دراسات إسلامية
بقلم : أ. د. محمد محمد أبو ليلة
الإسلام دعوة عالمية تخاطب الإنسان أيًا كان لسانه أو جنسه أوثقافته أو هويته، والإسلام لا يخص أمةً بعينها ولا يستثني من عموم خطابه أمةً من الأمم أو فردًا من الأفراد، ولذلك فقد تنوعت الوسائل والطرق التي من خلالها عرض الإسلام دعوته على الناس جميعًا دون أن يفرضها على أحد أو يكره أحدًا على قبولها ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ البقرة: آية 256.
ومن البداية فقد قرر القرآن أن الناس جميعًا جاءوا من أصل واحد، يقول تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقِ﴾ العلق: الآيتان 1، 2.
فالإنسانية كلها يرجع خلقها إلى رب واحد وهو الذي خلق وتعهد ببقاء المخلوق إلى الأجل المسمى له، وهو الذي خيره وهداه وكما ينتهي أصل الناس جميعًا إلى تلك العلقة اللزجة المتماسكة والمتعلقة بأصلها؛ فإن الناس تتعلق أمور حياتهم بعضهم بعضًا، ويقرر الإسلام كذلك بأن الناس خُلِقوا مختلفين لا من حيث الخصائص الإنسانية وإنما من حيث المدارك والنوازع والقدرات والميول، وذلك حتى يتم التحاوج والتعاون وتبادل المصالح والأفكار والخبرات فيما بينهم على أساس هذا التنوع وهذه التعددية. يقول الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ المائدة: آية 48. وقد جعل الله تعالى الاختلاف والتنوع في الكون وفي خلق الإنسان من دلائل قدرته وحكمته، يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ الروم: آية22.
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ البقرة: آية 148.
يكثر الحديث اليوم عن الآخر ويتسع مداه وتصور أجهزة الإعلام الغربية وأبواق الداعاية السياسية هناك أن الإسلام دين ينكر الآخر ويسعى إلى التخلص منه وتعتبر هذه التهمة الباطلة أحد الركائز الأساسية للحملة البشعة التي يطلقها الغرب ضد الإسلام والمسلمين؛ إنهم يصورون الإسلام على أنه العدو اللدود للحضارة الغربية والمصارع العنيد لها.
والفكر الغربي يؤمن بضرورة فرض نمط الحضارة الغربية على شعوب العالم بالقوة والتخلص من كل أشكال الأنظمة القديمة، ونتيجة لذلك، فقد ظهرت دعوى صدام الحضارات ونهاية التاريخ والنظام العالمي الجديد وكل ذلك يصب في إناء الحضارة الغربية وينتهي إليها.
ولا يتردد الأمريكيون في تعميق الخلاف بينهم وبين الآخر، أو بين الغرب الذي يسميه الأمريكيون “عالمنا وبين الشرق الذي اعتبروه جزءًا متخلفًا من العالم وقد كان الغربيون عندما يشيرون إلى العالم الخارجي يقولون (هذا العالم الذي يقع هناك)”.
ومن الجدير بالملاحظة أن “كارل برث” عندما كتب عن الحالة الدينية لأوروبا لم يشر، هذا الكتاب إلى الأديان غير النصرانية إلا نادرًا”، وعلى سبيل إظهار الخلفية التاريخية للأديان السائدة في أوروبا، وحتى القرن التاسع عشر كانت أوروبا تعيش في عزلة دينية ولا ترى وضعًا “للآخر”(1) ففي عام 1860م على سبيل المثال عقد أكبر مؤتمر تمثيلي على أعلى مستوى بمدينة “ليفربول” بإنجلترا، في هذا المؤتمر لم ترد أية إشارة إلى ديانة أخرى غير الديانة المسيحية، ومن اللافت للنظر في هذا المؤتمر أن أحد المنصرين العاملين في الهند وفي بعض البلدان الأخرى الخاضعة للاستعمار الغربي آنذاك لم يشر إلى ديانات هذه البلاد وكما يقول “ديفيد لوك هيد” فإن معرفة الغرب بالديانات الأخرى كانت نتاج العزلة والاستعلاء، حتى في عصر تعدد الثقافات والعرقيات في أمريكا والدول الغربية؛ فإن هذه المعرفة الغربية بالديانات الأخرى لاتزال هي نتاج ثقافة العزلة الاجتماعية(2).
