الفكر الإسلامي
بقلم : الكاتب الإسلامي الشيخ الدكتور محمد بن سعد الشويعر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
المسلم مأمور بكلّ خُلقٍ حسن، ليجعله مستقيمًا في حديثه وفي سلوكه، وفي تعامله مع الآخرين، وفي ترك ما لا يعنيه؛ فقد روى الإمام أحمد في مسنده: أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه، حتى يستقيم لسانه).
فاستقامة الإنسان، مربوطة باستقامة جوارحه، واللسان هو القائد للجوارح، والمعبّر عما يكنه القلب، ولذا سمُّوه مَلِك الجوارح، لأنّه المتحكم فيها، المعبّر عنها.
فكم أوردت فلتات اللسان ابن آدم في الأضرار الدنيوية، أو المهالك الأخروية، وكم هلك من إنسان، بزلة لسانه: بكلمة غير موزونة أو مقصودة، سواء كان ذلك بالغيبة، أو النميمة أو الكذب، أو القول البذيء، أو غير ذلك من أمور يحسبها الإنسان بسيطة؛ لكنها سيف حادّ الجوانب، فتسوء العلاقات بسبب كلمة، وتخرب بيوت ببذاءة هذا اللسان، وتُستباح أموال بشهادة زور، وتستحل حرمات باعترافات كاذبة، لغرض دنيوي، أو بسبب الغيرة والحسد.
لذا نرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يشدِّد في أمر اللسان، والرقابة عليه، وحفظه عن الانفلات بغير حق؛ فقد أوصى عليه الصلاة والسلام، معاذ بن جبل – رضي الله عنه – ، لما طلب منه ذلك، بقوله الكريم، في نهاية الوصية: (كيف عليك هذا) وأشار إلى لسانه.
فقال معاذ: يا رسول: أنحن مؤاخذون بما نقول؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم).
فاللسان نعمة، والنطق والتعبير عما يريده الإنسان لا يقدّر فضلها، ولايعرف مكانتها، إلا من حُرِم من هذه النعمة، فالواجب أن يحمد الإنسان ربّه، ويقدر هذه النعمة، التي أسبغها الله عليه، وأنْ يعطيها حقها، ذلك أن الإسلام، قد بُنِيَتْ شرائعه على كيف يستفيد ابن آدم من هذه النعمة، التي تفضَّل الله بها، وبما وراءها من منافع ومصالح، وكيف يوازن بين النافع والضار، من فلتات هذا اللسان، الذي هو بضعة منا، لا يدرك الفرد مكانته إلا بأي أذاً يصيبه: ألم يقل سبحانه: (وَإِن تَعُدُّوْا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (سورة إبراهيم 34).
يقول ابن قيم الجوزية، في كتابه التبيان: وجعل الله سبحانه اللسان عضوًا لحمًا، لا عَظْم فيه ولا عَصب، لتَسْهل حركته، ولذا لا تجد في الأعضاء، من لايكترث بكثرة الحركة سواه، فإن أي عضو من الأعضاء، إذا حركته كما تحرك اللسان، لم يطق ذلك، ولم يلبث أن يكلّ ويخلد إلى السكون، إلا اللسان، وأيضا فإنّه من أعدل الأعضاء وألطفها، وهو في الأعضاء بمنزلة رسول الملك ونائبه، فمزاجه من أعدل أمزجة البدن، ويحتاج إلى قبض وبسط، وحركة في أقاصي الفم وجوانبه، فلو كان فيه عظام، لم يتهيأ منه ذلك، ولم يتهيأ منه الكلام التام، ولا الذوق التام، فكوّنه الله لما اقتضاه السبب الفاعلي والغائي، والله أعلم (ص311).
والعلماء قالوا في نظرتهم العامة نحو منافع اللسان، وكيفية إدراك الحفظ بأمور عديدة، من ذلك قولهم الصمت حكمة، وقليل فاعله، ويعيبون على الثرثار، وهو كثير الكلام، فيقولون في حكمهم عليه: منْ كثُر كلامه كثُر سقطه.
ويجد القارئ في كتب التراث حِكمًا وأمثالاً كثيرة، حول اللسان وحفظه وما وراء ذلك من مصالح وفوائد، وأضرار تتحول إلى مفاسد، وتأثيرات سيئة على الفرد والجماعة.
لأن العاقل إذا تمكن من السيطرة على لسانه، تأتي كلماته موزونة، ويحرص صاحبها أن لايقول إلا حقًا، ولا ينطق إلا بما فيه نفع له، أو لغيره، حتى لا يقع في المحذور منه، وحتى لا يكون في كلامه ما ينعكس ضررًا على الموضوع الذي تحدث فيه، فيسيء إلى نفسه، أو غيره من حيث لا يدري، فيضر بدل أنْ ينفع، ويسيء عوضًا عن إرادته الإحسان.. ومثل هذا يسميه العرب: العييّ.. وقد جاء في حِكَمهم: أعيا من باقل.
