الفكر الإسلامي
بقلم : الكاتب الإسلامي الكبير سعادة الأستا الدكتور
عبد الحليم عويس / جمهورية مصر العربية
منذ أُبْرِمتِ الوثيقةُ العمريةُ والقدسُ تحظى بعناية المسلمين على نحو عنايتهم بالمسجد الحرام والمسجد النبويّ الشريف .
في سنة 15 هجرية – أي بعد وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام) بخمسة أعوام – تمكّن المسلمون من فتح كثير من بلاد الشام على إثر معركة “اليرموك” ودانت لهم حمصُ وقنسرينُ وقيساريةُ وغزةُ واللاذقيةُ وحلبُ، وحيفا ويافا وغيرها. وقد اتّجه لفتح بلاد فلسطين قائدان مسلمان هما: عمرو بنُ العاص، وأبو عبيدةُ بن الجرّاح الذي إليه يُعْزَى فضلُ إدخال بيت المقدس في الإسلام ، وكانت تسمى بـ”إيليا”.
وكان المسلمون قبل تقدّمهم لفتح بيت المقدس “إيلياء” قد اشتبكوا مع الروم في معركةٍ حاميةِ الوطيس هي: معركة “أجنادين” وانتصروا فيها بعد قتال شديد يشبه قتالهم في اليرموك، وفرَّ كثير من الرومان المهزومين ومنهم “الأرطبون” نفسه إلى “إيلياء” .
وقد تقدم المسلمون بفتح “إيلياء” في فصل الشتاء ، وأقاموا على ذلك أربعةَ أشهر في قتال وصبر شديدين ، ولما رأى أهلُ “إيلياء” أنهم لاطاقةَ لهم على هذا الحصار، كما رَأَوْا كذلك صبرَ المسلمين وجلدَهم وأشاروا على “البطريرك” أن يتفاهم معهم ، فأجابهم إلى ذلك، فعرض عليهم أبو عبيدة بن الجراح إحدى ثلاث: الإسلامَ أو الجزيةَ أو القتالَ، فرَضُوا بالجزية، والخضوع للمسلمين، مشترطين أن يكون الذي يتسلّم المدينةَ المقدسةَ هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نفسه رضى الله عنه!!.
وقد أرسل أبو عبيدة بن الجراح إلى أمير المؤمنين عمر بما اتفق عليه الطرفان ، فرحّب عمرُ بحقن الدماء ، وسافر إلى بيت المقدس ، واستقبله المسلمون في “الجابية” وهي قرية من قرى “الجولان” شمال “حوران” ثم توجَّه إلى بيت المقدس ، فدخلها سنة 15هـ/636م، وكان في استقباله بطريرك المدينة “صفرونيوس” وكبار الأساقفة ، وبعد أن تحدثوا في شروط التسليم انْتَهَوْا إلى إقرار تلك الوثيقة التي اعْتُبِرَتْ من الآثار الخالدة الدالّة على عظمةِ تسامحِ المسلمين في التاريخ ، والتي عُرِفَتْ باسم “العهدة العمرية”.
ونظرًا لمكانة هذه الوثيقة في الحضارة الإسلامية ، ولأنها دالّةٌ أبلغَ الدلالة على مدى تسامح الفتوحات الإسلاميّة والفاتحين المسلمين، نظرًا لهذين الاعتبارين نورد نصَّها الذي تكاد تُجْمِع عليه المصادرُ التاريخيّةُ الوثيقةُ:
“بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين أهلَ “إيلياء” من الأمان: أعطاهم أمانـًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها ؛ أنه لاتُسْكَنُ كنائسُهم و لا تُهْدَم ولايُنْتَقَصُ منها ولا من خيرها ، و لا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ، ولا يُكْرَهُون على دينهم ، ولا يُضَامُ أحدٌ منهم ، ولا يَسْكَنُ بإيلياء معهم أحدٌ من اليهود ، وعلى أهل “إيلياء” أن يُعْطُوا الجزيةَ كما يُعْطِىْ أهل المدائن ، وعليهم أن يُخْرِجُوا منها الرومَ واللصوصَ ، فمن خرج منهم فإنه آمِنٌ على نفسه وماله، حتى يبلغوا مأمنَهم ، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحبّ من أهل “إيلياء” أن يسير بنفسه وماله مع الروم (ويخلى بِيَعَهم وصلبَهم)، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنَهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلانٍ فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل “إيلياء” من الجزية، ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لايؤخذ منهم شيءٌ حتى يحصد حصادَهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أَعْطَوْا الذي عليهم من الجزية .
شهد على ذلك: خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاوية بن أبي سفيان.
وكتب وحضر سنة خمسة عشرة هـ .
وهذه الوثيقة دالةٌ أبلغَ الدلالة – كما ذكرنا – على أصالة التسامح الإسلامي من جانب، ودالّةٌ على المكانة التي تتبوأها القدسُ من جانب آخر ، ولعل التاريخَ لايذكر إلى جانب صفحة هذه الوثيقة صفحةً أخرى من تسامح الأقوياء المنتصرين مع المحاصرين المستسلمين على النحو الذي ترد عليه بنود هذه الوثيقة .