وفي هذا العام نفسه نشر قسيس إنجليزي كتابًا في إنجلترا قسم فيه الديانات إلى أرعبة أصناف هكذا أسماهم :
1 – الديانات الوثنية وتشمل الديانات القديمة للإغريق والرومان الديانات الحالية أو السائدة وتعني الهندوسية والبوذية .
2 – اليهودية التي حرفها الأحبار .
3 – المحمدية يعني الإسلام والذي يطلق عليه الكاتب “أكبر ديانة شرقية منتحلة كاذبة”.
4 – المسيحية ويقول عنها الكاتب “ديانة الإله الواحد” وهي تقف بعيدًا وبمعزل عن الديانات الأخرى، إنها هي الديانة الإلهية الوحيدة وأما الديانات الأخرى فهي من صنع الإنسان، والمسيحيين وحدهم هم الذين يعرفون الحقيقة وكل شعوب العالم ينتظرون حالة من الجهل لكي يسمعوا كلمة الحق(3).
هكذا الكلام واضح في الحكم على سائر الشعوب غير الغربية بالجهل والضلالة، ومن المفيد لإبراز هذا الموقف تجاه الشعوب غير الغربية المسيحية أن نشير غلى ما أجراه “هنري فيلدينج” على لسان أحد شخصيات روايته: “عندما أقول الدين فأنا أعني الديانة المسيحية، وعندما أقول الدين فأنا أعني الديانة المسيحية، وعندما أقول الديانة المسيحية فأنا أعني الديانة البروتستانتية وليست الديانة البروتستانتية على الإطلاق؛ بل إنني أعني الكنيسة الإنجليزية فحسب(4).
وإنكار الآخر أو معاداته إلى حد التعصب يكاد يكون أحد سمات الثقافة الغربية حتى في عصر العلمانية وفصل الدين عن الدولة، والآخر في الثقافة المسيحية الغربية لا يعني بالضرورة غير المسيحي؛ فقد بلغ الصراع بين الطوائف المسيحية في الغرب مبلغه من العنف والإرهاب حتى أن الموتى كانوا يحاسبون ويحرق رفاتهم؛ بل كان الإنسان يقتل لمجرد رأي رأه أو لاكتشاف توصل إليه، والحروب التي وقعت بين الكاثوليك والبروتستانت جد معرفة، والصليبيون الذين جاؤوا من الغرب لاستعمار الدول العربية، وبتخليص بيت المقدس بزعمهم كانوا ينظرون إلى المسيحيين العرب نظرةً دونيةً ويتهمونهم بالتجسس عليهم لصالح المسلمين، ولم يبد الصليبيون أي عاطفة دينية نحو مسيحي العرب ومسيحي الشرق بشكل عام، وقد اضطهد الرومان المسيحيين المصريين وضيقوا عليهم الخناق حتى ألجأوا القساوسة والرهبان المصريين إلى الصحارى ليلوذوا بالكهوف والغارات، واستمر هذا الحال؛ حتى جاء الفتح الإسلامي فاستدعى عمرو بن العاص البطريارك بنيامين (39هـ – 659م) واستقبله في موكب مهيب حتى أجلسه على كرسي الكنيسة القبطية المصرية الذي غاب عنه ثلاثة عشر عامًا وقد وضع الغرب محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم هدفًا لهجومهم الذي خرج عن حد الإنسانية لكي يبغضوه إلى عامة الأوروبيين ويجمعوا الجيوش على محاربة المسلمين.
