دراسات إسلامية
بقلم : أ. د/ عبد الفتاح مصطفى غنيمة
الحق أن تاريخ “بغداد” السياسي والاجتماعي والأدبي يُعتَبَرُ – إلى حد ما – تاريخ العالم الإسلامي في خلال حقبة من الزمان لا تقل عن خمسة قرون، ولم تصل مدينة من مدن الإسلام في تلك العصور الخالية إلى ما وصلت إليه “بغداد” من سعة العمران وعظمة الآثار، كما أنه لم تصب مدينة منها بما أُصِيْبَتْ به “بغداد” من الكوارث والجوائح .
فكما تضافرت الأيدي على عمرانها ورفعة شأنها، تضافرت الخطوب والعوادي على تمزيق أوصالها وطمس معالمها، حتى لم يبق من عمرانها القديم اليوم أي أثر يمكن أن يهتدي به الباحث المنقب إلى تعيين المواضع التي كانت تقوم عليها القصور الشاهقة والمباني الشامخة والمساجد الجامعة والمدارس العظيمة التي كانت تملأ سمع الزمان وبصره ولا يمكن أن ننسى المبادئ والقيم التي أخذ الخلفاء والأمراء بها لمناصرة العلم والعلماء، وكيف اشتدّ ولعهم في ذلك الزمان بنقل العلوم الأجنبية وترجمتها إلى العربية وتدوين العلوم الدينية واللغوية، حتى اكتظت “بغداد” بالنابغين في علوم الدين والعباقرة في العلوم اللسانية والمبرزين في فنون السياسة والحرب والنابهين في العلوم البحتة والتطبيقية، وكان كل من تفرد بضرب من ضروب المعرفة يلقى من الخلفاء ألوانًا من الإكرام وضروبًا من أشكال المنح والعطايا.
وفي هذه الفترة نبغ أئمة المذاهب الأربعة، ودون مذهبا مالك، وأبي حنيفة وزار “بغداد” الإمام الشافعي مرتين ولقي فيها الإمام أحمد بن جنبل، وفي هذه الحقبة تم تدوين الحديث واللغة، والشعر، والتاريخ، وظهر عظماء القراء، ونهضت حركة الترجمة نهوضًا مباركاً فغزت العلوم الكونية الفكر العربي وظهر أثره في جميع نواحي الحياة العباسية.
وكان الخلفاء – وبخاصة المأمون – يشجعون هذه الحركة بكل ما أتوا من قوة، ويرسلون البعثات إلى البلاد الأجنبية ليستحضروا الكتب، فيتلقفها المترجمون وينشرونها بين الناس بالعربية وكان الخلفاء يجلون العلماء ويحتفون بهم وبالغوا في إكرامهم وقربوهم وجالسوهم وآكلوهم وحادثوهم واهتموا بآرائهم فلم يبق ذو علم إلا اتجه إلى “بغداد”.
وقد تنافس الأمراء وعلية القوم في اقتفاء أثر الخلفاء في خدمة الأدب والعلم والناس كما يقولون على دين ملوكهم، فأنشأوا خزائن الكتب في قصورهم وسعوا إلى جمع الكتب، مجزلين العطايا لكل من ينقل لهم ضربًا جديدًا من المعارف، وقد أدرك أهل “بغداد” أن كل عز لم يسند بعلم فإن مآله الضياع فأكبوا على العلوم والآداب ينهلون من بحارها وحرص أرباب اليسار على تثقيف أبنائهم وأصبح التعليم صناعةً والتأديب طريقًا إلى المجد وسبيلاً إلى مؤانسة الخلفاء، وقد عمرت مجالس العلم والأدب وأمست دور الكبراء مقرًا للمفكرين والشعراء والأدباء وأهل الأخبار والطرف .
