دراسات إسلامية
بقلم : سعادة الشيخ الدكتور محمد بن سعد الشويعر/ حفظه الله
ومن تلك المعجزات:
1 – ما يتعلق بمجموعة من الصحابة، يعرف عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة صدق الإيمان وسلامة العقيدة، كالصحابيين اللذين تخلّفا، وخشي عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم اللحاق بأهل الريبة الذين ظهر نفاقهم بصفة جلية في هذه الغزوة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لايعلم إلا ما علّمه ربّه، والقلوب لا يعلم ما فيها إلا خالقها:
الأول: هو أبو خيثمة الذي رجع بعد ما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أيامًا إلى أهله في يوم حارّ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبرّدت فيه ماء وهيّأت له فيه طعامًا، فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه، وما صنعتا له فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشمس والحرّ والريح، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيّأ، وامرأة حسناء في ماله مقيم.. ما هذا بالنصف والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجهز نفسه، فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم قرب تبوك، فلمّا دنا قال الناس: هذا راكب على الطريق. فقال صلى الله عليه وسلم: “كن أبا خيثمة” فقالوا: هو والله أبو خيمثة، فلمّا وصل أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فدعا له بخير.
الثاني: هو أبو ذرّ الغفاري: ففي الطريق إلى تبوك، كان يتخلف الرجل بين الفينة والفينة فيخبرون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: “دعوه إن يك فيه خير، فسيلحقه الله وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه” حتى قيل: تخلف أبوذر، وأبطأ به بعيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.
فأخذ أبو ذرّرضي الله تعالى عنه متاعه من على ظهر البعير، وتركه وحمله على ظهره، ثم تبع رسول الله ماشيًا، فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد منازله فقال الناظر من المسلمين: يا رسول الله إن هذا الرجل ماشٍ على الطريق، فقال صلى الله عليه وسلم: “كن أبا ذر” فلما تأمّله القوم قالوا: هو والله أبو ذرّ.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث يوم القيامة وحده” وقد مرّ بنا شيء من حكايتيهما.
وقد مات رحمه الله في الرّبذة وحيدًا، ووضعه أهله على الطريق فمرّ به عبد الله بن مسعود وصلَّى عليه ودفنه، وترحّم عليه، وذكر لمن معه ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.
2 – قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لمن سأله عن شأن ساعة العسرة: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا وأصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن أحدنا ليذهب فيلتمس الرّحل، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع.. حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرًا، فادع الله لنا. فقال: “أو تحب ذلك؟” قال: نعم. قال: فرفع رسول الله يديه إلى السماء فلم يرجعها حتى تهيأت السماء، فأطلت ثم سبكت الماء، فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر. إسناده جيد. وقد ذكر ابن إسحاق بالإسناد: أن هذه القصة كانت وهم بالحجر، في الطريق إلى تبوك، وأنهم قالوا لرجل معهم منافق، ويحك، هل بعد هذا من شيء؟ فقال: سحابة مارّة.
3 – ضلَّت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبوا في طلبها، ولم يجدوها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمارة بن حزم الأنصاري وكان عنده: “إن رجلاً قال: هذا محمد يخبركم أنه نبيّ، ويخبركم خبر السماء، وهو لايدري أين ناقته؟ وإني والله لا أعلم، إلا ما علمني الله، وقد دلَّني الله عليها، هي في الوادي قد حبسها شجرة بزمامها”. فانطلقوا فجاؤوا بها. فرجع عمارة إلى رحله، فحدّثهم عما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبر الرجل، فقال رجل ممن كان في رحل عمارة، إنما قال ذلك: زيد بن اللّصيت وكان في رحل عمارة، قبل أن يأتي، فأقبل عمارة على زيد، يجأ في عنقه، ويقول: إن في رحلي لداهية، وأنا لا أدري، أخرج عني يا عدوّ الله فلا تصحبني.
4 – وروى الإمام أحمد رحمه الله بسنده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: لما كان يوم غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فننحر إبلنا فأكلنا وادّهنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم افعلوا. فجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، إن فعلت قلّ الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، وادع الله لهم فيها بالبركة، لعل الله أن يجعل فيها البركة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم.
فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم.. فجعل الرجل يأتي بكفّ ذرة، ويجيء الآخر بكفّ من التمر، ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال لهم: “خذوا في أوعيتكم”.
فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوها، وأكلوا حتى شبعوا.. وفضلت فضله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله لايلقى الله بها عبد، غير شاكّ فيحجب عن الجنة”.
5 – لـمّا مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر، وهي ديار قوم صالح عليه السلام: أمر أصحابه ألا يَخْرُجَنَّ أحد منهم تلك الليلة، إلاّ ومعه صاحب له، ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رجلين من بني ساعده خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعيره، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره، فاحتملته الريح حتى ألقته بجبل طيء. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: “ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له”.. ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفى، وأما الآخر فإنه وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، وفي رواية أن طيئًا أهدته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع إلى المدينة.
6 – أخبر صلى الله عليه وسلم أصحابه، أنهم سيأتون تبوك غدًا إن شاء الله، وأنهم لن يأتونها حتى يضحى ضحى النهار، وقال لهم: “فمن جاءها فلا يمسّ من مائها شيئًا حتى آتي” قال راوي الحديث وهو معاذ بن جبل رضي الله عنه، فجئناها وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك – من الكلأ الأخضر – تبضّ بشيء من ماء. يقول: ثم غرفوا من العين قليلاً قليلاً، حتى اجتمع في شيء، ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس.
7 – كانت تبوك عندما وصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قليلة السكان، وأرضها شبه جرداء، ومياهها قليلة، فجرت مياه عينها، كما في المعجزة رقم(6)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: “يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا – يعني ما حوله من أرض تبوك – قد ملئ جنانًا”.. وقد أخرج هذا الحديث مسلم في صحيحه، ومالك من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
والذي يزور تبوك الآن يرى حواليه الجنان العديدة الوارفة، والمياه الجارية، والخيرات الزراعية من كل نوع، حتى إن محاصيل المزارع الكبرى في تبوك تدفع بإنتاجها الوفير إلى خارج المملكة، وأوروبا فضلاً عن كبريات المدن في المملكة.
وقد كسبت مزارع استرا، وشركة تبوك الزراعية وغيرهما سمعةً كبيرةً في جودة الفواكه، ووفرة المحاصيل الزراعية وتنوّعها، وقد فاقت ما عرف بمثلها في بلاد الشام والبلاد المشهورة بالزراعة وهذا جزء من تحقق إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم في معجزاته، وقد يكون في المستقبل ما هو أكثر والعلم عند الله.
8 – وروى الإمام أحمد بسنده إلى أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك، حتى جئنا وادي القرى، فإذا امرأة في حديقة لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “اخرصوا” فخرص القوم، وخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، وقال صلى الله عليه وسلم للمرأة: أحصي ما يخرج منها حتى أرجع إليك إن شاء الله”.. ثم لما رجع وقال للمرأة التي في وادي القرى: “كم جاءت حديقتك؟”. قالت: عشرة أوسق.. خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان خرصه صائبًا قبل أن يحصد.
9 – ذكر ابن كثير رواية عن البيهقي بالسند إلى مالك بن أنس قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فطلعت الشمس بضياء ولها شعاع ونور لم أرها طلعت فقال: “يا جبريل مالي أرى الشمس اليوم طلعت بضياء ونور وشعاع، لم أرها طلعت فيما مضى”؟. قال: “ذلك أن معاوية بن أبي معاوية الليثي مات بالمدينة اليوم، فبعث الله سبعين ألف ملك يصلّون عليه” قال: “وممن ذاك؟” قال: بكثرة قراءته “قل هو الله أحد” بالليل والنهار، وفي ممشاه وفي قيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض فتصلى عليه؟ قال: “نعم”. قال: فصلى عليه ثم رجع.. ثم قال في هذه الرواية، ورواية أخرى، فيها نكارة.