وقد اعتبرت الكنيسة الغربية أي مخالفة لمعتقداتها تستوحي المروق من الدين وتعرض صاحبها لأقصى أنواع العذاب بتهمة الهرطقة؛ بل لقد كان يحتفل بهذه المجازر وتوضع صورها على جوار الكنائس، وفي كثير من البلدان المسيحية كان غير المسيحيين يجبرون على دخول المسيحية أو ينفوا من البلاد كما جرى في المجر على سبيل المثال على يد الملك “شارل روبرت” عام 40م، وفي أسبانيا أصدر المجمع السادس في طليطلة مرسوم حرمت فيه الكنيسة كل المذاهب غير المذهب الكاثوليكي، حدث ذلك قبل الفتح الإسلامي وبعد خروج المسلمين من الأندلس جاءت محاكم التفتيش فبلغت الذروة في نشر الإرهاب بين غير الكاثوليك(5).
وهذه أمثلة قليلة من تاريخ طويل للاضطهاد للآخر والعمل على التخلص منه؛ ولكن ينبغي ألا نقع في خطأ التعميم فنتصور أنه لم يوجد في الغرب نماذج كثيرة ممن يتسمون بالتسامح والتواصل مع الآخر.
مفهوم الآخر في القرآن الكريم :
ذكرنا فيما سبق أن الإسلام يتهم من قبل خصومه والمشنعين عليه في الغرب بأنه دين ينفي الآخر ولا يعترف به، والآخر كما هو في التصوير الغربي يعني النقيض أو الضد وهنا نتذكر نظرية “هيجل الفيلسوف الألماني” في حتمية الصراع بين الشيء ونقيضه هذا الصراع يعبر عنده عن حقيقة الوجود وعن الواقع، وقد سبقه “هرقليطس” إلى تصور الوجود باعتباره حاملاً للأضداد وجاء “كارل ماركس” فتبنى هذه النظرية وطبقها فيما يعرف بصراع الطبقات وحتمية انتصار البروليتلية أي طبقة العمال، وأخيرًا ظهرت دعوى صدام الحضارات ومقولة نهاية التاريخ والنظام العالمي الجديد التي تحاول الولايات المتحدة تطبيقها عمليًّا على أرض الواقع لغرض سيادتها وهيمنتها على العالم.
ولكى نبين تهافت هذه الدعوى الغربية العريضة ضد الإسلام والمسلمين ونتبين بالدليل والتحليل أبعادها وأهدافها وتجنيها على الإسلام؛ بل وعلى التاريخ والتراث والواقع وعلى مستقبل تاريخ البشرية نتكلم عن مفهوم الآخر كما ورد في القرآن الكريم ولننظر في البداية إلى هذه الكلمة لنرى ماذا تعني في التعبير القرآني وفي التصور الإسلامي بشكل عام.
وردت كلمة “الآخر” في القرآن الكريم بالمفرد والمثنى والجمع، وللمذكر والمؤنث، ومن هذه الكلمات ما استعمل في المدح ومنها ما استعمل في الذم أو في التقرير أو في التحديد أو في التضييق على سبيل المثال فأول ذكر للكلمة في القرآن جاء في آية واحدة جميعًا ومفردًا بقوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ التوبة: آية102.
ويقول تعالى في السورة نفسها وبعد أن أمر المسلمين بالإخلاص في العمل: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ التوبة: آية 106.
وهذه الآية نزلت في الذين تخلفوا عن السير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة وفرحوا بقعودهم بعد خروجه لثقل الجهاد على نفوسهم، فغفر لبعضهم وأرجأ بعضهم عن التوبة حتى تصح توبتهم وعودتهم إلى الله .
وفي الآيات 100-111 يتكلم الله عن “الآخر” ليس باعتبار أصله كإنسان كرمه الله تعالى وإنما باعتبار أفعال ضارة منكرة ومخالفة لشرع الله ليحذر الله تعالى منها أهل الخير والاستقامة، و”الآخر” المراد هنا هو المنافق تحديدًا، وهو يقابل المؤمن خالص الإيمان أو الصادق في أقواله وأفعاله.
