دراسات إسلامية

بقلم :  الأستاذة مه جبين أختر(*)

          القرآن كتاب أنزل لإصلاح حياة البشر الشخصية الفردية والاجتماعية والحضارية، فلا يمكن أن نحدد وصفه بصنف ونوع من العلوم والفنون مثلا، إنه كتاب قانون وليس كتاب القانون فقط، وكتاب لغة وأدب وليس كتاب فن أو فنون للغة والآداب فقط، وهو كتاب أمثال وحِكم وليس كتاب الأمثال والحكم فقط؛ بل إنه في وقت واحد كتاب لغة وأدب وبلاغة وقانون وفلسفة وحكمة وأمثال وعلوم نفس وأحياء، وكيمياء وفيزياء ورياضي وتاريخ إلى غيرها من جميع العلوم والصنائع النافعة للبشر. ونود ههنا أن نذكر بعض الأمثال والحكم المذكورة في القرآن الكريم لنعرف حكمة بيانها، ونستفيد ببعض ما يفيد هذا الكتاب الإلهي من العلوم النافعة للإنسان في الحياة الدنيوية والأخروية.

          والجدير بالذكر أن الأمثال المذكورة في القرآن الكريم والسنة المطهرة ليست كأمثال يرددها عامة الناس ويذكرها الأدباء والشعراء في منثوراتهم وأبياتهم المشتملة على القوافي والأسجاع والمتخيلات والأكاذيب؛ بل إنها أمثال محتوية على الحكمة البالغة والمنطق والحقيقة العلمية الصادقة، فعلى سبيل المثال قال الرسول صلى الله عليه وسلم حين قام على جبل الصفا لنشر دعوة الإسلام في قريش في أوائل قيامه بتلك الدعوة والإعلان عنها: يا معشر قريش لو أخبركم بأن وراء هذا الجبل جيشاً يريد أن يهاجمكم بغتة فهل تصدقونني أو تكذبونني؟ فرد عليه جميع الحضور من قبائل قريش وغيرهم وعلى رأسهم عمه أبولهب بن عبد المطلب: سنصدقك في ذلك النبأ بأننا لم نجرب عليك الكذب قط، وحين أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هناك جيوش إبليس تهاجمكم وتفسد عقيدتكم فأصبحتم مشركين وستدخلون جهنم إذا لم تتوبوا من عقيدة الشرك ولم تقبلوا دعوة الإسلام والتوحيد فإن التوحيد والوحدانية الإلهية هي أساس الحياة والنجاة، وإلا فستنهزمون بهجمات إبليس وتدخلون الجحيم دون ريب وشك. وعند ذلك صرخ أبولهب وقال: تبًا لك يا محمد ألهذا جمعتنا؟ وأصبح من أكبر أعداء النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام بعد ذلك.

          والجدير بالملاحظة أن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ حديثه بافتراض مثل بقوله لو قلت أو لو أخبرت بأن وراء هذا الجبل جيشاً، فلم يكن قوله ذلك مجرد افتراض أو مجرد بيان مثل؛ بل إنه كان حقيقة اتضحت في هذه الأيام؛ لأن جيوش أعداء الإسلام أي جيوش الشيطان قد وصلت إلى جزيرة العرب ومن أوضح أهدافهم ومطالبهم فيها الهجوم على المسلمين وعلى مقدساتهم الدينية، كأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد شاهدها في تلك الأيام فأخبرهم قائلاً لهم: لو قلت لكم وأخبرتكم بأن وراء هذا الجبل جيشاً واقفاً يريد الهجوم عليكم…الخ، وهكذا جميع الأمثال والحكم المذكورة في القرآن تعنى معاني صادقة علميًّا ومنطقيًّا.

          وقد قسم علماء التفسير والبيان الأمثال المذكورة في القرآن على ثلاثة أنواع؛ الأمثال المصرحة الواضحة، والأمثال الكامنة الخفية، والأمثال المرسلة دون استخدام لفظة المثل وأداة التشبيه.

          فمن بين الأمثال الصريحة التي صرح فيها بلفظ المثل أو ما يدل على التشبيه قوله تعالى في المنافقين: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة:17-20)

          ففي هذه الآيات ضرب الله للمنافقين مثلين مثلاً ناريًا في قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الذِي استوقد نارًا…﴾ لما في النار من مادة النور، ومثلاً مائيًا في قوله ﴿كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ…﴾ لما في الماء من مادة الحياة، وقد نزل الوحي من السماء لاستنارة القلوب وحياتها، وذكر الله حظ المنافقين في الحالين، فهم بمنزلة من استوقد نارًا للإضاءة والنفع حيث انتفعوا ماديـًّا بالدخول في الإسلام؛ ولكن لم يكن لهم أثر نوري في قلوبهم، فذهب الله بما في النار من الإضاءة ﴿ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ﴾ وأبقى ما فيها من الإحراق، وهذا مثلهم الناري.

          وفي المثل المائي حولهم، شبههم بحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق، فخارت قواه ووضع إصبعيه في أذنيه وغمض عينيه خوفاً من صاعقة تصيبه؛ لأن القرآن بزواجره وأوامره ونواهيه وخطابه نزل عليهم نزول الصواعق.

