الفكر الإسلامي
بقلم : د/ محمد شامة
إذا ذُكرت كلمةُ “فكر” أو إحدى مشتقاتها، مثل: فكر، يفكر، مفكر، انعكست صورة الإنسان في الذهن، وكذلك إذا ذكر “الإنسان” لزم معه تصور الفكر؛ ذلك أن صفة الفكر لازمة من لوازم الإنسان؛ فلا ينفكان عن بعضهما أبدًا، فكلما ذكرت إحداهما تصور الذهن الأخرى؛ لأن الفكر هو الصفة الوحيدة التي تميز الإنسان عن سائر الكائنات الحية الأخرى، إذ يشترك الإنسان مع غيره من الكائنات الحية الأخرى في التراكيب الفيزيقية، والمكونات الميكانيكية، فجهاز الهضم عنده – وكذا جهاز الدورة الدموية – يكاد أن يكونان متطابقين في كلياتهما وجزئياتهما مع مثيلهما في كثير من الحيوانات، وكذلك الجهاز التنفسي، أما الجهازان: السمعي والبصري فليسا في الإنسان أقوى مما هما في غيره من الحيوانات؛ فبعض الحيوانات تتمتع بجهاز سمعي أرهف مما لدى الإنسان، كما أن هناك كثيرًا من الحيوانات من يتفوق على الإنسان في مجال الرؤية المجردة …
أما الفكر فلا يوجد كائن حي يتفوق على الإنسان فيه، أو يقترب منه؛ فقد وهب الله الإنسان عقلاً لا يدانيه فيه أيُّ كائن حي؛ بل إن قوته وتحقيق ذاته تمكن في هذا العضو الذي رفع الله به قدره بين المخلوقات وميزه به على سائر الكائنات الحية الأخرى، فبه احتل مكانةً أفضل بين خلق الله، ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيْ آدَمَ﴾، أي بالعقل الذي مكنه من اكتشاف أسرار الطبيعة؛ فاستخدمها لاستمرار وجوده، وتوسيع دائرة متعته، وساعده على تسخير ما خلقه الله في هذا الكون، فارتقى، وتطورت أساليبُ حياته، وتحسنت طرقُ معيشته، وتنوعت صور وأشكال استخدام ما وهبه الله من نعم ذاتية وطبيعية.
ولهذا عرّفه علماء المنطق بأنه: “حيوان ناطق”، وليس المراد بالناطق، أنه هو ذلك الحيوان الذي يصدر أصواتًا من فمه، فكثير من الحيوانات تصدر مثل تلك الأصوات، وقد تكون مفهومةً بين بني جنسها(1)؛ بل المراد بقولهم: “ناطق”: مفكر. فالإنسان حيوان ناطق، أي مفكر؛ لأن ما يتلفظ به إنما هو تعبير عن صور فكرية، وهذا هو ما عبر عنه الشاعر بقوله.
إن الكلام لفـي الفـؤاد وإنمـا
جُعِل اللسان على الفؤاد دليلاً
إي إن الإنسان هو الذي بين ما في داخل العقل من صور فكرية؛ فالإنسان لا يتحدث إلا معبرًا عما في ذهنه؛ بل ولا يتحرك إلا طبقًا لما تكون في العقل من صور فكرية، حتى فيما يظن أنه نشاط غريزي، كالأكل مثلاً؛ فإنه وإن كان نتيجةً لدافع غريزي، وهو الجوع – كما هو الحال في سائر الكائنات الحية – إلا أنه في الإنسان يخضع لأوامر عقلية، وتوجيهات فكرية؛ إذ أن الفكر يتدخل في اختيار نوع الأكل، فيفضل الشخص الجائع نوعًا على أخر، فهذه عملية فكرية وليست غريزيةً صرفةً. كذلك يتدخل الفكر في عملية تغيير هيئة وشكل الأغذية لتصبح مستساغةً، وليتمتع بمذاقها ونكهتها، وذلك بالطهي وإضافة الأنواع بعضها إلى بعض، وتلك عملية فكرية أيضًا؛ ولهذا نجد أثرها واضح في الاختلاف بين الشعوب في إعداد الطعام؛ فبينما نجد الشعوب البدائية تطهوه بطريقة مبسطة – وقد تأكله بدون طهي – نرى الشعوب المتقدمة تتفنن في تنويع أصناف متعددة من المادة الغذائية الواحدة لدرجة أن كثيرًا من الشعوب تزداد أنواع الطعام لديها كلما ارتقت فكريًا وحضاريًا، وهذا دليل على أن كل تصرف يصدر عن الإنسان – حتى ولو كان في مظهره يبدو غريزيًا – فإن الفكر يتحكم فيه ويشكله بالصورة التي تكونت في هذا العضو الذي ميزه الله به على سائر الكائنات الحية الأخرى.