والمنافقون المشار إليهم في الآيات نوعان :
النوع الأول: المنافق خالص النفاق الذي ينطلق منه وينتهي إليه لا يستطيع الخروج عنه أو التخلص منه لتمكنه منه.
أما النوع الثاني: فهم المنافقون المخلطون أي الذين يخلطون العمل الصالح بالعمل الطالح، والذين يغلبون عمل الخير إذا تهيأت أسبابه ودوافعه؛ أو يغلبون الشر إذا كان فيه مصلحة لهم، وهؤلاء قد يتوفر عندهم الشجاعة الأدبية، فيعترفون بذنوبهم، فيغفر الله لهم إذا كانوا صادقين، ولا يسد باب التوبة في وجوههم؛ بخلاف الذين اعتقدوا النفاق ومردوا عليه وتمرسوا فيه وتعودوا؛ فهم يحاربون المسلمين، ويحاولون تضليلهم وخداعهم حتى ولو اضطروا إلى بناء مساجد وأعلنوا إيمانهم ظاهرًا، فإن ما بنوه ليس له أساس؛ لأنه لا سند له من الباطن ولا من القلب .
وقد وصف الله تعالى مسجد الضرار الذي بناه المنافقون لإشاعة الكفر والتفريق بين المؤمنين، وإعداد لمحاربة المسلمين .
والآية تشير إلى “أبي عامر الراهب” الذي حارب النبي صلى الله عليه وسلم ومضى إلى “هرقل” وكان هو أحد المنافقين، فقال المنافقون الذين بنوا مسجد الضرار: نبني هذا المسجد وننتظر “أبا عامر الراهب” حتى يجيء ويصلي فيه، ولايزال خصوم الإسلام ينتهجون الخطط نفسها إلى اليوم الإسلام ينتهجون الخطط نفسها إلى اليوم للتشويش على المسلمين وبث بذور الفرقة بينهم .
والمنافقون ليسوا على ثقة من أفعالهم وأقوالهم؛ فهم شكالات مترددون ومتوجسون، وهكذا شأن أهل الباطل مهما كانت قوتهم والنفاق وإن اختلفت أنماطه ووسائله، فهو يرجع إلى أصل واحد، وقد ذكر الله تعالى المنافقين في القرآن في سورة كاملة تحمل اسمهم كما ذكرهم في آيات كثيرة كشفت أمرهم وأظهرت ضعفهم وتهافتهم وحيلهم .
وقد طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم المنهج القرآني في التعامل مع المنافقين؛ فلم يقرب أحدًا منهم أو يستعين به في أمور تضر بالدولة أو بالمسلمين، ولم يضعف المسلمون وتذهب هيبتهم إلا يوم أن مكنوا للمنافقين واستعانوا بهم ووثقوا فيهم .
وتأتي كلمة “آخر” في القرآن في معنى نفي الشريك عن الله تعالى يقول الله تعالى: ﴿اَلَّذِيْنَ يَجْعَلُوْنَ مَعَ اللهِ إِلـٰـهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُوْنَ﴾ الحجر: آية96.
فهذا تهديد إلهي لمن يشرك بالله تعالى أحدًا أو شيئًا في ملكه أو سلطانه أو علمه أو خالقيته وتدبيره، ويقول تعالى: ﴿لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلـٰـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوْمًا مَخْذُوْلاً﴾ الإسراء: آية 20، تنص هذه الآية على أن الشرك بالله مذمة ومذلة ومضيعة في الدنيا والآخرة، وتأتي آية سورة المؤمنون(117) لتبين أن من يدعو مع الله إلـٰـهًا آخر، فإنه لايملك البرهان على ذلك ولو أنه استعمل عقله لأدّى به إلى الإيمان الكامل بالله الواحد.
