كلمة العدد
شهرُ الهجرة: محرم الحرام يطلع علينا كلَّ عام يُلَقِّننا درسًا لن تَبْلَى جدَّتُه على مرور الأيّام وكرِّ الليالي، وهو درسٌ شاملٌ، مُتَعَدِّدُ الجوانب، مُتَنَوِّعُ النّواحي: إنّه يُعَلِّمنا أنّ سلوكَ طريق الحقّ عصيبٌ شديدٌ؛ لأنّ أبناءَ الباطل يصطلحون دائمًا على زرع الموانع من كلّ نوع، حتى يمتنع أبناءُ الحق عن مواصلة السير وإغذاذ الخطى؛ ولكنّهم – أبناء الحق – إذا التزموا ببذل ما عندهم من الاستطاعة للبقاء على الحقّ، والثبات على العمل به، والدعوة إليه؛ فإنّ الله يفتح عليهم أبوابَ الخير، ويُؤَيِّدهم بما لم يكن بحسبانهم، ويُوَفِّر لهم من الأسباب والمنعة ما لم يكونوا يتَصَوَّرُونه .
الهجرةُ في ظاهرها كان خروجًا من مكّة إلى “يثرب” – المدينة – مُتَجَرِّدًا من الأسباب والوسائل، نجاةً بالدين والعقيدة من بطش قريش وأذاها الذي استمرّ سنوات بكل أسلوب من الأساليب، إلى ديار الغربة، لاجنودَ تَحْرُسُ، ولا أعوانَ تُنَاصِر، ولا قوّةَ تَمْنَع من ملاحقة كفّار مكّة الذين بثّوا جواسيسَهم على كلّ منفذ، وأعلنوا بمنح جوائزَ غالية لمن يعيد إليهم محمّدًا – صلى الله عليه وسلم – وصاحبَه أبابكر – رضي الله عنه – حيّين أو ميتين.
ولكنّها في الواقع كانت تَحَوُّلاً فريدًا من الضعف إلى القوّة، ومنهجًا حكيمًا شاملاً لتغيير شامل: اجتماعي وسياسيّ، وديني وروحيّ، وأخلاقي وعسكريّ، وانطلاقًا إلى عهد جديد من الانضباط والنظام، والجلال والتسامي، والحريّة اللامحدودة، والانسلاخ اللاّمتناهي من كلّ القيود التي سَعَتْ قريشٌ جهدَها لفرضها على الدعوة المحمديّة والرسالة الإلهيّة حتى لاتجد مُتَنَفَّسًا للأبد، ومُتَّسَعًا للنفوذ إلى خارج مكة .
ولم تكن الهجرةُ عمليّةً مُفَاجِئة حَدَثـَتْ دونما تخطيط، وإنما كانت عن خُطَّة مدروسة، وعن أمر إلهيَّ، وعن أخذ بالأسباب، وتوفير للوسائل؛ ثم توكّل على الله كامل؛ فلم يُفَرِّط رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قيدَ أنملة في إحكام الخطّة وإعداد العدّة، ولم يَدَعْ في حسبانه مكانًا للحظوظ العمياء؛ فلم يكن النجاحُ الباهرُ الذي أسفرتً عنه الهجرةُ إلاّ نتجيةً حتميَّةً لذلك كلّه، وشَهِدَتْ مدينةُ “يثرب” التي سَعِدَتْ بكونها دارًا وقرارًا للنبيّ الأعظم صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار ورفيقه في الجنّة أبي بكر – رضي الله عنه – والمهاجرين من بعدهما.. شَهِدَت تجربةً فريدةً من نوعها لم تَرَها البشريّةُ قبلها ولن تراها بعدَها إلى يومِ يرث الله الأرضَ ومن عليها: تجربةَ بناء المجتمع الحديث المنقطع النظير، الذي اسْتَمَدَّتْ وسائلَه كلَّها من كتــابِ ربّ العالميــــن، والـــذي كان نمـــوذجيًّا لم تشهد البشريةُ مثيلاً له قطّ .
