دراسات إسلامية
بقلم : الدكتور علي المنتصر الكتاني
دخل الإسلام إلى الأندلس من 92 إلى 95هـ (711 إلى 714م)، وأهلها في سخط عارم، ضد حكامها القوط النصارى الثلاثيين، بينما كان معظمهم تابع لمذاهب مسيحية موحدة، مضطهدة من طرف الكنيسة الحاكمة. وهكذا انضموا إلى الإسلام عن طواعية وحماس، لدرجة أن بعض المفكرين الأسبان المعاصرين نعتوا الفتح الإسلامي للأندلس، بثورة إسلامية في الغرب(1). وهكذا دخلت منطقة لاتقل مساحتها عن 700,000 كيلومتر مربع، دار الإسلام طواعية، تضم معظم شبه الجزيرة الأندلسية، سوى منطقة جبلية في الشمال الغربي، كما تضم قسمًا مهمًا من فرنسا، أو الأرض الكبيرة، كما سماها قدماء المسلمين. فتكوّن مع السنين شعب أندلسي جديد، مسلم العقيدة، عربي اللغة، له خصوصياته، متأصل في بلده. ولم يكن ذلك الفتح الإسلامي غزو أمة لأخرى، وإجبارها على دين ولغة، لم ترتضيهما، بل الشعب الأندلسي نفسه اختار الإسلام دينًا، والعربية لغة حضارة، ورحب بالفاتحين المسلمين الأوائل ترحيب المقهور بالمنقذ.
انضمت الأندلس أول الفتح الإسلامي إلى ولاية المغرب في الدولة الإسلامية، وعاصمتها القيروان، (في تونس اليوم). ثم أصبحت ولاية قائمة بنفسها، وعاصمتها إشبيلية. ثم انفصلت الأندلس عن الدولة العباسية في المشرق سنة 138هـ (756م) تحت زعامة عبد الرحمن الداخل الأموي، الذي أسس دولة أموية في الغرب، واتخذ قرطبة عاصمته. وصلت الأندلس الأموية أوجها أيام عبد الرحمن الناصر (300-350هـ موافق 912-961م)، لكن مساحتها نزلت إلى 440,000 كيلو مترًا مربعًا بعد أن فقد المسلمون أربونة، وقرقشونة، وكل الأرض الكبيرة، وبمبلونة، وبرشلونة، وبرغش، وليون، وأبيط، وكل جليقية، وسمورة، وغيرها من مدن شمال غربي الجزيرة الأندلسية، تحت ضغط الفلول النصرانية، التي تنظمت في دويلات متحالفة ضد الوجود الإسلامي ودولته، أهمها قشتالة، ونبارة، وليون.
بدأ الضعف يسري في الدولة الأموية بعد وفاة المنصور ابن أبي عامر، حاجب هشام الثاني المؤيد حفيد الناصر، إلى أن انهارت سنة 422هـ (1021م) وانقرضت. فتجزأت الأندلس بين ملوك الطوائف، وصل عددهم إلى 23 ملكاً. فاغتنمت الدول النصرانية هذه التجزئة، وأخذت تحتل مدن الإسلام الواحدة تلو الأخرى، أهمها طركونة، وبراغة، وقلمرية، ومجريط، وخاصة طليطلة سنة 478هـ (1085م). فاستنجد الأندلسيون بأمير المسلمين بالمغرب يوسف بن تاشقين المرابطي، الذي استجاب لهم، وهزم النصارى في معركة الزلاقة، سنة 479هـ (1086م)، ثم قضى على ملوك الطوائف، وضم الأندلس إلى المغرب. لكن أرضًا شاسعة بما فيها طليطلة ظلت تحت حكم النصارى، وتقلصت مساحة الأندلس الإسلامية إلى 250,000 كيلومترًا مربعًا.
ولما ضعفت الدولة المرابطية، تجزأت الأندلس مرة ثانية إلى طوائف، فاستنجد الأندلسيون بالموحدين المغاربة، فأنجدوهم سنة 540هـ (1145م)، وضموا الأندلس للمغرب الموحدي، بعد أن ضاعت مناطق أخرى ومدن أهمها سرقسطة سنة 512هـ (1118م). ثم انهزمت الدولة الموحدية على يد النصارى في معركة العقاب سنة 609هـ (1212م)، فانقسمت المقاومة الشعبية ضد الجيوش النصرانية الغازية بين ابن هود، وابن الأحمر. لكن لم يستطع أحدهما إنقاذ قرطبة من السقوط في يد النصارى في 23/10/633هـ (29/6/1236م). وبعد وفاة ابن هود سنة 635هـ (1237م)، تابع ابن الأحمر مجهوده في توحيد الأندلس الإسلامية واتخذ غرناطة عاصمة له.