ولكن … من أين يَسْتمدّ العقل هذه الصورة الفكرية؟
هل يملك مخزونًا من هذه الصور، خلقها الله معه ليستعين بها على ضبط وتوجيه نشاط الإنسان؟
لايمكن أن يكون ذلك!! لماذا؟ لأنه لو كان هذا صحيحًا، لأصبح الإنسان مسيرًا، يلتزم بما خلقه الله فيه، فلا يحيد عنه، الأمر الذي يعفيه من المسؤوليّة، فيقترف الآثام دون أن يكون له ذنب فيما اقترف. أضف إلى ذلك أنه لو كانت هذه الصورة الفكرية من خلق الله، لكان في ذلك ظلم – وحاشا الله أن يظلم – ؛ لأنه يترتب على ذلك أن تخلق صور سيئة عند إنسان، وأخرى حسنة عند آخر؛ فلا يكون للمحسن فضل في إحسانه، كما أنه لايكون للمسيء ذنب في إساءته، … إذن … فمن المستحيل أن يخلق الله صورًا فكريةً مع خلق العقل لضبط وتوجيه نشاط الإنسان .
هل يستطيع العقل أن يكون هذه الصور من لا شيء؟ لا … إذ يستحيل على مخلوق أن يكون شيئًا من لا شيء؛ لأن الله وحده هو القادر على الخق من العدم .
فإذا استحال خلق الصور الفكرية مع خلق العقل، واستبعدت قدرة العقل على تكوين هذه الصور من لا شيء، فما مصدر هذه الصور الفكرية؟
استبعدنا أن يملك العقل مخزونًا من هذه الصور – تكون قد خلقت معه – يستمد منها ما يريده ليضبط سلوك الإنسان ويقوم أخلاقه، وكان سبب الاستبعاد أنه يترتب عليه إلقاء إرادة الإنسان وإعفاءه من المسؤولية؛ لأنه لايعمل – لو كان هذا صحيحًا – إلا طبقًا لما يملى عليه، كما استبعدنا أيضًا أن يكون عنده من القدرة ما يمكنه من تكوين هذه الصُّوَر من لاشيء؛ لأن الله وحده هو القادر على الخلق من عدم. فإذا كان هذين الاحتمالين غير ممكنين، فمن أين يستمد العقل هذه الصُّوَر الفكرية التي تصدر عنه؟(2)
يستمدها من البيئة؛ فالإنسان يولد صفحةً بيضاء لم يُرسم فيها خط، ولم تسطر فيها كلمة، ثم تبدأ الخطوط تتوالى عليه مما حوله، وتسطر المعلومات من الأحداث التي تجرى أمامه؛ فتنقلها حواسه إلى داخل جهاز الرصد الذي خلقه الله فيه.
ومن أولى المصادر التي تمده بما يحتاج إليه في هذا المجال: أبواه، فهما أول من تقع عليه حواسه المستقبلة فتتلقف قواه الذهنية كل ما يصل إليها وتعيه، وتحتفظ به لتخرجه فيما بعد في صور سلوك وألفاظ تنبئ عن طبيعة ما تلقاه، فإن كان طيبًا كان سلوكه طيبًا، وأخلاقه حسنةً، وألفاظه مهذبةً، وتعامله مع الآخرين راقيًا، وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن التفاعل بين الوالدين والأبناء بقوله: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه”.
فالفطرة في هذا الحديث تعني الصفحة البيضاء؛ فإن فسّرها بعض العلماء بأنها الإسلام، فلا تعارض بين التفسيرين؛ لأن الإنسان يميل بفطرته وطبيعته إلى الإسلام، ولا يبتعد عنه إلا إذا حجبت الأفكار الهدامة، والصور الفكرية المدمرة انعكاس ضوء الإسلام على صفحته البيضاء، أي لو خلى بين الإسلام وبين الإنسان دون تشويش على ذهنه، أو تلبيس على عقله لمال إلى الإسلام .