التغييراتُ العميقةُ الشاملةُ التي أَحْدَثـَها النبيّ صلى الله عليه وسلم على أرض الهجرة كانت مُقَوِّمَاتُها الوحيَ الإلهيَّ، والتأييدَ الرَّبانيَّ، ومساندةَ الإخلاص المَحْض، من قِبَلِ كلّ من المهاجرين والأنصار الذين آزروا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، بكلّ من القول والفعل والمواقف، وخاضوا معه صلى الله عليه وسلم معاركَ التغيير الذي مَسَّ الحياة بكل أبعادها الاجتماعيّة، والسياسيّة والاقتصاديّة، يحدوهم إيمانهُم، وتَحْرُسُهم عقيدتُهم، ويَدْفَعُهم إخلاصُهم، ويقودهم النبيُّ الحبيبُ الموُيَّد من ربّه.. إنّ هذا التغييرَ الدقيقَ في جميع مناحي الحياة أحدثه صلى الله عليه وسلم بمجرد أن استقرّ بمُهَاجَره: المدينة في فترة لم تكن طويلةً بالنسبة إلى تأثيرها البعيد المدى .
سَعَىَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أوّل يوم حَلَّ فيه بالمدينة أن تكون الشورى أساسَ الحكم وقاعدةَ المجتمع المثاليّ الذي كان بصدد تكوينه. وذلك رغم الوحي الإلهي الذي كان يُرْشِده على كلّ خطوة، ويهديه لدى كلّ مشكلة؛ فقد كان يمارس الشورى في جميع الشؤون السلميّة والحربيّة، فجَعَلَ الجميعَ شركاءَ في إبداء الرأي، وتصحيح المسار، وتطوير المجتمع، والأخذ بما هو الأصلحُ الأنفعُ. وذلك عملاً بتعليم ربّه:
“وَشَاوِرْهُمْ فِيْ الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِيْنَ” (آل عمران/ 159) رَبَّى النبي صلى الله عليه وسلم صحابتَه على هذا الهدي الربّاني الحكيم؛ فتَخَرَّجُوا في مدرسة الشورى، وكافحوا جميعًا نزعات الاستبداد الفردي، والإعجاب بالنفس، والتفرُّد بالرأي، والإصرار على التحرّي النفسي؛ فتَنَزَّهَ مجتمعُهم كلّيًّا عن الأدواء التي تنشأ عن الاستبداد بالرأي وفرضه على الجميع، وأَمِنَ هذا المجتمعُ المثاليُّ آراءَ المتسلّطين وأنانيّةَ المستبدّين.
ومن خلال المؤاخاة المثاليَّة التي أقامها صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، مَهَّدَ الطريقَ واسعًا إلى موت العصبيّات، وتلاشي الخلافات، التي كانت في الجاهليّة آخذِةً بحجز المجتمع، ومن خلالها مَزَجَ بين كلّ من المهاجرين والأنصار بشكل جَعَلَهم إخوةً أَشِقَّاءَ في كلّ من المشاعر والشعائر، وصار كلُّ فرد منهم عضوًا فعّالاً في الأسرة، وتلاشت الفوارقُ بينهم وأَصْبَحَ لكل من المهاجرين أخٌ مُواسٍ كلَّ المواساة من الأنصار ولكلّ من الأنصار أخٌ من المهاجرين يشاطره الآلامَ والأحلامَ لآخر الحدود؛ فالأنصاريُّ يعول أخاه المُهَاجِرَ ويقاسمَه مالَه ومُمْتَلَكاته، حتى أزواجَه أو إحدى زَوْجَيْه التي كان يُطَلِّقها ليُزَوِّجَها أخاه المهاجر. وكلُّ ذلك عن رضا قلبٍ، وطيبِ نفسٍ، لم تعرف المجتمعات الإنسانيَّةُ مثيلاً له من قبلُ، ولن ترى مثيلاً له ليوم القيامة، لأنّ المجتمع الذي أنشأه محمد صلى الله عليه وسلم كان فريدًا بين المجتمعات الإنسانيّة كلّها .