وتطلق كلمة “آخر” في القرآن للتعبير عن آخر مرحلة في خلق الإنسان يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلـٰـلَةٍ مِنْ طِينٍ * ثـُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظـٰـمًا فَكَسَوْنَا الْعِظـٰـمَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ المؤمنون: الآيات 12-14.
ومن استعمالات القرآن لكلمة آخر قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِيْنَ﴾ المائدة 7، فالآخر هنا هو قابيل الذي قتل أخاه بغيًا وحسدًا ويقول تعالى: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولـٰـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ النساء: آية 91.
ومعنى القتنة في هذه الآية الكفر والمحاربة للمسلمين، وفيها نص على أن الكافر إذا سالم ولم يتعرض للمسلمين بأذى يترك وشأنه، وإذن فمدار معاقبة الكافر، وصده مشروطة بتعديه على المسلمين ومقاتلتهم. وفي الآية 92 أيضًا نص على حم المسلم إذا قتل شخصًا غير مسلم خطأً، فإنه ينظر إذا كان المقتول مؤمنًا ولكنه يعيش وسط أعداء محاربين فإنه في هذه الحالة تكون ديته تحرير رقبة مؤمنة، أما إذا كان من قوم معاهدين أو ذميين، فتدفع الدية إلى أهله وتحرر رقبة مؤمنة، وأن من قتل معاهدًا أو ذميًّا قُتل به حتى ولو كان القاتل جماعةً؛ بل إن حكم الإسلام أن من كسر عظم ميت غير مسلم كان جزاؤه كسر عظامه(8).
“فالآخر” في الإسلام ليس مباح الدم، أو مسلوب العرض أو الكرامة لمجرد كونه آخر؛ فالآخرية في الإسلام لا تعني التضاد؛ وإنما تعني التكامل .
وفي هذه القرينة وبالإشارة إلى الآيات 88-104 من سورة النساء يأمر الله المسلمين بالهجرة لتحسين أحوالهم المادية والأدبية، ولم يشترط الإسلام على المهاجر المسلم أن يهاجر إلى بلد بعينه ولم يطلب منه أن يحول المجتمع الذي يهاجر إليه إلى الإسلام؛ بل عليه فقط أن يقوم بالبلاغ وألزم الإسلام أتباعه بحفظ العهد واحترام الذمم، وأن يكونوا مثلاً طيبًا لدينهم .
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “جُعلت لي الأرض مسجدًا وترابها طهورًا فأينما أدركتكم الصلاة فصلوا”، فالأرض بالنسبة للمسلم مسجد كبير وليست ساحة عراك ونزاع .
ومن الآيات التي وردت فيها كلمة “آخر” أو “آخرين” قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ الأنفال: آية 60.
فالإنفاق على إعداد القوة لحماية الأمة واجب شرعًا ومعنى “ترهبون” أي تحافظون على هيبة دولتكم بردع الآخرين عن التفكير في مهاجمتها أو الاعتداء عليها، وليس معنى كلمة ترهبون تنشرون الإرهاب وتقتلون وتروعون، فهذه المعاني كلها يرفضها الإسلام ويعاقب عليها، حتى ولو كانت ضد غير المسلمين؛ مالم يكونوا محاربين أو مغتصبين للأرض بالقوة.
ويهدد الله تعالى الطغاة بقوله: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ * إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ الأنعام: الأيتان: 133-134.
في هاتين الآيتين تحدكبير للمتكبرين الذين اغتروا بقوتهم وقواعدهم وثرواتهم فجاروا على حق الضعاف وتنكروا لهم، يقول تعالى مذكرًا هؤلاء الغطاة: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنّـٰـهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنـٰـهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ الأنعام: آية 6.
﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا سَبَقُوْا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُوْنَ﴾ .