وليس المراد حصر التأثير السلبي على الأبناء في التهويد، والتنصير، والتمجيس؛ بل كل ما يكون سيئًا بالنسبة للأولاد، وجاء ذكر هذه المعالم الثلاثة لضرب المثل للناس، كي يفهموا مدى تأثير الآباء على الأبناء. فالأبوان هما اللذان يشكلان شخصية الطفل، فجميع تصرفات الإنسان في كل مراحل حياته تضرب بجذورها إلى ما تلقاه وهو ظفل من أبويه، وخاصةً من الأم؛ لأنها تكون أكثر لصوقًا به في سني حياته الأولى، ثم عندما يشعر بنوع من الاستقلال عنها، يصبح واجب الأب إزاءه أكثر من ذي قبل، فهو وإن كان له تأثير ايضًا – بجانب تأثير الأم – على الطفل منذ إدراكه، إلا أنه كلما تقدم الطفل في السن ازداد تأثير الأب عن الأم، إلى أن يصبح المصدر الرئيسي في تلقى الصور الفكرية من بيئته الأسرية؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“لاعب ابنك سبعًا، وأدّبه سبعًا، وساحبه سبعًا، ثم اترك حبله على الغارب”.
فالحديث يبين لنا طبيعة المراحل الثلاثة لتنشئة الإنسان، وما يجب على الوالدين إزاء كل مرحلة، فالطفل يحتاج في السني الأولى إلى اللعب أكثر مما عداه، أي أن إمداده بالصور الفكرية ينبغي أن تكون في صورة يغلب اللعب على طابعها حتى يستسيغها الطفل فيعيها ولا ينساها، وتحفر في مخيلته فلا تمحوها الأحداث التالية لهذه الفترة، وهي فيما بعد السابعة، حيث تكون قواه العقلية قادرةً على الفهم والاستيعاب، وإدراك العلاقات بين الأشياء، فينبغي أن يتحول أسلوب التربية إلى نوع من الجدية حتى يشتد عوده، ويستقيم سلوكه، ويأخذ تعامله مع الآخرين طريقًا يستطيع فيه أن يقدر معنى الواجب والحق، والحلال والحرام، والخير والشّر، والفضيلة والرذيلة، وغير ذلك من القضايا التي تقوم عليها حياة المجتمعات ولا ينسى الأب في هذه المرحلة عدم التهاون في بناء شخصية الأبناء، وإن اقتضى الأمر استخدام الشدة معهم فلا يتردد في ذلك لأن التهاون في هذه المرحلة ينتج عنه آثار لايمكن إصلاحها فيها بعد. وغالباً ما ترى أباء خلطوا في معاملة الأبناء بين المرحلتين الأوليين، فعاملوا أبناءهم في الأولى بالشدة والعنف، فغرسوا في نفوسهم الخوف والهلع، فلم يستطيعوا التخلص من هذه الظاهرة طول حياتهم، وتهاونوا في المرحلة الثانية؛ فلم يأخذوا على أيديهم، عندما تبدو عليهم ملامُح التمرد، أو يظهر في سلوكهم نوازعُ الشر والعدوان، فكانت نتيجة هذا استمراء الطفل هذا العمل، واستمراره في هذا الطريق، حتى يصبح الشر متأصلاً في نفسه، والعدوان متمكنًا منه، فلا يخرج من عقله إلا الصور الفكرية الشريرة، التي تقود جوارحُه إلى إذاء الآخرين، الأمر الذي يؤدي إلى تدمير نفسه بأي صورة من الصور. ومن هنا كانت هذه المرحلة مهمةً جدًّا في حياة الإنسان؛ فعلى الآباء أن يدركوا هذا، فيبذلوا بعض الجهد مع أبنائهم ليساعدوهم على بناء شخصيتهم بناءً سليمًا.