10 – بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في تبوك رسالة إلى هرقل عظيم الروم، فلما قرأها أراد الاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه شاور قساوسة الروم وبطارقتها، فأبوا واستكبروا، فاستجاب لهم وأرسل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا مع رجل من تنوخ، عربي اللسان حافظاً للحديث، وأوصاه بأن يحفظ عنه ثلاث خصال:
1 – هل يذكر رسالته إليّ السابقة؟
2 – إذا قرأ كتابي هل يذكر الليل؟
3 – وانظر في ظهره هل به شيء يريبك؟
فلما وصل وسلّم الرسالة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضعها في حجره، وقال: يا أخا تنوخ إني كتبت بكتاب إلى كسرى، والله ممزّقه وممزق ملكه، وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فخرقها، والله ممزّقه وممزّق ملكه، وكتبت إلى صاحبك بصحيفة، فأمسكها فلم يزل الناس يجدون منه بأسًا، ما دام في العيش خير، فقال التنوخي: هذه واحدة من الثلاث التي أوصاني بها هرقل، ثم كتبها في جنب سيفه، ثم قرئت الصحيفة من هرقل، فإذا فيها: تدعوني إلى جنة عرضها السمـٰـوات والأرض، أُعدت للمتقين.. فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سبحان الله أين الليل إذا طلع النهار” فأخذ التنوخي سهمًا من جعبته، فكتبه في سيفه وقال: هذه الثانية. ثم لما خرج مع مضيفه الأنصاري.. ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تعال يا أخا تنوخ. فلما أقبل ووقف بمجلسه عليه الصلاة والسلام، ومثل بين يديه صلى الله عليه وسلم، حلّ النبي حبوته عن ظهره،وقال: “هاهنا امض لما أمرت به”. فجال بنظره في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بخاتم النبوة في موضع غضون الكتف، مثل الحممة الضخمة – أي موضع شديد السواد – رواه أحمد بن حنبل. فقال هذه الثالثة.
11 – بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة – وكان ملكاً عليها ويعتنق النصرانية – وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: “إنك ستجده يصيد البقر”. فلما وصل خالد إلى حصنه إذا هو محكم، وهو فيه في ليلة مقمرة، وكان على السطح ومعه امرأته، فجاء بقر الوحش إلى باب قصره، وباتت تحك باب القصر بقرونها، وكان مغرمًا بالصيد. فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟. قال: لا والله. قالت: فمن يترك هذا؟ قال: لا أحد. فنزل فأمر بفرسه فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له يقال له: حسّان. فركب وخرجوا معه يطاردون البقر، فتلّقاهم خالد بن الوليد، فأخذوا أكيدر الدومة، وقتلوا أخاه.
وكان على أكيدر قباء من ديباج مخوّص بالذهب، فاستلبه خالد، وبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه. فجعل المسلمون يتعجّبون منه، فقال صلى الله عليه وسلم: “أتعجبون من هذا، فوالذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة، أحسن من هذا”.
12 – ذكر البيهقي أن رجلاً من بني طيء، يقال له بجير بن بجرة قال في حكاية أكيدر:
تبارك سائق البقرات إنـي
رأيت الله يهدي من يشـاء
فمن يك حائدًا عن ذي تبوك
فإنا قد أمرنـا بالجهــاد
فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: “لا يفضض الله فاك” فأتت عليه سبعون سنة ما تحرك له فيها ضرس ولا سن.
13 – ذكر ابن إسحاق في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام في تبوك بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثم انصرف قافلاً إلى المدينة، وكان في الطريق ماء يخرج من وشل – وهو الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة ولا يتصل قطره – فلا يروى إلا الراكب والراكبين والثلاثة، في وادي المشقق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئًا، حتى نأتيه” فسبقه إليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه، فلم ير فيه شيئًا. فقال: “من سبقنا إلى هذا الماء”. فقالوا: يا رسول الله فلان وفلان. فقال: “أو لم أنههم أن يستقوا منهحتى آتيه”. ثم لعنهم ودعا عليهم. ثم نزل فوضع يده تحت الوشل، فجعل يصبّ في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا بما شاء الله أن يدعو، فانخرق من الماء، كما يقول من سمعه: ماء له حسًا كحسّ الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه.
14 – وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وادي المشقق لأصحابه: “لئن بقيتهم، أو من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي، وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه”.
وفي هذا نوجه كلمة للمدركين والمهتمين من أهل تبوك: هل وادي المشقق لا يزال باسمه القديم، أم تغيّر اسمه.. وهل وصله الخصب النماء والعمران، كما وصل غيره في المنطقة أم لا؟؟!.