﴿وَكَانُوْا يَنْحِتُوْنَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوْتًا آمِنِيْنَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِيْنَ * فَمَا أَغْنـٰـى عَنْهُمْ مَّاْ كَاْنُوْا يَكْسِبُوْنَ﴾ الحجر: الآيات 82، 74.
ولكننا نحن المسلمين ينبغي ألا نختبئ وراء هذه الآيات أو نرددها ولا نعمل بها وننتظر من الله أن يحقق لنا ما نريده دون أن نفعل ما يريده الله منا، فالله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَاْ بِقَوْمٍ حَتّىٰ يُغَيِّرُوا مَاْ بِأَنْفُسِهِمْ﴾ .
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنـٰـهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظـٰـلِمِيْنَ﴾ الأنفال: الآيتان 53، 54.
ويعبر القرآن عن الآخر كمقابل للمؤمن والطائع وذلك بعبارات كافر وكفار وكفور ومشرك وملحد ودهري ومنافق وفاسق وسفيه ومسرف وجبار.
ولفظة مسلم يقابلها في القرآن يهودي ونصراني ومجوسي وصابئ هذا إذا كان المقصود من الكلام الدين بمعنى الإعلان القلبي والعمل بالجوارح؛ والمسلم يشارك أهل هذه الأديان في أشياء ويختلف عنهم في أشياء أخرى بدرجات متفاوتة إذ أن الإيمان بوجود إله يسيطر على هذا العالم ويسيره حقيقةً يجتمع عليها أهل الأديان جميعًا، والقرآن يخبرنا بأنه ما من أمة إلا جاءها رسول من الله يبشرها وينذرها بلغتها، وأن الله جعل لكل أمة شرعةً ومنهاجًا وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة..” أي الدين الصحيح رواه أحمد والدارمي وأبوداؤود .
الآخر من أهل الأديان الأخرى :
يقرر القرآن الكريم أن الناس جميعًا قد خُلِقُوا من أصل واحد ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّاْ خَلْقْنـٰـكُمْ مِّنْ ذَكَرٍ وَّ أُنْثىٰ وَجَعَلْنـٰـكُمْ شُعُوْبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أتْقـٰـكُمْ إنَّ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ﴾ الحجرات: آية 13.
وفي الآية يبين الله أن العلة في الاختلاف بين البشر هو التعارف فيما بينهم، والتعارف يقتضي تبادل العلوم والمعارف والمنافع وبناء العلاقات الإنسانية فيما بينهم، وأن التفاضل بين البشر لا يكون إلا بتقوى الله والعمل الصالح ويقول تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً …﴾ النساء: آية 1.
فالله سبحانه وتعالى هو خالق الوحدة وخالق الكثرة جميعًا ويقول الله تعالى عن الدين الآخر: ﴿قُلْ يا أَيُّهَاْ الْكَافِرُوْنَ * لاَ أَعْبُدُ مَاْ تَعْبُدُوْنَ…﴾ سورة الكافرون.
ويحدد الله موقف الإسلام من الأديان الأخرى في قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّيْنِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ﴾، ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ آل عمران: آية 64.
وبالنسبة لليهود والنصارى فقد سماهم الله تعالى: يا أهل الكتاب باعتبار الأصل وبأهل الإنجيل وبأهل التوراة وبأمة موسى، وبقوم موسى وأطلقت عليهم السنة أهل الذمة والمعاهدين وضمت إليهم المجوس، يقول صلى الله عليه وسلم “سنوا فيهم سنة أهل الكتاب”.
وأباح الإسلام أكل طعام أهل الكتاب مالم يشتمل على شيء حرمه الإسلام كالخمر ولحم الخنزير، واباح استعمال أوانيهم والتزوج من نسائهم، وأثنى على الصالحين فيهم لاسيما قساوسة النصارى، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقباط مصر بخاصة لما لهم من نسب وصهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين، ونبه الإسلام على نقاط الخلاف بيننا وبينهم وخاطبهم في شأنها في أكثر من سورة وأكثر من آية؛ لكنه مع ذلك أمر بحسن معاملتهم والبر بهم وعدم إذايتهم بأي شكل من الأشكال حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم ريح الجنة على من يتعرض لهم بأدنى أذى، أو يحقرهم أو يكلفهم فوق طاقتهم أو يحرمهم من حقٍّ هُوَلهم.