أما المرحلة الثالثة: فتتطلّب نوعًا آخر من التربية، ذلك أنها مرحلة إثبات الذات، إذ يشعر المرء فيها بأنه خرج من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة، فتأبى نفسه أن يظل منفذًا للأوامر دون المشاركة في صنعها، ويحاول التشبه بالبالغين، فيقلدهم في كل عمر يرى أنه يضفي عليه صفة الاستقلالية؛ فيتمرد على كل ما يشعره بأنه مازال طفلاً، وإذا كان الأنسب للأب في هذه المرحلة أن يصاحبه، حتى يتم تقويم سلوكه بأسلوب الصديق الناصح، وليس بطريقة الأب الآمر…
ولما كان اتصال الإنسان بمن حوله لا يقتصر على الوالدين فقط؛ إذ كلما اشتد عوده، وقويت شوكته، ازداد استقلاله عنهما، وقرب من مصادر أخرى في المجتمع، ينفعل ويتفاعل معها، ويؤثر وتؤثر فيه، فيتكون بذلك عنده صور فكرية أخرى يكون لها أثر في سلوكه. وقد تشكّل تعامله مع الناس بصورة تختلف عما يتلقاه من والديه. وذلك إذا أهمل الوالدان توجيهَه وتقويمه في عالمه الجديد.
ومن أولى الحلقات التي يتّصل النشء بها بعد الوالدين أقاربُه وذوو رحمة، الذين يتّصلون بالأسرة؛ فإن كانوا على خلق حسن – يلتزمون بالفضائل ويتجنّبون الرذائلَ – .
– يتسم سلوكهم مع الآخرين بالرحمة، ويبدو على تعاملهم مع غيرهم العطفُ والسماحةُ.
– يتجنبون العنف، ويبتعدون عن العدوان والظلم.
قوى هذا الاتصال أسس الخير في نفس الطفل، إذ يمده بصور فكرية سليمة، وتصورات ذهنية نقية، تساعده على الاستمرار في طريق الخير، والبعد عما يسيئه ويدمر مجتمعه.
أما إذا كان سلوك الأفراد المحيطين به من أسرته – أو بعضًا منهم – غير سوى؛ فلا شك أن احتمال تأثره بهم يكون كبيرًا، وقد يبلغ هذا التأثير درجةً تقضى على ما غرسه والداه في نفسه من خير وحب للناس، وعطف عليهم؛ بل قد يتحول سلوكُه تحولاً كليًّا، إذا غفل الوالدان عما يحدث لأبنائهما من جراء اتصالهم بمن هم ليسوا على خلق طيب من أقاربهم المتصلين بهم.
ثم يأتي بعد هذه الفئة – التي تؤثر على النشء تأثيرًا كبيرًا وسريعًا، نظرًا لقربها منه، وسهولة اتصالها به في كثير من الأوقات – حلقة أخرى، وأفرادها: الجيران، وأصدقاء الأسرة، ورفقاء اللعب؛ إذ لايمكن تجاهل تأثيرهم، أو إغفاله؛ ولهذا ينبغي على الوالدين ألا يقبل صداقة، أو علاقة تزاور واتصال إلا مع من لا يخشيان من سلوكهم – أو سلوك أبنائهم – على أولادهم؛ فلا يصادقون إلا من كان سليمَ التكوين، قويم السلوك، رفيع التعامل مع الناس، مهذب الأخلاق، مستقيمًا مع كل من يقترب منه؛ إذ لا يصدر ممن كانت هذه صفاته إلا ما يغرس في أذهان الآخرين صورًا فكريةً، تضبط السلوك، وتهذب الأخلاق، وتحافظ على التقاليد والأعراف، وتقوى العقيدة، وتساعد على الالتزام بالواجب، سواء كان دينيًّا، أم دعت إليه ظروف الحياة ومعطيات العصر.