ولعل أية دراسة نقدية لبنود هذه الوثيقة تكشف عن مدى التسامح الإسلامي الذي لانظيرَ له في تاريخ الحضارات .
ومنذ أُبْرِمَتْ هذه الوثيقةُ التاريخيةُ الخالدةُ، وبيتُ المقدس تحظى بعناية الحكام المسلمينَ على نحو قريب من عنايتهم بالمسجد الحرام والمسجد النبي الشريف .
وقد تعاقب عليها الحكام المسلمون من الراشدين إلى الأمويين إلى العباسيين إلى بنى طولون الإخشيديين إلى الفاطميين إلى السلاجقة، فالمماليك فالأتراك ، وكلهم يوليها الاهتمامَ الجديرَ بها.
وقد ظلت إسلاميةً عربيةً منذ العهدة العمرية الآنفة الذكر سنة (15هـ- 636م) حتى سنة (1387هـ – 1967م) باستثناء فترة الحروب الصليبية (1099م – 1187م).
وقد توالت عصورُ التاريخ الإسلامي والمسلمون يعاملون أبناءَ الأديان الأخرى في القدس وغيرها أفضلَ معاملةٍ عُرِفَتْ في التاريخ لدرجة أن المؤرخَ الإنجليزيّ الكبيرَ “أرنولد توينبي” اعتبر ظاهرةَ التسامح الإسلامي ظاهرةً فريدةً وشاذةً في تاريخ الديانات .
وكان أهلُ الذمة الأصليون يُعَامَلُون كأهل البلاد الأصليين دائمـًا لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في إطار ما نصّ عليه الإسلامُ، وقد نصّ القرآنُ على معاملتهم بالحسنى ، ومجادلتهم بالتي هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم ، كما أوصى الرسول بهم خيرًا ، وقد كان الخليفة العباسي هارونُ الرشيد يعامل الزوّارَ النصارى للقدس المعاملةَ الإسلاميةَ المعتمدةَ لأهل الكتاب، وقد سمح الرشيدُ للإمبراطو ر “شارلمان” بترميم الكنائس ، وفي سنة 796م أهدى هارونُ الرشيد “شارلمان” ساعةً دقاقةً وفيلاً وأقمشةً نفيسةً، وتعهّد بحماية الحجاج النصارى عند زيارتهم للقدس ، لذلك كان شارلمان يرسل كلّ سنة وفدًا يحمل هدايا إلى الرشيد .
وقد زار القدسَ في القرن التاسعَ عَشَرَ “برنار الحكيم” وذكر أن المسلمين والمسيحيين النصارى في القدس على تفاهم ، وأن الأمن مستتبٌ فيها ، وأضاف قائلاً: وإذا سافرتُ من بلد إلى بلد ومات جملي أو حماري ، وتركتُ أمتعتي مكانَها ، وذهبتُ لاكتراء دابة من البلدة المجاورة سأجد كلّ شيء على حاله لم تمسّه يدٌ.
إن الوثيقة العمرية لم تقم على مجرّد أصول إسلامية عامّة في العلاقات الدولية ، بل قامت على أصول إسلامية خاصة ومُحَدَّدَة تتصل ببيت المقدس ، وعلى أصول مرتكزة على كتاب الله وسنة رسوله وسلوك المسلمين من بعده ، فإن المسلمين منذ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قرنـًا ينظرون إلى بيت المقدس نظرةَ تقديسٍ، على أنه مركز لتراث دينيّ كبير تجب حمايتُه، وهم يربطون ربطـًا كاملاً وثيقـًا بين المسجد الحرام في مكة والمسجد الأقصى في القدس ، وينظرون إلى القدس نظرةً تقترب من نظرتهم إلى مكة .
فإليهما يشدون الرحال ، وفي كليهما تراثٌ دينيٌّ ممتدٌ في التاريخ ، فإذا كان أبو الأنبياء إبراهيم قد وضع قواعدَ الكعبة في مكة ، فإن جسده الشريف يرقد على مقربة من القدس في الخليل، فيما يرى كثير من الرواة والمؤرخين، وإذا كان المسلمون في كل بقاع الأرض أصبحوا يتجهون في صلاتهم إلى المسجد الحرام، فإنهم لاينسون أن نبيهم محمدًا وأسلافهم الصالحين قد اتجهوا قبل نزول آيات تحديد القبلة إلى الكعبة اتجهوا إلى المسجد الأقصى أولى القبلتين ، وما زالت مدينةُ الرسول (عليه الصلاة والسلام) تضم مسجدًا يُسَمّى مسجد القبلتين شاهدًا حيـًّا على الترابط الديني بين مكة والقدس ، والمسجد الحرام والمسجد الأقصى .