15 – كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل وهو في غزوة تبوك، عمنّ يتخلف من الخارجين معه، يقول: “ما منع أحد أولئك، حين تخلف أن يحمل على بعير من إبله، امرءًا نشيطاً في سبيل الله، إن أعزّ أهلي عليّ أن يختلف عني المهاجرون والأنصار وغفار وأسلم”. وما ذلك إلا أنه عليه الصلاة والسلام يخشى على هؤلاء النفاق، الذي أظهره الله على أهله، في هذه الغزوة، لمكانتهم عنده، ولنصرتهم له عليه الصلاة والسلام.
16 – تمالأ نفر من المنافقين على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يطرحوه من رأس العقبة، في الطريق أثناء العودة من تبوك، عندما يجتاز بها عليه الصلاة والسلام، فأطلعه الله على أمرهم، فأمر الناس بالمسير من الوادي، وصعد هو من العقبة، ومعه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، وجاء ذلك النفر وسلوكها واعترضوا فيها متلثّمين، وكان عددهم اثني عشر رجلاً، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّارًا وحذيفة أن يمشيا معه: عمار آخذ بزمام الناقة، وحذيفة يسوقها، فبينماهم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهرهم وأبصر حذيفة غضبه، فرجع إليهم ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فأسرعوا حتى خالطوا الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: “هل عرفتهم؟” قال: لا لأنهم متلثمون وعرفت وراحلهم فقال صلى الله عليه وسلم: “هل علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب” قالا: لا. فأخبرهما بما كانوا تمالؤا عليه، وسماهم لحذيفة بن اليمان..؛ ولذا سُمي أمين سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أعلمه بالمنافقين في المدينة كلهم فيما بعد. فكان كبار الصحابة لا يصلّون على من توفي إلا إذا رأوا حذيفة صلّى عليه، وإن لم يصل عرفوا أنه من المنافقين فلا يصلون عليه.
17 – وعن هؤلاء المنافقين جاء في صحيح مسلم من طريق شعبة حديث منه قوله صلى الله عليه وسلم: “في أصحابي اثنا عشر منافقًا، منهم ثمانية لا يدخلون الجنة، حتى يلج الجمل في سمّ الخياط”. وفي حديث آخر أخبر صلى الله عليه وسلم عن مرض يصيب ثمانية منهم يموتون منه، بعد معاناة وألم، وهذا عقاب عاجل، كما في حديث قتادة رحمه الله مرفوعًا: “إن في أمتي اثنا عشر منافقًا، لايدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط، ثمانية منهم يكفيكهم الدبيلة، سراج من النار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم”. وجاء في رواية البيهقي: “إن اثنى عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد”.
18 – إن الله أطلع نبيّه صلى الله عليه وسلم على ما يضمره أصحاب مسجد الضِّرار، حيث جعله أصحابه الذين بنوه، وهم اثنا عشر رجلاً، وكرًا للفساد والكفر والعناد، فعصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من الصلاة فيه، وذلك أنه كان على جناح سفر لتبوك، فلما رجع من تبوك، نزل بذي أوان – مكان بينه وبين المدينة ساعة – وبعد ما استقر نازلاً في هذا المكان، أنزل الله عليه الوحي في شأن هذا المسجد [الآيات 107-110 من سورة التوبة].
وسمّاه الله ضرارًا، لأنهم أرادوا المضاهاة لمسجد قباء، وكفرًا بالله لا للإيمان، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله، وتفريقًا للجماعة عن مسجد قباء.
وبعد أن أطلع الله نبيه على مقاصد أهل هذا المسجد، أرسل عليه الصلاة والسلام رجلين لهدمه، وتحريقه بالنار فحرقاه وتفرّق أهله عنه.
19 – وفي هذه الغزوة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه صلاة الفجر، أدرك معه الركعة الثانية منها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب يتوضأ، ومعه المغيرة بن شعبة، فأبطأ على الناس، فأقيمت الصلاة، فتقدم عبد الرحمن بن عوف، فلما سلّم ورأى النبي صلى الله عليه وسلم يكمل ما فاته من الصلاة أعظم الصحابة ذلك. فقال عليه الصلاة والسلام: “أحسنتم وأصبتم” حسب رواية البخاري رحمه الله.
