دراسات إسلامية
بقلم : الشيخ معوض عوض إبراهيم
يحار المرء وهو يحاول الكتابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أي دوانبه يبدأ.. وهو يرى نفسه أمام مثال الإنسانية الرفيع، وجماع الكمالات البشرية فلا يجاوز الحد إن هو رأى الأزل والأبد؛ بل ما تآلف فيهما واتصل من فضائل قد فضل ذلك وزاد عليه ما نواجهه ونحن نتأمل ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفاته وتصرفاته، فيما يبدو للناظرين من صلته بربه، وعبادته لمولاه، واستقامته على أمره سبحانه.
وفيما عرف أصحابه وأهله رضوان الله عليهم من أخلاقه، وفيما روته العصور من كلام المرسلين والمصطفين الأخيار عن ذلك الذي بقي سرًا في ضمير الغيب حتى وافى به مولده الشريف كما قال احمد شوقي رحمه الله
لقد ولدته وهاجاً منيـرًا
كما تلد السموات الشهابا
وأين صدق الخبر، وجمال الصورة، وبراعة التعبير ههنا من قول رب العالمين ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ الأحزاب/45 و 46 ولقد تنجلي الحيرة، وينقضي العجب، ويقوم مقامهما اليقين المطمئن بأن رحمة الله للعالمين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم هو خيرة الله من خلقه، وصفوته من عباده، ومناط تكريمه وإعزازه من بين رسله وأنبيائه فما ناداهم إلا بأسمائهم “يا آدم” “يا نوح” “يا إبراهيم” “يا موسى” “يا عيسى ابن مريم” لكنه سبحانه لم يناد محمدًا صلوات الله وسلامه عليه إلا بوصفي النبوة والرسالة؛ فلا تجد اسمه المجرد صلى الله عليه وسلم إلا في مجال الإخبار بمثل قوله تعالى ﴿مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ وَالَّذِيْنَ مَعَهُ﴾ الفتح/ وقوله: ﴿وَآمِنُوْا بِمَا نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ محمد/2 وقوله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُوْلٌ..﴾ آل عمران/144.
ثم لاترى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الله وفي الأحاديث القدسية إلا كما قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أرْسَلْنَاكَ..﴾ الأحزاب/45.
﴿يَاْ أيُّهَا الرَّسُوْلُ لايَحْزُنْكَ الَّذِيْنَ يُسَارِعُوْنَ فِي الْكُفْرِ﴾ المائدة/41.
ولقد اصطفى الله لخيرته من خلقه الأصلاب الكريمة، والأرحام الطاهرة فتم له من شرف النسب، وكرم المعدن ما كان إجابةً إلـٰـهيةً لأبي الأنبياء إبراهيم، وهو وإسماعيل – عليهما السلام – يرفعان القواعد من البيت : ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ البقرة/127-129 فكان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه ابراهيم وكانت أمته خير أمة أخرجت للناس منذ أرهفت للداعي الأعظم سمعاً، واستجابت لرسالته فرادى وجمعًا؛ فاستوجبت من الله تنويهه وإشادته بها مقرونةً في سمطه مع مصطفاه، موصوفةً بما وصفت به في الكتب الأولى، موعودةً من الله.. ووعده الحق بما ختم الله تعالى به قوله: “مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا” الفتح/29.
فمحمد رسول الله والصحابة رضوان الله عليهم في ذواتهم وارتباطهم بنبيهم، وتوادهم تراحمهم فيما بينهم وبين من تولى وكفر قد ضرب الله بهم الامثال وذكرهم في الكتب المتقدمة بأسنى مقال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذرية إبراهيم ، بعثه الله في الأميين رسولاً كما رجا الخليل عليه السَّلام ورسولاً إلى من وراءهم من الإنس والجن وما يدخل في نطاق “العالمين” التي تستوعب كل ما سوى الله سبحانه فقال تعالى “وَمَاْ أرْسَلْنَاْكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَاْلَمِيْنَ”.
وقد أخرج الإمام أحمد بسنده عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين”.