وليست هذه كل المصادر التي يستمد منها الإنسان الصور الفكرية التي تشكل حياته في المجتمع؛ بل هناك ما هو أبعد أثرًا، وأكثر قوةً على توجيه الإنسان في مجال النشاط الإنساني، ألا وهو: المؤسسات الثقافية، وتحتل المدرسة المقامَ الأول في هذا الجانب؛ إذ فيها يعرف الإنسان تجارب الآخرين، ويتعلم الكثيرَ مما حدث في عصور لم يعشها، ويقف على أحداث لم يشاهدها؛ بل إن المدرسة – وكذا الجامعة، والنوادي الثقافية، وما شابهها – تكاد تكون هي المكان الوحيد التي تحدد فيه هوية الإنسان تحديدًا واضحًا، وتثبت فيه معالم مستقبله على نحو يصعب تغييره أو تبديله؛ ولهذا يجب أن يشترك في وضع المناهج الدراسية: التربويون، ورجال الدين، والاجتماعيون، وخبراء العلوم التطبيقية والتجريبية، ومهندسو التكنولوجيا بجميع فروعها، والفلاسفة، وعلماء النفس، والمؤرخون، وخبراء المال والاقتصاد، حتى يراعى فيها العناصر التي تكون المواطن: دينيًا ونفسيًا، وتؤهله تأهيلاً عصريًا يمكنه من التعامل مع معطيات العصر، ومتطلبات حركة التغيير على جميع الأصعدة المادية والمعنوية؛ لأننا لو ركزنا على الجانب الروحي والمعنوي فقط، لخرج المواطن من هذه المدرسة خياليًا، لاصلة لفكره بواقع الحياة، فيتخلف المجتمع عن ركب الحضارة والمدنية، ويقع فريسةَ الطامعين والمستغلين ممن ملكوا زمام التقدم التقني، وسيطروا على كل مصادر الطاقة وينابيع التقدم الحضاري، ويؤمئذ لن ينفع المجتمع كثرة المرددين للنصوص الجوفاء، ولن تساعدهم الحكم والأمثال في الصمود أمام التفوق الحضاري، والتقدم التكنولوجي.
كذلك لو خلت المناهج من الجانب الديني، وتجردت من المعالم الأخلاقية، لانحرف المواطن انحرافًا كليًّا إلى عالم المادة، وتصرف مع نفسه ومع الآخرين تصرف الحيوانات المفترسة؛ بل إنه بعقله وذكائه يكون أشد فتكاً من الوحوش الضارية، وأكثر شراسةً من الحيوانات البرية؛ فلا يرحم صغيرًا، ولا يعطف على ضعيف أو محتاج، ولا يوقر كبيرًا أو صاحب فضل وعلم؛ لأن ما غرس في ذهنه مادي بحت؛ فهو لا يتلقي منه إلا الصور المادية التي لا تهتم إلا بمقياس المكسب والخسارة المادية. وبهذا تتفكك عرى المجتمع، وتنحل أواصره، فتضيع العلاقات الإنسانية، ولايكون المصيرُ إلا الهلاك والدمار.
فخلو المناهج من المواد التطبيقية والعلوم التجريبية، والمقررات التكنولوجية يعرض المجتمع لخطر الطامعين من الخارج، وإهمال المبادئ الدينية والتعاليم الشرعية فيها يؤدي بالمجتمع إلى تدمير نفسه بنفسه، أي يتحلل داخليًا، وذلك بطغيان الروح المادية على أفراده .
ويجب أن تأخذ المواج الثقافية التي تقدم في المؤسسات الثقافية خارج المدرسة نفس الاهتمام المبذول في وضع المناهج التعليمية؛ إذ تلعب المؤسسات الثقافية دورًا مهمًا في تكوين فكر المواطن، فهي التي تشكل اتجاهه الفكري، وتعمق ولاءه العقدي، وتقوي انتماءه الوطني؛ إذ أن ما يتلقاه في المدرسة من معارف نظرية، تقوم المؤسسات الثقافية خارج المدرسة بترتيبها، وتشكيلها، وتجسيمها في صورة نشاط إنساني في جميع مجالات الحياة .
فإن أدرك القائمون على هذه المؤسسات هذا الدورَ المهم في حياة المجتمع، وكانت لديهم القدرة الفكرية، والاستعداد الروحي، استطاعوا أن يخططوا تخطيطاً سليمًا، يستوعب طاقات الشباب العلمية والجسمية، فيوجهها إلى تطبيق ما تعلموه في المدرسة تطبيقًا سليمًا، مع إثرائها بما لا يمكن الحصول عليه في المدرسة، وتنميتها بالعديد من التجارب العلمية، حتى يكتمل نضجهم الثقافي، ويستوي سلوكهم في الحياة العملية، وترقى أخلاقهم في التعامل مع الآخرين، وذلك بإمدادهم بالخبرات العلمية، والتوجيهات التطبيقية، والتصورات المنطقية القابلة للتنفيذ في مختلف أنشطة الحياة الإنسانية…
أما إذا أُسنِدَت قيادةُ هذه المؤسسات إلى من لاقدرة له على استغلالها لتوجيه المواطنين فكرًا وثقافةً، وبنائهم جسمًا وروحًا، تبدلت قوى المجتمع، وضاع ما غرسته المدرسة في أذهان النشء وسط الخرافات والأساطير، وتبدلت معالمه بفعل رياح الفكر الأجنبي، وتقوضت أركانه أمام التيارات الثقافية التي تهب عليه من كل جانب.
