبعث في روح المؤمن بها إحساس العزة من غير كبرٍ، وروح الثقة في غير اغترار، وشعور الاطمئنان في غير تواكل، وأنها تُشعر المسلمين بالتبعية الإنسانية الملقاة على كواهلهم، تبعة الوصاية على هذه البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، وتبعة القيادة في هذه الأرض للقطعان «البشرية» الضالة، وهدايتها إلى الدين القيّم، والطريق السَّوي، وإخراجها من الظلمات إلى النور بما آتاهم الله من نور الهدى والفرقان: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عِنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله﴾ (آل عمران:110)، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيْدًا﴾ (البقرة:143)(45).

*  *  *

الهوامش:

  • انظر صحيح البخاري «الفتح»: 8/15، ح: 4287، باب غزوة الفتح في رمضان – كتاب المغازي – .
  • انظر سيرة ابن هشام: 2/412.
  • واستغرقت هذه الغزوة خمسين يوماً، أقام منهاعشرين يومًا في تبوك، والأيام البواقي قضاها في طريقه بين المدينة وتبوك ذهابًا وإيابًا. «انظر الرحيق: 491».
  • انظر الرحيق المختوم: 492.
  • انظر: مقدمة «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» لأبي الحسن الندوي، التي كتبها الأستاذ سيد قطب: 19. وانظر الرحيق المختوم: 514.
  • انظر سيرة ابن هشام: 2/607.
  • المرجع السابق: 2/603.
  • هو إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان طفلاً يحبو  بين البيوت فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبني ليث بن بكر «النووي على مسلم: 8/182-183».
  • أي قوله تعالى: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ﴾ (النساء:3)، والمراد بإباحة الله. «انظر النووي على مسلم: 8/183».
  • أي لا يسمحن بدخول أحد إلى بيت الرجل ممن يكره دخوله ولو كان محرمًا لها. «انظر شرح النووي: 8/183».
  • الضرب المبرّح: الشديد الشاق. وفي الحديث جواز ضربها للتأديب.
  • صحيح مسلم: 2/889-890؛ وانظر سيرة ابن هشام: 2/603-605؛ والرحيق المختوم: 516-517.
  • سيرة ابن هشام: 2/606.
  • المرجع السابق: 2/606 و 641-642.
  • انظر أسماءها مجملة في المرجع السابق: 2/608.
  • انظر أسماءها مجملة في المرجع السابق: 2/609.
  • وفي السيرة: 2/649: «.. بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا».
  • وكان بعض الصحابة – رضي الله عنهم – قد فتحوا لأنفسهم أبوابًا تخصهم في المسجد يدخلون من بيوتهم إلى المسجد منها.
  • الرحيق المختوم: 524. وانظر السيرة: 2/649. ومشكاة المصابيح للتبريزي بتحقيق الألباني: 3/1697، وقال: متفق عليه.
  • انظر الرحيق: 525.
  • السيرة: 665.
  • الصاع = 2176 غراماً، فالثلاثون صاعاً = 280و65 كيلا.
  • الرحيق: 526. وانظر البخاري «فتح الباري»: 8/148 «حديث: 4461»، و151 «ح:4467».
  • السيرة: 2/643.
  • الرحيق: 528.
  • المنجد «الأعلام»: 46 و 637.
  • في رواية أنس: فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم؛ قال أنس: فتبسّم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما رأى من هيئتهم في صلاتهم. «السيرة: 2/653»؛ وانظر البخاري «فتح الباري»: 8/143.
  • قال السهيلي: هذا الحديث مرسل في السيرة، والمعروف في الصحاح أن أبابكر كان يصلي بصلاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والناس يصلّون بصلاة أبي بكر. «الروض الأنف: 4/268».
  • سيرة ابن هشام: 2/653-654.
  • البخاري «الفتح»: 8/149، ح: 4462.
  • المرجع السابق: 8/136، ح: 4437 «باب مرض النبي – صلى الله عليه وسلم – ووفاته» و 150، ح: 4463 «باب آخر ما تكلم به النبي – صلى الله عليه وسلم -».
  • البخاري «الفتح: 8/149، ح:4462.
  • روي عن عائشة وغيرها من الصحابة – رضي الله عنهم – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما قُبض، وارتفعت الرنّة، وسجّى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الملائكة، دهش الناس، وطاشت عقولهم، وأفحموا، واختلطوا، فمنهم من خبل، ومنهم من أصمت، ومنهم من أقعد إلى الأرض، فكان عمر ممن خبل وجعل يصيح، ويحلف: ما مات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان ممن أخرس عثمان بن عفان، حتى جعل يُذهب به ويجاء، ولا يستطيع كلاماً، وكان ممن أقعد علي – رضي الله عنه – فلم يستطع حراكاً، وأما عبد الله بن أنيس فأضنى حتى مات كمدًا. «الروض الأنف: 4/272؛ سبل الهدى والرشاد: 12/274».
  • انظر سيرة ابن هشام: 2/655.
  • مسجّى: مغطّى.
  • نوع من ثياب اليمن.
  • في البخاري: فقد مُتّها.
  • السيرة: 2/655-656؛ البخاري: 145، ح: 4452؛ سبل الهدى والرشاد: 12/298-299.
  • سيرة ابن هشام: 2/655-656؛ البخاري «الفتح»: 8/145، ح: 4452 و 4454 «باب مرض النبي – صلى الله عليه وسلم – و وفاته؛ سبل الهدى والرشاد: 12/300-301.
  • السيرة: 2/662.
  • المرجع السابق: 2/663.
  • السيرة: 2/664.
  • البخاري «الفتح»: 8/149، ح: 149.
  • السيرة: 2/665.
  • من مقدمة الأستاذ سيد قطب لكتاب «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»، لأبي الحسن الندوي: 17.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان وشوال 1432هـ = أغسطس- سبتمبر 2011م ، العدد : 9-10 ، السنة : 35

Related Posts