وإذا ذكر المسلم بحسّه الدينى الممتد ووعيه التاريخي الإسلاميّ بيتَ المقدس ، فإنه يذكر أنه المكان الذي كلم الله فيه موسى ، وتاب على داود وسليمان ، وبشّر زكريا ويحيى ، وسخّر لداود الجبال والطير ، وأوصى إبراهيم وإسحاق أن يُدْفَنَا فيه ، وفيه وُلِدَ عيسى وتكلّم في المهد ، وأنزلت عليه المائدةُ ، ورُفِعَ إلى السماء وفيه ماتت مريمُ، إن هذا هو موقف المسلم من الأنبياء وتراثهم ومن بيت المقدس ، وهو موقفٌ يقوم على التقدير والتقديس والشعور بالمسؤولية الدينية والتاريخية .
وعلى العكس من هذا الإجلال الإسلامي لبيت المقدس ، وللأنبياء والأخيار الذين اتصلوا به كان موقف اليهود.
فكلّ هؤلاء الأبرا ر الذين ذكرناهم وغيرهم قد نالهم من اليهود كثيرٌ من الأذى، ولولا عنايةُ الله بهم لما أَدَّوْا رسالتَهم ، ولولا تنزيهُ القرآن لهم ودفاعُه عنهم لوصل تأريخُهم إلى البشرية مُشَوَّهـًا بتأثير تحريف اليهود عليهم ، وظلمهم لهم ، وكما نقلنا عن توراتهم في النصوص السابقة .
إن المسلم إزاءَ كلّ هذا يحسّ بمسئوليته الدينية العامة تجاه بيت المقدس، باعتباره مركزًا أساسيـًا لتراث النبوة .
ووفقـًا لتعاليم الإسلام ، فإنه ليس مسلمـًا من لا يحمي تراثَ الأ نبياء كلّ الأنبياء من التدمير المادي أو التشويه المعنوى ، وهو الأمر الذي سعى إليه اليهود في كل تاريخهم على مستوى الفكر حين حرّفوا التوراة ، وابتدعوا التلمود وملؤوها بما لايرضي الله ولا يقبله دين سماوى ، وعلى مستوى التطبيق حين عاثوا في كل بلاد الله الفساد، وحاربوا كل الأنبياء وأشعلوا الحروبَ، وجعلوا أنفسَهم شعبَ الله المختار، وبقيةَ الشعوب في منزلة الكلاب والأبقار ، ولذا ينبغى على المسلم الصادق جهادُهم دفاعـًا عن شريعة الله الحقة، واستنقاذًا لتراثهم المعنوي والمادي.
إن المؤرخ الإنجليزي الموسوعي الأستاذ “أرنولد توينبى” صاحب أكبر دراسة للحضارات، وأحدث نظرية ظهرت في تفسير التاريخ، قد تنبّه إلى هذا الخطر الذي يتجاهله الكثيرون في العالم، والذي يوشك أن يهزّ البناءَ الإنسانيَّ كلَّه. وقد وَجَّه في سنة 1955م نداءً إلى الشعب اليهودي في إسرائيل وإلى العالم كله يقول لهم فيه: “لاتقترفوا أخطاءَ الصليبيين”. ويقول لهم فيه أيضـًا : لقد كان التخلف والتفسخ والفوضى والفساد يسيطر على العرب فصال الصليبيون وجالوا، وانتصروا في عشرات المعارك، وهدَّدُوا واستفزّوا ما شاء لهم زهوُهم وخيلاؤُهم معتقدين أنهم قادرون على طرد العرب، وطمس معالم العروبة و الإسلام بحدّ السيف، كما اعتقد حكامُ إسرائيل بعد كل جولة منذ عام 1948، غير أن انكسارات العرب المتتالية في عهد الصليبيين قد فتحت عيونَهم على عيوبهم ، فعرفوا أن سرَّ قوتهم في وحدتهم وتفانيهم ، ووراء صلاح الدين ساروا فقطفوا ثمارَ النصر يوم 3 تموز/ يوليو 1187م في “حطين” .
وفي النهاية يطالب “توينبي” الأقليةَ اليهوديةَ أن تعيش كأقلية مع العرب والمسلمين في أمن وسلام.
والحق الذي يستأهل أن يضاف إلى ما ذكره “توينبى” الذي سَجَّلَ نداءَه قبل أحداث 1967م أن قمة المأساة في قضية القدس هي مأساة القدس، فإن الأفراد والجماعات على السواء هي مخلوقات عابرة وذات أجل وتنتهي مآسيها بزوالها عن الحياة ، ولكن هذا الشيء لاينطبق على الحضارات التاريخية، والتي تشكل أبنيتها وحجارتها وأزقتها وأماكنها المقدسة وذكرياتها والارتباط بها ، رمزًا تاريخيـًا وحضاريـًا لايمكن نسيانُه ، إنّها روحٌ وجزءٌ من دين وأنها حضارةٌ وتاريخٌ، وهذا هو حال الفلسطينيين والعرب المسلمين مع القدس.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، جمادى الثانية 1431 هـ = مايو – يونيو 2010م ، العدد : 6 ، السنة : 34