ومن الآيات التي نزلت فيهم: ﴿ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيْسِيْنَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُوْنَ﴾ المائدة: آية 82.
﴿وَلا تُجَادِلُـوا أَهْلَ الْكِتـٰـبِ إِلا بِالَّتِــي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ العنكبوت: آية 46.
﴿لاَ يَنْهـٰـكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ الممتحنة: آية 8.
وأما عن الجزية التي كانت تحصل من غير المسلمين من أهل الكتاب الذين يشاركون الوطن مع المسلمين، فكانت أمرًا مدنيًا للمشاركة في خيرات المجتمع والدفاع عنه، وقد جاء في وثيقة المدينة التي قررت حقوق اليهود كاملةً وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين أي أنهم يشتركون مع المسلمين في الدفاع عن المدينة، ومما جاء أيضًا في هذه الوثيقة وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم..(9).
وقد كان العاجزون ورجال الدين يعفون من هذه الجزية وكذلك النساء والأطفال؛ بل كان رجل الدين ممن يفرض لهم معونة خاصة من بيت المال، كما جاء في وثيقة مكتوبة في العصر الأيوبي .
ومن الناحية العملية، فقد عاش اليهود عصرهم الذهبي في ظل الدولة الإسلامية وشاركوا بإيجابية هو والنصارى في بناء الحضارة الإسلامية، وفي كتاب الطبقات التي تؤثر لعلماء الأمة وأدبائها وشعرائها تجد ترجمات علماء اليهود وأدبائهم جنبًا إلى جنب مع علماء المسلمين، وقد طور اليهود لغتهم وأدبهم على مثال اللغة العربية وآدابها، وقد يعيش اليهود في “جيتو” أو حصون بين المسلمين؛ بل شاركوا في كل مرافق الحياة وفي الدواوين وبلاط الخلافة .
وأما عن غير الكتابي فإن الله تعالى قد أعطى هذا الحكم : ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِيْنَ اسْتَجَاْرَكَ فَأَجِرْهُ حَتّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثـُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهْ..﴾ التوبة: آية 6.
يقول الإمام محمد بن الحسن الشيباني في شرح كتاب السير الكبير للإمام السرخسي، والمستأمن يعطي الأمان ولا يخون(10).
وأما مصطلحات دار الإسلام ودار الحرب التي يشنع بها الغرب على الإسلام والمسلمين فهي مصطلحات فقهية زمنية أملاها أو يمليها الواقع وليس معناها أن غير العالم الإسلامي عالم محارب أو دار حرب بالنسبة للمسلمين؛ فالإسلام يدعو إلى وحدة البشرية وتجمعها على الخير ويشدد في تطبيق العمل بين الناس وينهى عن الظلم ولا يدعو إلى إزاحة الآخر، وحيث ما تكون مصلحة العالم يكون الإسلام .
المرتد
يشنع خصوم الإسلام على موقف الإسلام من المرتد، وإذا نظرنا إلى القرآن، فإننا نجد أكثر من عشرة آيات تتحدث عن المرتد والمرتدين دون أن يذكر في ايٍّ منها تحديد العقوبة التي يجب أن تُوقَّع عليه في الدنيا؛ فالقرآن ينبه على خطورة المرتد على نفسه وعلى المجتمع المسلم وعلى مصيره المحتوم في الآخرة، على سبيل المثال يقول تعالى : ﴿وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولـٰـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولـٰـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خـٰـلِدُونَ﴾ البقرة: آية 217، فليس في هذه الآية طلب توقيع عقوبة على المرتد. ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكـٰـفِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمِ﴾ المائدة: آية 54.