والحق أن العلوم العربية كلها تقريبًا قد وُضعت أسسها في العصر العباسي الأول وبعضها قد تم بناؤه في العصر العباسي أيضًا، وكذلك ترجمت علوم الأمم الأخرى وقد ظل المسلمون فترات طويلةً يعتمدون في حياتهم العلمية على تلك العلوم التي وضعت في “بغداد” هذا العصر وكان مما ساعد على تنشيط الحركة العلمية والنهوض بالثقافة الإسلامية ظهور صناعة الورق في “بغداد” وكثرة دكاكين الوراقين وكان أصحابها يقومون بنسخ الكتب وتصحيحها وبيعها.
ولقد ساعد على تنوع الثقافات الحرية الفكرية التي أظلت العقول في ذلك الحين نتيجة امتزاج العنصر العربي بغيره من العناصر الأجنبية الأخرى وكان الخلفاء يتركون للناس حرية المعتقد ولا إكراه في الدين، وكان المأمون يسهم في المناظرات الدينية ويحاور الفقهاء في كثير من الأمور ويقول لهم: إنما بعثت لكم معشر القوم للمناظرة، ثم يلقي عليهم مسائل الفقه ويرد على كل واحد منهم، وكان يخيرهم أن يسأله أو يسألهم، ويؤثر عنه أنه كان يجل علماء اليهود والنصارى ويحتفى بهم في مجلسه لعلمهم وثقافتهم في لغة العرب وحذقهم لغة اليونان والسريان .
وكان المأمون يرمي من وراء هذه المناظرات كلها إلى اجتماع الطوائف على ماهو أصلح للدين والحق أن هذه الحرية الفكرية التي أباحها المأمون للناس جميعًا كانت سببًا في انتشار الثقافة الإسلامية كثرة الفرق بين المسلمين وتمتع الناس في زمنه بحرية فكرية ودينية ليس لها أيّ مثيل في أيّ عصر من عصور الإسلام.
وقد كان من أثر اختلاف السكان في الدولة الإسلامية وتباين أصولهم وأجناسهم وامتزاجهم بالزواج والسكن وغير ذلك ودخول كثير من أفراد تلك الأمم الأجنبية في الإسلام ونمو الحضارة التي تتطلب الدراية الواسعة بشؤون الحياة من هندسة وطب وفلك ونظم الحكم السياسية ولغة الأدب والعلم، كان أثر ذلك كله أن انتشرت في الدول ثقافات مختلفة لأمم مختلفة، وكان لكل ثقافة رجالها البارزون الذين يحالون جهدهم نشرها والترويج لها وكان من مظاهر التنافس التقاء هذه الثقافات جميعًا رويدًا رويدًا لكي تمتزج بالثقافة العربية وتكون من مجموعها ثقافةً كبرى ذات لون خاص صُبغت بالصبغة الإسلامية وهو ما يعرف بالثقافة الإسلامية وهذه الثقافات التي اتصلت بالثقافة العربية.. الثقافة الفارسية والثقافة اليونانية والثقافة الهندية يُضَافُ إلى ذلك الثقافات الدينية كاليهودية والنصرانية .
وقد أقبل رجال هذه الثقافات الأجنبية على اللغة العربية فحذقوها حذقًا يدعو إلى الإعجاب الشديد ويحكي الجاحظ عن موسى بن يسار أنه كان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية يجلس في مجلسه المشهور به، فيقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية، وهذا مثل له نظراء كثيرون .
وأثرت البلاغة اليونانية في البلاغة العربية حيث عُرِّبَتْ كثير من الألفاظ اليونانية ونُقِلَتْ كتب يونانية إلى العربية، وقد ذكر بن النديم أسماء كتب كثيرة في الفلسفة والمنطق والطب والفلك والرياضيات والتاريخ التي ترجمت إلى لسان العربية ونحن نقرأ في كتب الجاحظ وابن قتيبة الكثير من حكم فلاسفة اليونان ولاشك أن هضم الثقافة اليونانية أنجب إخوان الصفا والفارابي وابن سينا وابن رشد .