واللسان الذي جاء ذكره، في كتاب الله العزيز، أكثر من خمس وعشرين مرّة، سلاح عند الإنسان، بحدّين، وفوائده أو مضاره، كلّ منهما له شقّان، أو ما يسميه بعضهم: سلاح ذو حدين، وكلّ حدّ منهما له مهمة، في النفع والضر.
فقد كان الزبرقان بن بدْر، في يوم مّا، من الوافدين على رسول الله، وفي المجلس مدحه رجل، بكلام حسن، ولكنّه لم يعجب الزبرقان، ويريد ثناء أكثر، فقال الزبرقان: يا رسول الله إنه يعلم فيَّ أكثر مما قال، ولكنه حسدني، وأخذته الغيرة ضدي، وحَسَبِي ونَسَبِي، فعاد الرجل ليقول فيه: يا رسول، إنه لبئس الخال، والمحتد، وإنه لوضيع فينا، فبان الأثر في وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فزاد الرجل بالقول: والله يا رسول ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية.. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : (وإن من البيان لسحرًا).
ولذا فإنّ بعض العقلاء يحسب للكلمة، قبل انفلاتها ألف حساب، فيزيّنها ويتردد في إخراجها، حاسبا النتيجة، وماذا تلاقي عند المستمع: مصلحة مرجوّة، أو إيذاء يُكسب عداوة، فبعضهم في محاسبته لنفسه، حول الكلمة قبل انفلاتها يقول: يا ليت حلقي حلق نعامة، وما ذلك إلا لطول رقبتها، والكلمة تخرج من الإنسان مع الحنجرة، فالقائل يريد التردّد في كلامه، قبل خروج ذلك الكلام من الإنسان، حتى يتوجس تأثيره ونفسه، أو ضررره وماذا يلحقه من ورائه من تبعات. ومعلوم أن الكلام لا يخرج للناس، إلا بنطق اللسان فإن كان هذا الكلام المنطوق – قل أو كثر – .. ذا مردود حسن، ارتاح عنه وأخرجه، أما إذا كان ذا أثر ومردود سيئ، أمكن حجزه في هذه الرقبة الطويلة.. قبل أن يخرج.
وهذا المقياس: غير صحيح، ولكنه أريد به تقريب المعقول بالمنقول.
ذلك أن من عدم حفظ اللسان، إطلاق الألسن، بالكذب والافتراء سواء كان في الاجتماعات، أو في الكتابات والأحاديث، أو في وسائل الإعلام، ولا يتورّعون في سبيل إرضاء أحد، أن يكثروا اللغو في محفلهم، مما عابته ضارة، ولهذا كانت مهمة اللسان كبيرة ومن أجل ذلك، عابوا الهذّار الضارّ، وركّب الله الألسنة في الأفواه، لمهمتها النافعة ولأكبر من ذلك، وليست من أجل إرضاء زيد أو عبيد، وأخصّ بذلك ما يكتب، وينشر لأنّه عنوان على صاحبه، ولأن الله سبحانه يقول: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (سورة ق، الآية 18).
وقد بينت آيات من كتاب الله الأسلوب الحسن، في محاسبة هذا اللسان إذا غفل، باستعماله في المهمة الأساسية، بذكر الله والدعاء، واختيار الكلمات المناسبة، فالشتم والكذب، من فلتات اللسان الضارة، فيحسن الاستعاضة عنها بكلمات نافعة: صدقًا ودعاءً واستغفارًا وردًا حسنًا، فإذا أساء المتحدث، فلتكن أعقل منه.. فقد رأى حكيم رجلين يتسابّان، وكلّ منهما يخرج على لسانه ألوانًا من السبّاب والقذف، مما لم يوجد في قواميس اللغة مثله.. والآخر يزيد عليه الصاع صاعين.
فقرب من أحدهما ذلك الحكيم، وقال له: هل إذا نبح عليك كلب تنبح عليه مثله؟ قال: لا.. ثم قال: هل إذا نطحك ثور أو تيس، تجمع قواك لتنطحه؟ قال: لا. قال: لماذا، ترد عليه بمثل ما عمل نحوك؟ قال: لأنه حيوان لا أحبّ أن أكون حيوانًا مثله. قال: إذاً ارفع نفسك عن مستوى هذه المهاترات، التي لا فائدة منها؛ بل ضررها أكبر. والعاقل الإنسان منكما، الذي يتوقف عن هذا المستوى، لترتفع إلى الإنسانية. التي ميز الله بها بني آدم، ورفع من قدرهم بالعقل، الذي يجب أن تحرّكه الآن.. فاقتنع الرجل، ودعا للحكيم، وقال: أيْقَظْتَ حواسّ عقلي.
فانصرف الحكيم، وهو يقول لصاحبه يقول جل وعلا: (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (سورة النساء 114).
