دراسات إسلامية
بقلم : أ. د. محمد السيد علي بلاسي (*)
عضو اتحاد الكتاب
يُعرّف العلماء تحقيق كتب التراث بأنّه : «إخراج الكتاب على أسسٍ صحيحةٍ محكمةٍ من التحقيق العلمي في عنوانه، واسم مؤلفه، ونسبته إليه، وتحريره من التصحيف والتحريف، والخطأ، والنقص، والزيادة».
أو «إخراجه بصورة مطابقة لأصل المؤلف أو الأصل الصحيح الموثوق إذا فقدت نسخة المؤلف»(1).
والتحقيق أمرٌ جليلٌ يحتاج من الجهد والعناية إلى أكثر ما يحتاج إليه التأليف ، حتى لقد قال الجاحظ – قديماً- : «ولربما أراد مؤلّف الكتاب أن يصلح تصحيفاً أو كلمة ساقطة ، فيكون إنشاء عشر ورقات من حُرِّ اللفظ وشرف المعاني ، أيسر عليه من إتمام ذلك النقص حتى يردّه إلى موضعه من اتصال الكلام»(2).
ومن المعلوم أن ما خلّفه علماؤنا المتقدّمون من المخطوطات يُعَدُّ بالملايين، وما زال معظم هذه المخطوطات قابعاً في مراكز المخطوطات والمكتبات، يحتاج لمن ينفض عنه الغبار ويبعث فيه الحياة من جديد. فهذا التراث الضخم والذي بلغت عِدَّته 262 مليون مجلد مخطوط كما أحصيت حتى سنة 1948م، ويقال بعد ذلك إنها أحصيت بمئات الملايين(3)!
وإن أنس فلن تلك الصرخــة التي فجّرها الدكتور المقدسي في المؤتمر الافتتاحي لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن ، في ديسمبر 1991م ، حين قال : «لا شك أن الإبداع الفكري للتراث الإسلامي هو حصيلة نتاج قرون طويلة في مجال الآداب، والعلوم، والفنون. وذلك النتاج لا يزال في أغلبه مخطوطاً، لم يحظ بالنشر منه سوى 15% . وهذا الجزء المطبوع أغلبه غير محقق، ولا يزال هذا التراث الحضاري الهائل والذي يتراوح تقديره بين المليون والثلاثة ملايين مخطوط، متناثراً في كل أرجاء المعمورة ، وأغلبه غير مفهرس، أو مفهرس فهرسة غير صحيحة. ولا يزال الجزء الأكبر منه مملوكاً ملكية خاصة؛ وبالتالي لا يتيسر للسواد الأعظم من الباحثين الاطلاع عليه. كذلك فإن جزءاً كبيراً منه وإن كان محفوظاً فإنه محفوظ بشكل لا يفي بالغرض؛ فهو معرض للتلف بفعل الحرارة، والرطوبة، والأرضة. والجزء المتبقي منه هو في طريقه إلى الانقراض والتلف تدريجياً !».
هذا؛ وهناك صيحات يرددها دعاة الاستعمار الثقافي يبغون بها أن ننبذ هذا التراث ونطرحه وراءنا ظهرياً.
ونسوا أن هذا التراث الضخم الذي آل إلينا من أسلافنا صانعي الثقافة الإسلامية العربية جدير بأن نقف أمامه وقفة الإكبار والإجلال ثم نسمو برؤوسنا في اعتزاز وشعور صادق بالفخر والغبطة والكبرياء .
كم لهم من محاولات يائسة، يدورون بها ذات اليمين وذات الشمال؛ كي يهدموا هذا الصرح، ولكن تلك المحاولات لم تجد لها صدى، إلا عند من أمكنهم أن يضفوا على أنفسهم ظل الاستعباد الثقافي، من ضعاف القلوب وأرقاء التفكير … وهم فيما بين ذلك يحاولون أن يضعوا من ثقتنا في هذا التراث الضخم؛ فلا يزالون يوجهون إليه المطاعن والمثالب، ويهونون من شأنه تهوينًا .
إن كل فكرة علمية جديرة بالاحترام؛ ولكن الفكرة المغرضة التي يبعثها الشر أو المنفعة الذاتية الصرفة، فكرة لا تستحق الاحترام، بل يجب مناهضتها والقيام في وجهها. أرادوا كثيراً فسمعنا وقرأنا كثيراً ولكن ثقافتنا الإسلامية العربية ليست من الهون بحيث تحني الرأس لأمثال هذا الضعف المتخاذل .
فالشكر الصادق لهؤلاء القوم الذين أيقظوا فينا ذلك الشعور بالعزة، و وجهونا أن نفتح عيوننا على تلك الكنوز التي تكشفت لنا ولا تزال تتكشف.
وما أجدرنا أن ننهض بعبء نشر ذلك التراث وتجليته؛ ليكون ذلك وفاء لعلمائنا، و وفاء لأنفسنا وأبنائنا(4).
وإن من أحسن ما يقدمه المرء لأمته أن يسهم في الإخراج إلى الوجود – محققاً ومصفى – ذخائر الماضي من تراث أمجادنا العلمي الذي كان من مظاهر عزها وأساساً لنهضتها، وثمرة يانعة لحياتها وثقافتها؛ ليتسنى الوقوف على أصالته وما برز به من نظريات وحلول لمختلف القضايا النازلة(5).
لهذا صار لزاماً على المعنيين بهذا الأمر تشجيع تحقيق المخطوطات وتذليل الصعوبات التي يواجهها طلاب العلم الذين يقبلون بحماسة على العمل ولا يجدون ما يحققونه؛ فيتولون وقلوبهم تفيض بالأسى حزناً ألا يجدوا ما يحققون !
* * *
الهوامش :
(1) تحقيق التراث : د. عبد الهادي الفضلي ، ص 36 ، الطبعة الأولى ـ مكتبة العلم بجدة ، سنة 1402هـ .
(2) تحقيق النصوص ونشرها : للأستاذ عبد السلام محمد هارون ، ط6 ـ مكتبة الخانجي بالقاهرة ، سنة 1397هـ ، ص 52 ، 53 ـ بتصرف يسير ـ . وينظر «الحيوان » لأبي عثمان الجاحظ ، تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون ، 1/79 ، ط2 ـ مصطفى الحلبي ، سنة 1385هـ .
(3) يراجع ؛ منهج البحوث العلمية للطلاب الجامعيين : د. ثريا عبد الفتاح ملحس ، ص 246 ، منشورات دار الكتاب اللبناني ، سنة 1960م .
(4) ينظر: موضوع «دعوة إلى تحقيق كتب التراث الإسلامي» المطبوعة دون تحقيق علمي ، وذلك على شبكة المعلومات الدولية ، موقع : www.google.com .
(5) يراجع: مقدمة تحقيق كتاب «مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول» : ص 19.
(*) 3 شارع الشهيد محمد عبده – قسم النحال – الزقازيق – جمهورية مصر العربية ..
جوال : 0123526898(002)
فاكس : 0552281805 (002)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان وشوال 1432هـ = أغسطس- سبتمبر 2011م ، العدد : 9-10 ، السنة : 35
(*) 3 شارع الشهيد محمد عبده – قسم النحال – الزقازيق – جمهورية مصر العربية ..
جوال : 0123526898(002)
فاكس : 0552281805 (002)