وأما الثقافة الهندية فقد وصلت إلى العرب عن طريق الفرس ربما كان أهم ما عرفه العرب منها الإلهيات ويراد بها الدين ممتزجًا بالفسلفة والحكم وبعض الرياضات وشيئًا من الأدب والفن، وقد اندمج الهنود عقب الفتح الإسلامي في المسلمين واعتنق كثير منهم الإسلام وأقبلوا على تعلم العلوم الإسلامية، ونبغ فيها بعضهم، وظهر فيهم الشعراء وعلماء اللغة والمحدثون منهم أبو عطاء الساندي، وابن الأعرابي، وأبو معشر، وفتح بن عبد الله الساندي، وغيرهم، وقد ترجمت إلى العربية كثير من كتب الهنود وبخاصة ما يتصل بالكواكب والفلك. ومن المحقق أن كثيرًا من أصول “كليلة ودمنة” هندي ترجم إلى الفارسية ومنها إلى العربية مع زيادة على الأصل الهندي ويرجح ابن النديم أن قصة السندباد البحري هندية، وقد أشار ابن قتيبة إلى بعض المعاني التي اقتبسها الشعراء من الهنود .
وللديانتين اليهودية والنصرانية أثر كبير في الثقافة الدينية، والمعروف أن الإمبراطورية الإسلامية كانت تضم عددا كبيرا من أهل الكتاب ينعمون بحرية العمل والعبادة، وقد أثرى كثيرًا منهم وخالط المسلمون هؤلاء واتخذوهم أصدقاء، ولبعض شعراء المسلمين شعر يمدح فيه النصارى واليهود ويذكر لهم صفات كريمة وقد تسرب إلى المسلمين الكثير من ثقافة الديانتين من التوراة والإنجيل، وهما كتابان سماويان اعترف بهما الإسلام وورد ذكرهما كثيرًا في القرآن .
وكان أكثر المسلمين إلمامًا بهذه الثقافات أهل الكلام، ومن أجل هذا كان المتكلمون هم أصحاب اليد الطولى في المزج بين هذه الثقافات كلها فلا مندوحة من القول إذن أن اللغة العربية قد دخلتها عناصر كثيرة، فاستلزم ذلك أنماطاً من التفكير ومما يبعث على الإعجاب المقرون بالفخار أن نرى هذه اللغة البدوية قد فسحت في رحابها حتى وسعت ثمار كل القرائح .
من الصعب أن نفصل بين الفرد وثقافته؛ لأن الثقافة هي المصدر الأهم لفكره، فإذا كانت الثقافة إنسانية الملامح أخلاقية الاختيار والاتجاه.. فإن الفكر المتولد لابد وأن يكون وليد ذلك الاتجاه.. والحقيقة التي لايمكن إنكارها أن الثقافة الإسلامية هي أهم عوامل تكوين الشخصية العربية؛ لأنها تمثل الرؤية الفكرية والواقعية للإنسان العربي، وهي التي تسهم في تكوينه لا سيما عندما يحاول هذا الإنسان أن يختار لنفسه موقفًا سلوكيًا فإنه يختار من خلال تلك الثقافة أهم الملامح والتصورات، أن هوية الأمة العربية ترتكز أساسًا على وحدة الثقافة أكثر من ارتكازها على وحدة السلالة إنها أمة انصهرت في بوتقة ثقافتها العربية الإسلامية، شعوب وسلالات تكونت بهم أمة إنسانية غير مسبوقة في التاريخ. واللغة العربية هي وسيلة ذلك الانصهار الثقافي وأداته .