فإذا تمكن المغرمون بكل ما هو أجنبي من الوصول إلى مراكز التوجيه في هذه المؤسسات فتلك هي الطامة الكبرى؛ إذ يستخدمون قدرتهم – وعالبًا ما يكونون على جانب كبير من الذكاء – في نشر الفكر الأجنبي والثقافة المستوردة، ويستغلون مكانتهم في إضفاء السيادة والتفوق على التقاليد والعادات المستحدثة، غير عابئين بما يجر ذلك على المجتمع من زلازل واضطرابات تهز كيانه، وتفتت وحدته، وتضفي عليه ثوب الاغتراب الاجتماعي والثقافي؛ فيصبح عديم الهوية، فاقد الذات .
– يبحث عن جذوره فلا يجدها؛ لأن أعاصير الغزو الثقافي قد اقتلعتها، ويفتش عن منهجه الخاص في الحياة فلا يعثر عليه؛ لأن بريق المستحدثات حجبته .
– ويتفحص معالم طريقه فلا يراها؛ لأن زوابع الدعاية المصاحبة أزالتها؛ فلا يلبث أن يسير مع الركب، ويصيح مع الصائحين .
وبذلك يصبح المواطن في هذا المجتمع إنسانًا “عصريًا” يتنكر لماضيه، ويدعو بدعوة جلاديه، ويناصر من اقتحم دياره، ومزّق ثيابه، وهدم كيانه، وحطّم هويته، وأزال كل أثر له على مسرح الحياة .
وليست هذه دعوة إلى الانغلاق أمام كل ما هو أجنبي؛ فلا يمكن أن يقول بهذا عاقل يبتغي العزةَ لدينه، والخيرَ لوطنه، بل هي صيحة في وجه من نسي ماضيه، وتنكر لمبادئه، فاندفع إلى تقليد الأجنبي في كل شيء حتى ولو كان مدمرًا، وجرى وراء نفايات الحضارة؛ لأنها تشبع شهوةً غريزيةً عنده، أو تلبي مطالب وقتية لديه .
– صيحة لتنبيه الغافلين ليفيقوا من غفلتهم، فيشمروا عن صاعد الجد لتحصين الأمة ضد التيارات المعادية .
– وبيان لمن اختلط عليه الأمر فظن أن ما يمارسه من أخلاقيات تقليدًا للساقطين في المجتمع الحضاري، هو الأسلوب الذي يضفي عليه ثياب التقدم والمدنية… بيان له بأن هناك فرقاً بين مقومات الحضارة ونفاياتها.
أما المقومات فهي: العلوم التطبيقية والتجريبية، كالطب والهندسة والكيمياء والطبيعة وما شابهها، وكذلك التكنولوجيا بجميع فروعها؛ فلا حرج على أي إنسان في أي منطقة من العالم أن يغترف منها بقدر ما يستطيع وينقلها إلى وطنه بأي صورة من الصور، وبأي حجم يتاح له، فليس هناك حدود، ولا قيود – بل كلما ازداد منها ارتقى في سلم الحضارة – لأنها لا تمس كيانه الشخصي، ولا تهدم ذاته؛ فليس لها تأثير سلبي على تقاليده وعاداته، كما أنها لا تهدد عقيدته بما فيها من تعاليم وأحكام .
أما النفايات فلا يأتي من ورائها إلا انحلال الأخلاق، ونشر الفاحشة، وتثبيت المنكر في جنبات المجتمع، وتفكك الأسر، وبسط أجنحة الاغتراب الاجتماعي بين المواطنين .