والإمام ابن كثير يورد الحديث من طريق آخر عن الإمام أحمد رضي الله عنهما حيث يقول: “والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام ولم يزل ذكره في الناس مذكورًا مشهورًا سائرًا حتى أفصح باسمه خاتم أنبياء بني إسرائيل نسبًا وهو عيسى ابن مريم، حين قام في بني إسرائيل خطيبا وقال: “إنِّيْ رَسُوْلُ اللهِ إلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّورَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُوْلٍ يَأتِيْ مِنْ بَعْدِيْ اسْمُه اَحْمَدُ” الصف/6 وردّ ابن كثير – رحمه الله – إلى هذه الحقيقة ما ورد في الحديث النبوي؛ ليتقرر في الأذهان أنه صلوات الله عليه، بشارة عيسى، كما هو دعوة أبيه إبراهيم، ورؤيا أمه أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام. وكان مولد محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه شهادة رسالة أبي الأنبياء، وأمارة ميلاد عيسى، على النحو الذي كان به وأمه عليهما السلام – كما قال تعالى:
“وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِيْنٍ” المؤمنون/50 .
ولقد بشر بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم المرسلون إسماعيل وموسى وداؤود الذي ذكر في التوراة ، بين ما ذكر عنه صلى الله عليه وسلم “أن اسمه موجود قبل الشمس”.
واشعيا النبي يحكي في التوراة عن الله قوله: “جعلت اسمك محمدًا” حتى قال “واسمك موجود منذ وكتاب الدين والدولة لعلي بن رَبَّن الطبري من علماء الأديان في عصر المتوكل العباسي من أحفل الكتب بنبوءات كثيرين من أنبياء بني إسرائيل غير من ذكرنا – بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مؤكدًا مالا يجادل فيه عاقل، ولا يماري، فيه غير جاهل، من نبوة يؤكد هذا العالم أنها لو لم تقم؛ لبطلت نبوة الأنبياء في إسماعيل، وفي النبي محمد عليهما السلام، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو كما قال ابن ربن الطبري “خاتم النبيين بالضرورة لأن الله عز وجل لا يخلف وعده، ولا يكذب خبره ولا يخيب راجيه. وكان الرسول وكانت الرسالة أحوج ما تكون الحياة إليهما، وكانت الأمة، كما رجا إبراهيم، وأمل المصطفون الأخيار، وكان الأبرار عصرًا بعد عصر يتحدثون بذلك، وكأنهم يرون الغيب من وراء ستر رقيق وصدق الله العظيم..
“لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ” آل عمران/ 164.
إنها مِنن تتصل وتكتمل على نحو لم يتكرر في بشر سبق النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولا بدا بعضه على مساحة أربعة عشر قرنًا من بعثته حتى الساعة لتتحقق فيه عالمية رحمة الله تعالى وهو سبحانه يقول “وَمَاْ أرْسَلْنَاْكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَاْلَمِيْنَ” الأنبياء/ 107.
فما من حجر ولا مدر ولا معدن ولا شجر، ولاشيء تدركه العقول وتبلغه خواطر الناس لهم فيه متاع وانتفاع، أخذًا وتركاً إلا استوعبه الدين الخاتم والرسالة الجامعة التي جلت بها منة الله تعالى بقوله “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِيْ وَرَضِيْتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِيْنًا” المائدة/3. وماذا وراء دين رضيه الله وأكمله وأتمه إلا أنه كان فضلاً آخر ونعمةً أخرى أصطفى الله لأدائها إلى خلقه خيرته منهم، وعهده إليهم أن تتعاقب في أقوامهم وصاياهم أن تؤمن به الأمة بعد الأمة، وتنصره الجماعة وراء الجماعة، فبر النبيون، واعطوا أقوامهم ما واثقوا الله عليه؛ ولكن أتباعهم خالفوا عن امرهم ونقضوا العهد ووقفوا من الاسلام موقفهم المشهود، فهل يعرفون اين هم من قول الله تعالى: “وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ” آل عمران/81.
إن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تزداد على مر العصور تألقًا وإشراقًا ووفاءً بمتطلبات رغد العيش وصفو الحياة وأمن الناس ورفاهيتهم، وهي دون سواها من شرائع وتشريعات قادرة على إعادة الوجود الإنساني إلى ما كان عليه في عصور آمنت بالله، والتزمت الإسلام منهجاً ودستورًا للحياة، ولن يصلح آخر هذه الامة إلا بما صلح به أولها.. وجزى الله في عليين وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين رحمة الله للعالمين محمدًا صلى الله عليه وسلم بما هو أهله.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1430 هـ = مايو – يونيو 2009 م ، العدد : 5-6 ، السنة : 33