ذلك أن الشيطان، يوقد نار الفتنة بين البشر المتخاصمين؛ حتى تشتدّ، وإذا رأى النار ستخبو زادها اشتعالاً، حتى يرتفع لظاها، فيوغر الصدور، ويتسلّط على الألسنة بكل ما يقصده الواحد بالآخر، فينقلب الحق باطلاً، وتحمرّ العيون من الغضب، ويستولي الأمر على جميع المشاعر، وقد قال – صلى الله عليه وسلم – في هذه الحالة لرجلين يتشاتمان، واحمرّتْ وجنتاهما من حمى الغضب: (لو قال لا إله إلا الله، أعوذ بالله من الشيطان، لذهب عنه ما يجد) فهذا علاج نبوي، رادع للنفس عن غلوائها، ومهدئ لطباع من يرعوي إلى الله ويذكره. (للحديث صلة)
العمر أقصر مدّة :
ذكر التنوخي، في كتابه: الفرج بعد الشدة، بسنده إلى علي بن أحمد الليثي، الكاتب المعروف، بابن كردويه، قال: كان لي صديق من أهل راذان – مكان قريب من بغداد – عظيم النعمة والضيعة قال: تزوّجت في شبابي امرأة من آل وهب، ضخمة النعمة، حسنة الخلقة والأدب كثيرة المروءة، ذات جواري مغنيات، فعشقتها عشقًا مبرّحاً، وتمكّن لها من قلبي أمر عظيم، ومكث عيشي بها طيبًا مدّةً طويلةً.
ثم جرى بيني وبينها بعض ما يجري بين الناس، وخاصةً شؤون الزّوجين، فغضبتْ عليّ وهجرتني، وأغلقت باب حجرتها من الدار دوني، ومنعتني الدخول إليها، وراسلتني بأن أطلقها. فترضيتها بكل ما يمكنني، فلم ترض، ووسّطتْ بيننا أهلها من النساء، فلم ينجح. فلحقني الكرب والغمّ، والقلق والجزع، حتى كاد يذهب بعقلي، وهي مقيمة على حالها، فجئتُ إلى باب حجرتها، وجلستُ عنده مفترشًا التراب، ووضعتُ خدي على العتبة، أبكي وأنتحب، وأئتلفها، وأسألها الرضا، وأقول كلُّ ما يجوز أن يقال، في مثل هذا، وهي لاتكلمني، ولا تفتح الباب، ولا تراسلني. ثم جاء الليل، فتوسّدْتُ إلى أن أصبحت، وأقمتُ على ذلك ثلاثة أيام، وهي مقيمة على الهجران، فأيستُ منها وعذلتُ نفسي ووبختها، ورضّيتها على الصبر، وقمتُ من باب حجرتها، عاملاً على التشاغل عنها.
ومضيت إلى حمام داري، فأمطتُ عن جسدي الوسخ، الذي كان لحقه، وجلست لأغير ثيابي وأتبخّر.. فإذا بزوجتي قد خرجتْ إليّ، وجواريها المغنيات حواليها، بآلاتهن يغنين، ومع بعضهن طبق فيه وساط وساندويج وماء ورد، وما أشبه ذلك.. فحين رأيتها استطرت فرحًا، وقمْتُ إليها، وأكببت على يديها ورجليها، وقلت: ما هذا يا ستي؟ فقالت: تعال نأكل ونشرب، ودع السؤال.
وجلست وقدم الطبق، فأكلنا جميعًا، واندفع الجواري بالغناء، وقد كاد عقلي يزول سرورًا، فلما توسطنا أمرنا، قلت لها: أنت يا ستي هجرتيني بغير ذنب كبير، أوجب ما بلغته من الهجران، وترضيتكِ بكل ما في المقدرة فما رضيت، ثم تفضلتِ ابتداء بالرجوع إليّ، ووصالي بما لا تبلغه آمالي، فعرّفيني سبب هذا؟
قالت: كان الأمر في سبب الهجر ضعيفًا كما قلت، ولكن تداخلني من التجني ما يتداخل المحبوب، ثم استمر بي اللجاج، وأراني الشيطان أن الصواب فيما فعلته، فأقمتُ على ما رأيت، فلما كان الساعة، أخذت دفترًا بين يدي وتصفحته فوقعت عيني منه على قول الشاعر:
العمر أقصــر مـدّة من أنْ يُضيّع في الحسابِ
فتغنَّمـي ساعـاتـه فمرورهـا مرّ السَّحابِ
فعلمتُ أنها عظة لي، وأن سبيلي أنْ لا أسخِطَ الله عز وجل، بإسخاط زوجي، وأن لا أستعمل اللّجاج، فأسوءك وأسوء نفسي، فجئت لأترضاك، وأرضيتك.. فقبلت يدها، وصفا ما بيننا. (الفرج بعد الشدة: 4: 426-428)
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رجب 1431 هـ = يونيو – يوليو 2010م ، العدد : 7 ، السنة : 34