ويبين لنا الله أنه كان من خطط اليهود: أنهم كانوا يدخلون الإسلام ثم يخرجون منه ليشككوا المسلمين ويصدوا الناس عن الإسلام ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتـٰـبِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ آل عمران: الآيتان 72، 73.
ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتـٰـبَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كـٰـفِرِينَ﴾ آل عمران : آية 100.
ويبين الله لنا أن الردة من أعمال الشيطان يقول تعالى: ﴿إنَّ الَّذِيْنَ ارْتَدُّوْا عَلىٰ أَدْبَارِهِمْ مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى * الشَّيْطـٰـنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلىٰ لَهُمْ﴾ محمد: الآيتان 25، 26.
ولم يرد في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام حدًا على المرتد؛ بل إنه أقال “عيينة بن حسين” من بيعته عندما ارتد عن الإسلام ولم يعاقبه بالقتل كما جاء عن الواقدي، ثم عاد عيينة إلى الإسلام ظاهرًا وظل يبطن الكفر والنفاق باطنًا .
وأما حديثه صلى الله عليه وسلم “من بدل دينه فاقتلوه، فإنه يُحمل إذن على التعزير الذي قد يبلغ حد القتل”، وعلى تقدير الحاكم لمدى خطورته على الدين وعلى المجتمع ؛ فقد حارب أبوبكر الصديق المرتدين، ولم يهادنهم ولولا موقفه الحازم منهم لاستفحل خطرهم واستولى شرهم على الجزيرة العربية، واتفاق العلماء على أن المرتد يستتاب، وقد تمتد الاستتابة مدى الحياة. والاستتابة معناها مراجعته ومناقشته فيما يتوهم أو يدعي حول الإسلام، وليس معناه طلب التوبة؛ فإنه قد يتلفظ بها ظاهرًا ويظل في باطنه على الكفر، وفي مدة الاستتابة يعامل المرتد كعاص لله تُرجى عودته وتوبته .
في ضوء هذا كله يتبين موقف الإسلام من الآخر وهو موقف يتسم بالرحمة والتسامح والعدل والعمل على مصالح الناس ورعاية حقوقهم وعلى الحفاظ على هيبة الدولة الإسلامية والمجد الإسلامي بوجه خاص .
* * *
المصادر :
- Stephen Nel. Christi on faiths & other firths : The Chrigtion dialogue with other religion London. Oxford university press 1961. p.1 and 26.
- David Lech head, the Dialogical lperative, pp.5
- نفس المصدر ص 8.
- Tom Jones the strident parsonl and m. Bdu layla et.at-, faith meets faith, London, n8
- – محمد أبو ليلة – محمد S بين الحقيقة والافتراء في الرد على مكسيم رودينسون – القاهرة – دارالنشر للجامعات. وانظر أيضًا محمد أبو ليلة – الجذور التاريخية الجسور الحضارية – القسم الأول والقسم الثاني – المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية – محمد عمارة – الإسلام والآخر من يعترف بمن ؟ ومن ينكر من؟ مكتبة الشروق الدولية – 1423هـ – 2002م .. جى جى. 94 وما بعدها .
- – نازلي إسماعيل – هيجل الشعب والتاريخ، ص115.
- ابن كثير – مختصر تفسير – ج2 ص 169 وابن منظور – لسان العرب ج3 ص 177.
- محمد أبو ليلة – موقف الإسلام من أهل الذمة . باللغة الإنجليزية – مجلة كلية اللغات والترجمة .
- (9) – ابن قيم الجوزية – أحكام أهل الذمة. ج1 ص 224 وما بعدها ومجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة – جمع وتحقيق محمد حميد الله الحيدر آبادي – القاهرة 1956م ص 15 إلى 21. 10 – ج2 ص 33، 36.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، محرم – صفر 1431 هـ = ديسمبر 2009 م ، يناير – فبراير 2010م ، العدد : 1-2 ، السنة : 34