وتهتم الثقافة العربية الإسلامية على الثقة بالعقل البشري؛ لأنه أداة التكليف وهو يمثل قمة العناصر الإنسانية، فالإنسان يتميز بعقله المخاطب والمسؤول، والفكر لا يمكن أن يجد له واحة في الجسد الإنساني إلا في الساحة العقلية، ومن هنا فإن الثقافة الإسلامية تؤمن بالعقل وتستمد رؤيتها من القدرة العقلية؛ لأنَّ بقية القوى الإنسانية الأخرى لاتملك قدرات للتمييز.. وطالما أن العقول البشرية متفاوتة الإمكانيات وهذا التفاوت يمنع من وجود حقيقة عقلية واحدة.. فإذا تعددت الحقائق العقلية، فلا يمكن الحكم عليها إلا بمعيار عقلي، والمعايير العقلية متباينة.. والاجتهاد هو الطريق في جميع الأحوال لاستعراض حالات الخطأ والصواب، والمجتهد مأجور من الخالق جل وعلا في جميع الأحوال، والاجتهاد ضد جحود العقل عن أداء مهمته.. والاجتهاد هو بداية الطريق للإبداع كطلب ملح وضروري للنهضة والتطوير والتجديد.. والإبداع هو ظاهرة محدودة ومفيدة لكونه يعبر عن قدرات عقلية متفوقة.. والإبداع الذي ينطلق من ثقافة راسخة عميقة منسجمة مثل الثقافة الإسلامية .. يكون إبداعًا حقيقيًا ومفيدًا، والبشرية بحاجة إلى هذا النوع من الإبداع لكي تتمكن من تجديد فكرها وذاتها ..
وتتميز الثقافة الإسلامية بخصائص ذاتية تجعل منها ثقافة متجددة حية ذات طبيعة إنسانية تؤمن بالإنسان وتتفاعل مع قضاياه وترتقي بميوله واستعداداته وأهم خصائصها:
1 – احترام المصالح الاجتماعية: حيث لا تتجاهل الثقافة الإسلامية مصالح الإنسان وطموحه، وهي المعبرة عن همومه ومشاكله وآلامه.. ولذا فإن علماء أصول الفقه ربطوا بين الأحكام الشرعية والمصلحة، وحيثما تكون المصلحة يكون شرع الله، ولا يعترف الشرع بأي قوة تتحدى مبادئ العدالة ولا تراعى حقوق الضعفاء، فالشرع جاء لحماية الضعفاء من الأقوياء، والدين لايمكن أن يعترف بشرعية الظلم ولا يمكن أن يحمي الذين يتحدون المبادئ والقيم والأحكام .
2 – احترام العقل البشري وإنما إنسانية الإنسان: فالعقل هو الذي يقوم بدور التفسير للنصوص النقلية، ولا يمكن لنص نقلي أن يتجاهل دور العقل في استنباط الحكم؛ لأن الدليل يخاطب الإنسان المكلف، ومن أهم شروط التكليف العقل، ولذلك ارتبط التكليف به، فإذا ثبت أن الإنسان لم يثبت رشده العقلي بسبب مرض أو خلل أو جنون سقط التكليف لانتقاد الشرط الأساسي من شروط التكليف، وطالما أن العقول البشرية متفاوتة في القدرات والإمكانيات والمكونات، فما يراه مجتهد فيعصر قد لا يراه آخر في عصر لاحق أو ما سبق، وما يرتضيه فقيه في بلد قد لا يرتضيه آخر؛ لأن رؤية الإنسان للأشياء متفاوتة وليست واحدةً.. ولو تحقق التماثل والاتفاق في الرأي والاجتهاد لانتفت التعددية.. ولحكمنا على العقول بالجمود.. وهذا مناف لحقيقة الإعجاز في تنوع البشر وفي اختلاف خصائصها وملامحها توجهاتها .
والثقافة الإسلامية تحترم العقل البشري؛ لأنه أداة النماء الإثراء والتكييف والمواكبة، وهي لا يمكن أن تتجاهله.. لأنها إذا تجاهلته يتجاوزها ويتنكر لها؛ ولأن العقل هو الأداة التي تربط العلاقة بين الإنسان وأوامر التكليف، والجزء المخاطب مع الإنسان هو العقل فإذا وصف العقل بالعجز انتفت الفائدة من توجيه الأمر أو الخطاب إليه .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، محرم – صفر 1431 هـ = ديسمبر 2009 م ، يناير – فبراير 2010م ، العدد : 1-2 ، السنة : 34