          وأيضاً هناك نقطة أخرى في هذين المثلين للدراسة. وذلك أن المنافقين أنواع أو نوعان على الأقل؛ نوع قد ذهب الله بنورهم نهائيًّا وهم أهل الكتاب أو المنافقون من بين المسلمين الذين رجعوا إلى كفرهم بعد أن أسلموا، فطبع الله على قلوبهم فلا يرجىٰ عودتهم إلى الإيمان مستقبلاً فهم صم بكم عمي لايرجعون، ومنهم مذبذبون (كُلَّمَا أَضَاءَلَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وإِذَا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) يعني لم يذهب الله بنورهم نهائيًا ولم يطبع على قلوبهم فيمكن لهم أن يتوبوا ويتم لهم التوفيق للحق من الله تعالى، ولكن إذا استمروا على ذلك الوضع لفترة يمكن أن يطبع الله على قلوبهم، ولذلك حذرهم وقال عنهم ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وذلك النوع الثاني أقل درجة في النفاق ولم يتحول إلى الكفر نهائيًّا حتى الآن.

          وذكر الله المثلين – الناري والمائي – في سورة الرعد للحق والباطل فقال تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ﴾ (الرعد:17).

          شبه الله الوحي الذي أنزله من السماء لحياة القلوب بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات، وشبه القلوب بالأودية، والسيل إذا جرى في الأودية احتمل زبدًا وغثاءً، فكذلك الهدى والعلم إذا سرى في القلوب أثار ما فيها من الشهوات ليذهب بها، وهذا هو المثل المائي في قوله ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً…﴾ وهكذا يضرب الحق والباطل، وذكر المثل الناري في قوله ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ…﴾ فالمعادن من ذهب أوفضة أو نحاس أو حديد عند سكبها تخرج النار ما فيها من الخبث، وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيذهب جفاء. فكذلك الشهوات يطرحها قلب المؤمن ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد وهذا الخبث.

          ومن الأمثال الكامنة التي لم يصرح فيها بلفظ التمثيل ولكنها تدل على معان رائعة في الإيجاز، وهي تتضمن كثيرًا من معاني الأمثال الرائجة المترددة بين عامة الناس والجماهير، مثلاً هناك قول ومثل مشهور ﴿خَيرُ الْأَمورِ أَوْسَطُهَا﴾ فيتضمن مثل هذا المعنى قوله تعالى في سورة البقرة ﴿لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ/البقرة:68﴾ وقوله تعالى في النفقة ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَفْتُرُوا، وَكَانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوَامًا/ الفرقان:67﴾ وقوله تعالى في الصلاة ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصلوٰتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً/ الإسراء:110) وقوله تعالى في الإنفاق أيضًا ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ/ الإسراء:29﴾ وهكذا هناك مثل سائر بين الناس (ليس الخبرُ كالمُعَايَنَةِ)  فيتضمن هذا المعنى قوله تعالى حول سيدنا إبراهيم عليه السلام ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَىٰ وَلٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي/ البقرة:260﴾. وهناك مثل سائر بين الجماهير وهو من حديث النبي صلى الله عليه وسلم (كما تدين تدان) وفي ذلك المعنى قوله تعالى ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوْءًا يُجْزَ بِهِ/ النساء:123﴾ وهكذا أمثال كثيرة وأقوال عديدة في القرآن الكريم تتضمن معاني الأمثال والحِكم الشهيرة بين العامة والخاصة من الناس.

          كما أن هناك أجزاء آيات كثيرة للقرآن أصبحت أمثالاً سائرة بين الناس من المسلمين وغيرهم، وهذا هو النوع الثالث من الأمثال القرآنية، ويقال لها الأمثال المرسلة، ومن أمثلتها مايأتي:

  • (اَلآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ/ يوسف:51)
  • (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُوْنِ اللهِ كَاشِفَةٌ/ النجم:58)
  • (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ/ يوسف:41)
  • (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ/ هود:81)
  • (وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ/ فاطر:43)
  • (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ/ الإسراء:74)
  • –               (وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ/ القرة:216)
  • –               (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِيْنَةٌ/ المدثر:38)
  • –               (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الْإِحْسَان/ الرحمن:60)
  • –               (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فِرِحُونَ/ المؤمنون:53)
  • –               (صَغُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ/الحج:73)
  • –               (لاَ يَسْتَوي الخَبِيْثُ وَالطَّيِّبُ/ المائدة:100)
  • –               (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيْرَةً بِإِذْنِ اللهِ/ البقرة:249)
  • –               (تَحْسبَهُمْ جَمِيْعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ/الحشر:14) إلى غير ذلك من الأمثال.

          وهناك علماء يرون أن استخدام هذه الكلم والقطع القرآنية كالأمثال في حديث الناس ليس جائزًا، وبالأخص في مواقع الهزل والضحك ومواضع الهجو والإساءة، وهذا الرأي الأخير قد اتفق العلماء على ذلك بأنه لايجوز استخدام الآيات القرآنية في مواضع الهزل والهجو والإساءة.

          وقد أوضحتُ الفارق بين الأمثال المذكورة في القرآن والسنة وبين الأمثال العادية السائرة على ألسنة عامة الناس المذكورة في دواوين الشعراء والكتب الأدبية بأن أمثال القرآن والسنة حقائق صادقة علمية بينما أمثال اللغويين والشعراء والأدباء أمثال عادية تحتمل الصدق والكذب والخطأ والصواب، ولا تكون حاملة للحق الكامل.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان وشوال 1432هـ = أغسطس- سبتمبر 2011م ، العدد : 9-10 ، السنة : 35


(*)       رئيس قسم اللغة العربية وآدابها الجامعة العثمانية، حيدر آباد، الهند.

Related Posts