وكان ذلك عملاً دينيًّا روحيًّا وفي الوقت نفسه كان عملاً كانت له انعكاساتُه السياسيَّةُ البعيدةُ المدى، حَقَّقَ أهدافًا نبيلةً نابعةً من أساس العقيدة، ولاسيّما لأنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يكتفِ بإقامة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وإنّما عمد إلى يهودِ المدينة، ودعاهم بأطيافهم إلى الانضواء إلى ظلّ السلم والأمن من خلال معاهدة سياسيّة عَقَدَها بينه وبينهم، وكانت مَبْنِيَّةً على حريّة العقيدة والرأي، وحرمة المال والحياة، وتحريم الجريمة، والدفاع عن المدينة؛ ولكنّ اليهود – بما فُطِرُوا على إخلاف الوعد ونقض العهد، والخيانة والغدر– لم يحافظوا على نصوص المُعَاهَدة.
كما رَكَّزَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الحياة الدينية والروحيّة التي كان الهدفَ الأوّل الذي بُعِثَ من أجل تحقيقه؛ فبَادَرَ إلى بناء المسجد؛ الذي لم يكن مكانًا للعبادة فحسبُ، وإنّما كان كذلك مدرسةً للتعليم والثقافة، ومقرًّا للتوجيه والقيادة، وموضعًا للتشاور ودراسة القضايا ووضع الخطط، ومُنْطَلَقًا للجيوش الإسلامية إلى جميع أوكار الكفر، ومخابئ الشرك، وخلايا الباطل. وكان المسجدُ بسيطاً مُتَمَاشِيًا مع ظروف المجتمع المدنيّ، ولكنّه هو الذي خَرَّج قادةَ العالم، وسادةَ الدنيا، ومُعَلِّمِي الشرق والغرب، بفراشه الرمليّ الحصبائيّ، وحوائطه اللَّبَنِيَّة، وسقفه الجريديّ، وأعمدته الجذعيَّة.
وكذلك قَلَبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ظهرًا لبطن ومن الداخل والخارج الحياةَ الاجتماعيّةَ التي بدأت ملامحُ تغيُّرها تظهر بمجرد هجرته إلى المدينة؛ حيثُ انصهرت القلوبُ في بوتقة الإيمان، وارتبطت المشاعرُ برباط الإيمان، وتعلقت النفوسُ بالمسجد، وصَدَرَ الجميعُ عن المؤاخاة الصادقة، وقرابة الإيمان بالله الواحد الأحد الصمد، وحبِّ نبيّهم الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي حلَّ من قلوبهم مكانًا لم يحلَّه الآباءُ والأولادُ والأزواجُ، وامّحت العصبيّةُ من مجتمهم، وبرزت قِيَمُ العمل؛ فزاولوا التجارةَ والزراعةَ، وعَمِلَت المساواةُ عملهَا، واحتلَّ العلمُ والدراسة مكانةً قصوى، فانصرفوا إلى دراسة القرآن ومذاكرة العلم، وأخذوا يُطَبِّقون تعاليمَ القرآن وإرشادات النبيّ على حياتهم، واهتمّوا بحقوق الإنسان بأسلوب حيّ وشكل فاعل، وطَبَّقُوها بنحو دقيق، لأنّهم عرفوها واجباتٍ تُقَام، لاشعاراتٍ جوفاء تُرَدَّد فقط .
واتَّسَعَ المجتمعُ المدنيُّ الذي أَنْشَأَه محمد صلى الله عليه وسلم لكل الجنسيّات والأعراق والألوان دونما تفرقة وامتياز، وصار كباقة أزهار متعددة الألوان والأشكال، ينفح شذاها الطيب وعبيرها الساحر فتنعش المشاعر، فكان يضمّ هو القرشيَّ المكيَّ أمثالَ أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، واليمنيَّ مثلَ عبد الرحمن بن صخر أبي هريرة وطفيل الدوسيّ، والخليجيَّ مثل منقذ بن حيّان ومنذر بن عائذ، والحبشيَّ مثلَ بلال، والروميَّ مثل صهيب، والفارسيَّ مثلَ سلمان، والديلميَّ مثلَ فيروز. ورغم هذا الاختلاف في الأعراق والألوان كانوا وحدةً متراصّةً، بفضل إيمانهم الذي خالطت بشاشتُه قلوبَهم، وبفضل تربية نبيّهم التي سَوَّت بينهم، فلم يعد فضلٌ بين العربي القرشي، والفارسي والحبشيّ والروميّ والديلميّ العجم إلاّ بالتقوى والعمل الصالح، وصاروا جمعيًا عُظَمَاءَ بإيمانهم القويّ وأعمالهم المُخْلَصَة، مما أكّد أنّ الإسلام دينٌ عالميٌّ، وأنّ المجتمع الإسلامي مجتمعٌ مفتوحٌ، يتمتَّع بسعةٍ لا قِبَلَ لغيره من المجتمعات بها، مهما ادّعتْ وتطاولتْ.