20 – وفي غزوة تبوك حصلت قصة الثلاثة الذين خلفوا، وما حصل لهم من بلاء وامتحان مدة خمسين ليلة، وتاب الله عليهم، كما حكى القرآن الكريم ذلك في قوله جل وعلا: ﴿وَعَلَى الثَّلَـٰـثَةِ الَّذِيْنَ خُلِّفُوْا﴾ [التوبة: 118].
21 – وفي غزوة تبوك أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصحابه، بسرّ هو من معجزات النبوة ففرحوا به لأنه بشارة بانتشار الإسلام، وغلبة المسلمين على الأمم ذات الجاه والسلطان، فقد روى البيهقي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو في تبوك: “هذه الحيرة رفعت لي بقصورها البيضاء، وهذه الشيماء بنت نفيلة الأزدية على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود”، قال الصحابي راوي الحديث: يا رسول الله إن نحن دخلنا الحيرة، فوجدتها كما تصف فهي لي؟ قال: “هي لك” قال: فلما قفلنا من حروب الردة، مع خالد بن الوليد إلى الحيرة، فأول من تلقانا حين دخلناها الشيماء بنت نفيلة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود، فتعلّق بها، وقال: هذه وهبها لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فطلب منه خالد البينة، فجاء بشاهدين هما: محمد بن مسلمة، ومحمد بن بشير الأنصاري فدفعها إليه.. ثم اشتراها منه أخوها: عبد المسيح بثمن باهظ.. ولو طلب زيادة لزاده.
فمثل هذه المعجزات التي يسوقها الله سبحانه للأمة، على ألسنة الأنبياء والمرسلين، هي من الله سبحانه تفضّل، وجزء من الوحي الذي يُوحيه الله للأمم بواسطة الأنبياء، لإبانة الحق، وإقامة الحجة على المعاند، وللأنبياء على أممهم توضيح من الله عز وجل، وبرهان على أن ما يأتي به النبي أمته، إنما هو من عند الله، وأن النبي لا يعلم إلا ما يعلّمه ربه، يقول تعالى موجّهًا نبيه محمدًا بأن يقول لأمته: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾ [الأعراف: 188](33).
خاتمة :
وبعد فإن هذه المعجزات التي ساقها الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك التي محّص الله بها القلوب، وثبت الإيمان، وانفضح المرجفون بنفاقهم، الممالئون لأهل الكفر؛ حيث جعل الله في غزوة تبوك مسببات، يتزعزع معها الإيمان الهش، ولا يصمد معها إلا الإيمان الصادق، كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ﴾ [الرعد:17].
وهذه المعجزات التي برزت في غزوة تبوك كانت مما زاد الله بها المؤمنين إيمانًا وتصديقًا وحسن اتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، وملأت قلوب المنافقين حقدًا ومعاندة فكانت هذه الغزوة وما نزل فيها من آيات كريمات في سورة التوبة: مجلية للأعمال الخفية، ومبرّزة لمكنون الضمائر، ومحبطة لدنيء الأعمال، حيث محصّ الله القلوب وبرزت النوايا. كما كان من المعجزات ما يزيد المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم في كل عصر إلى أن تقوم الساعة: ثباتًا وبرهانًا على صدق رسالته، وأنها من عند الله، وأما ما جاء به صدق ووعد حق.. حيث تبرز حقائق هذه المعجزات بين وقت وآخر، ونلمس في عصرنا هذا الشيء الكثير منها، وخاصة في مدنية تبوك رغم بعد المسافة بيننا وبين ذلك الزمن الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك، ومعه جيش الحق، الذي أرهب أضعافه المضاعفة من جيش الرومان، ومن يليهم من العرب، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله الكريم: أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: وذكر منهن: “ونُصرت بالرعب مسيرة شهر”. والله الهادي سواء السبيل.
* * *
الهوامش :
- في المعجزات يراجع الراغب: سيرة ابن هشام غزوة تبوك، البداية والنهاية لابن كثير السنة التاسعة من الهجرة ج 5 غزوة تبوك، وكذلك عند الطبري في تاريخ الأمم والملوك كما يراجع فيها من كتب التفسير: تفسير الطبري وتفسير ابن كثير في سورة التوبة.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، شعبان 1430 هـ = أغسطس 2009 م ، العدد : 8 ، السنة : 33