وعليه فيجب على القائمين على التوجيه في المؤسسات الثقافية أن يدركوا الفرق بين هذين النوعين من معالم الحضارة، فيعملوا على رسم الخطط التي تعمق الأول في نفوس النشء، وتنفرهم من الثاني، أو بمعنى أدق: توضح لهم أن الحضارة الحقيقية هي ما كنت دعائمها: العلم والمعرفة في مجالات البناء والتشييد، وأن الهلاك والدمار يصيبان الأمة عندما ينصرف المواطنون إلى الاستغراق في الملذات والشهوات، ويميلون إلى تقليد الأجنبي فيما هو بعيد كل البعد عن التأثير في البناء الحضاري، وقد يكون من المعوقات التي تستنفد طاقات الأمة؛ فلا تجد بعد ذلك ما تبذله في بناء أو تشييد .
فالاتصال بالفكر الأجنبي ضرورة في مجال العلم؛ بل هو واجب كي لا تتخلف الأمة عن ركب التقدم؛ فإن تهاونت الأمة في هذا الجانب؛ ضعفت شوكتُها؛ ووهنت عزيمتُها؛ فلا تقوى على الوقوف في وجه من يطمع فيها، أو يتجرأ على اختراق حدودها.
أما في مجال الثقافة النظرية التي تؤثر على التقاليد والعادات ذات الصلة بالعقيدة، فلا ينبغي أن تُفْتَحَ لها الأبوابُ؛ بل تغلق بإحكام، حتى لا يتسرّب إلى المجتمع ما يؤثر على عقيدته، أو يهدد تقاليده وعاداته المحافظة على هويته؛ لأن كيانه يبقى متماسكاً مادام السلطان لعقيدته، وتصان ذاته بمقدار رسوخ التقاليد، وتصان ذاته بمقدار رسوخ التقاليد الأصيلة في حياة المواطنين، وتمكن العادات الحسنة ذات التأثير الجيد في أخلاق الناس ومعاملاتهم .
الهوامش :
(1) مهما يكن الرقي الذي وصلت إليه اللغات البشرية، فيجب ألا يحجب ذلك عنا الحقيقة التي يقول بها التطوريون، من أن النطق عند الإنسان لم يكن يعدو في بادئ الأمر مجرد إخراج الأصوات للتفاهم بين أفراد النوع كما هو الشأن بالنسبة للطفل حتى في هذه الأيام؛ فإذا كان هذا هو مدلول النطق، فمن العبث أن ننكر على الحيوانات أنها ناطقة؛ فالحيوانات تخرج من فهمها أصواتًا مختلفةً، تعبر بها عن أغراض مختلفة. ومن الواضح أن كل نوع من الحيوانات يتفاهم مع بعضه. وقد انتهى بعض علماء السلوك في العصر الحديث إلى القول بأن الحيوانات تتحدث فيما بينها؛ بل وصل الأمر ببعضهم إلى حد إعداد قاموس يحتوي على اثنتين وثلاثين كلمةً مختلفةً يتفاهم بها الشمبانزي (الجانب الإنساني عن الحيوان: فانس باكار، ترجمة: سعد غزال ص 15).
وكأن الطبيعة تريد أن تكشف لنا عن أن النطق لا يخرج عن كونه عملية إخراد أصوات؛ فكان الببغاء القادر على محاكاة بعض عبارات الإنسان فينطق بها نطقًا صحيحًا مبينًا، فالقول بأن الإنسان ينفرد عن الحيوان بالنطق قول غير سديد (المصدر السابق ص 218-219).
(2) ولقد رأينا أن أول ما يصادفنا عند تحليل أي نشاط إنساني، ابتداء من القيام بأبسط حركة كتحريك إسبعه، أو هز رأسه، حتى قيادة الشعوب وإشعال نيران الحروب، واختراع وسائل المواصلات، والصعود إلى القمر، فلابد أن يكون ذلك مسبوقًا ومستندًا إلى صور ذهنية، تتجلى في الذهن أولاً، ثم تتحق في الخارج ثانيًا، وحيث لا توجد صورة ذهنية، فلن توجد أي حركة إنسانية من أي نوع من الأنواع، وهكذا نجد التلازمَ في الوقوع والتخلف بين الصور الذهنية وتحولها إلى عمل وحركة، سواء في داخل جسم الإنسان أو خارجه؛ فلا نكون قد عدونا الصواب إذا قررنا أن الصور الذهنية هي علة كل ما يقع من الإنسان من نشاط، مهما كان نوعه أو حركته. (الطاقة الإنسانية: أحمد حسين ص 431-432).
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الثاني – جمادى الأولى 1431 هـ = مارس – مايو 2010م ، العدد :4-5 ، السنة : 34