ولقد اعتني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن استقرَّ بالمدينة المنورة، بتدريب حبيش قوامُه الإيمانُ، والكفاءةُ القتاليَّةُ اللائقةُ، حتى يتمّ صدُّ جميع الأعداء الطامعين في مكافحة هذا المجتمع المؤمن الذي استوى بأرض يثرب، والذي كانوا يَحْسَبُون له ألفَ حساب. وقد انتظم جميعُ الصحابة في سلك الجنديَّة التي تَمَهَّدَ طريقُها إليهم بشكل عفويّ؛ لأن الإيمانَ صاغ حياتَهم في بوتقة الجنديَّة الحازمة، كما أنّ آيات الجهاد التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم كانت تحثّهم على القتال في سبيل الله، وتُؤَكِّد لهم النصرَ المُؤَزَّرَ إذا تَقَيَّدُوا بعوامله والتزموا بأسبابه التي كان منها اجتنابُ التفرقة وعصيانِ الأوامر والتوجيهات التي كان يُصْدِرها إليهم قائدُهم وسيِّدُهم ونبيُّهم صلى الله عليه وسلم، وظلّ ذلك دستورًا عسكريًّا لهم في جميع المعارك الفاصلة التي خاضوها مع الكفرة والمشركين، حيث شَكَّل لهم أرفعَ التعليمات والمبادئ العسكريّة. واهتمّ الرسولُ القائدُ صلى الله عليه وسلم بتوفير كلّ ما كان يحتاج إليه الجيشُ الإسلاميُّ من أحدث ما وصلت إليه الاستراتيجيةُ الحربيَّةُ في المجتمع العربيّ البسيط آنذاك بل فوق ذلك؛ فقد صَرَّحَ ابنُ سعد في طبقاته الكبرى لدى الحديث عن وفد “ثقيف” أن عروة بن مسعود وغيلان بن سلمة لم يتمكّنا من حضور حصار الطائف؛ لأنهما كانا في رحلة علميّة إلى “جرش” يتعلمان صنعةَ العراوات والمجانيق. و”جرش” بلدٌ خارجَ الجزيرة العربيّة. ويدلّ على حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم على الاستزادة من الجيش والعتاد أنّ قوّةَ الجيش الإسلاميّ في غزوة “بدر” في العام الثاني من الهجرة كانت فقط ثلاث مائة وأربعة عشر جنديًّا؛ ولكنّها ارتفعت في غزوة “تبوك” في العام التاسع من الهجرة إلى ثلاثين ألفًا، وبلغت قوةُ الفرسان عشرةَ آلاف، بينما كانت في “بدر” اثنين فقط. ولقد تَمَكَّن المسلمون بعد الهجرة من السيطرة على طُرُق المواصلات العربيَّة كلّها ما بين الحجاز واليمن جنوبًا وماوراءَه من أرض الحبشة والشام ومصر في الشمال الشرقي، كما أقيمت سلسلةٌ من المعاهدات بين العرب المقيمين على طرق المواصلات؛ تكون عونًا للجيوش الإسلاميّة في المستقبل، كما شَكَّلَ ذلك تأمينًا للطرق التجاريّة بالنسبة للمسلمين. وكان ذلك كلُّه تغييراتٍ نَبَعَتْ من الهجرة، واتّسمت بطابعها التّقَدُّمِي وخَطَرِها الفاعل وأثرها البعيد، الأمرُ الذي كانت لا تعرفه العربُ من ذي قبل. ولا غروَ فهو النبيُّ الذي يُرْشِده الوحيُ الإلهيُّ، ويُؤَيِّده جبرئيلُ، ويكون اللهُ معه حيثما كان، والإيمانُ يصنع دائمًا المعجزات، ويُحْدِث الخوارقَ، ويُنْشِئ البطولات، ويَفْعَلُ ما لا يتصوّره الخلقُ، رغمَ كلّ الذكاء، وبعد النظر، وثقوب الفكر.
ولقد مَسَّ التغييرُ النبويُّ المعجزُ الشاملُ الناحيةَ الأخلاقيَّةَ للقوم؛ حيث اسْتَأْصَلَ ما كان مُتَجذِّرًا في المجتمع الجاهليّ من الأخلاق والعادات والتقاليد من الفخر الكاذب، والتّعالي بالجاه والمال، والطيش ولعب الميسر، و وأد البنات، وشرب الخمر، والتحارب والتقاتل دونما حقّ وبأدنى سبب، ووَضَعَ مكانَها الأخلاقيّات القرآنية من صدق وأمانة، وتراحم وإيثار، وتواضع و وفاء، ومواساة ومساواة، وتسابق إلى الخيرات، وتَخَلُّفٍ لدى استلام المغنم. الْتَزَمَ المسلمون هذه الأخلاقيات سلوكاً عامًّا في حياتهم، وتَعَامَلُوا بها في كلّ من المنشط والمكره، لأنّها تفجّرت من عقيدتهم، وتفاعلت مع بشاشتهم الإيمانيّة، فعادوا يُطَبِّقُونها على أنفسهم ومع جيرانهم، ومع الأصدقاء والأعداء معًا. وتَأَكَّدَت هذه الأخلاقيّاتُ لديهم بالممارسة العمليّة ، وبفعل الرسول الكريم الذي كانوا يحبّونه أكثر من حبّهم لأنفسهم، فصارت هي – الأخلاقيات – أحبَّ إليهم من جميع التقاليد والعادات التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم. وقد تَحَدَّث القرآنُ الكريمُ عنها مُتَمَثِّلةً فيهم ، وأفاض في الإشادة بها مُتَّسِمَةً بها حياتهُم، فقال:
وَالَّذِيْنَ تَبَوَّؤا الدَّارَ والإِيْمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُوْنَ فِي صُدُوْرِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوْتَوُا وَيُؤْثِرونَ عَلَى أنفسهم وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةً وَمَنْ يُوْقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولـٰـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (الحشر/9).
تلك كانت تعبيرًا عميقًا بليغًا عن ملامح عن التغيير الأخلاقيّ في المجتمع المدني الجديد الذي أَنْشَأَه محمد صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى مدينة “يثرب”. إنّه الواقعُ الذي عاشه الأنصارُ مع إخوانهم المهاجرين، في أعظم شكل من أشكال الحبّ والإيثار والصفاء الأخلاقي الذي لم يبلغه مجتمع إنسانيّ قبلهم ولا بعدهم.
إنّ الهجرة بمعانيها العميقة ، ودلالاتها الواسعة ، ظلّت وستظلُّ درسًا مُتَجَدِّدًا لكل الأجيال، وستنجح الأمةُ في معارك الحياة ، ومجالات الدين والدنيا ، قدرَ استضاءتها بها وقدرَ اتّباعها لآثار هذا الرعيل الأوّل من الأمّة الذي صَنَعَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مهده النبويّ والقرآن ينزل عليه، وهو يُبَيِّنُه له، وجبريلُ مُتَلاَحِقٌ تَرَدُّدُه عليه يحمل إليه الوحيَ الإلهيَّ، واتّصالُ السّماء بالأرض مُسْتَمِرٌّ، ليُحِقّ اللهُ الحقَّ، ويُتِمّ نورَه، ويُظْهِر كلمتَه .
(تحريرًا في الساعة 11 من صباح الجمعة: 7/محرم 1431هـ = 25/ ديسمبر 2009م)
نور عالم خليل الأميني
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، محرم – صفر 1431 هـ = ديسمبر 2009 م ، يناير – فبراير 2010م ، العدد : 1-2 ، السنة : 34