ولم يتوقف الزحف النصراني على الأراضي الأندلسية بسقوط قرطبة، بل احتل الأراغونيون النصارى بلنسية سنة 626هـ (1238م) ثم شاطبة ومنطقتها. واستسلمت مرسية، آخر معاقل شرقي الأندلس، للنصارى القشتاليين سنة 640هـ (1243م). فاستنجد الأندلسيون بالمغاربة، ولكن المغرب كان فريسة حروب أهلية، لم يتمكن معها من إنجادهم هذه المرة. ثم استنجدوا بالدولة الحفصية بتونس دون جدوى. فتابع ابن الأحمر مقاومته للنصارى، الذين حاصروا غرناطة نفسها سنة 643هـ (1244م). فآثر مصانعتهم، وقدم الطاعة لملك قشتالة، وقبل أن يؤدي له جزية سنوية، وأن يكون حليفه في كل حروبه، وأن يشهد اجتماع مجلس قشتالة النيابي. وسلم ابن الأحمر لقشتالة جيان ومنطقتها، ثم ساعدها على احتلال المناطق التي اعترفوا له بها، وأفظع ماحدث في ذلك، إعانته لها على غزو مدينة إشبيلية سنة 645هـ (1241م) ومنطقة غربي الأندلس(2).
وقضى ابن الأحمر، مؤسس الدولة النصرية، ما تبقى من حياته في توطيد مملكته وتنظيمها، وتوطين المهاجرين، إلى أن توفي سنة 671هـ (1272م) عن 76 سنة. وقد تقلصت دولة الأندلس في أقل من قرن إلى 30,000 كيلومترًا مربعًا، وهي المناطق التي تضم اليوم ولايات مالقة وغرناطة والمرية، وأقسامًا من ولايات قادس وقرطبة وجيان. وهي مناطق جبلية غير قابلة للزراعة، جعلت منها العبقرية الأندلسية مركزًا حضاريًا لايضاهى، زراعة، وصناعة، ومناعة.
أدت هذه الأحداث المأساوية إلى تغير جذري في الأمة الأندلسية. فكلما احتل النصارى أراض إسلامية، هاجرت الطبقة المثقفة، وأهل الصناعات والحرف، إلى ماتبقى من الأراضي الإسلامية في مملكة غرناطة. وبقي عامة الشعب تحت حكم النصارى، وكان الأندلسيون يسمون المتخلفين عن الهجرة من المسلمين (بالمدجنين) وقد نظم هؤلاء أنفسهم في جماعات إسلامية، بينما أصبحوا أقلية في عقر دارهم، إذ أتى الغزاة بمهاجرين نصارى لتعمير أراضيهم. وقد حافظ المدجنون على دينهم في ظروف صعبة تشبه العبودية. وضعفت مع السنين اللغة العربية بينهم، وأصبحوا يكتبون كتبهم ورسائلهم باللغة الأعجمية، وهي لغة قشتالية، أو كتلانية، أو أراغونية، مكتوبة بالحروف العربية.
أما سكان مملكة غرناطة فكان عددهم يساوي على صغر رقعتها، عدد سكان ما تبقى من الجزيرة الأندلسية، وكانوا جميعًا مسلمين، إذ لم تبق بينهم أقليات نصرانية، كما أن اللغة الأعجمية اندثرت بينهم، وأصبحت اللغة العربية بلهجتها الأندلسية هي لغتهم الوحيدة. وأصبحت مملكة غرناطة ملجأ الأندلسيين المدجنين وغيرهم، تستقبل كل سنة عددًا كبيرًا منهم ومن المجاهدين المغاربة.
حاول نصارى قشتالة غدر غرناطة واحتلالها فور وفاة ابن الأحمر، الذي أوصى ابنه وولي عهده أبو عبد الله محمد الفقيه بالتشبث بالمغاربة والتحالف معهم. وكان المغرب قد استعاد شيئًا من قوته تحت الدولة المرينية. فاستنجد أبو عبد الله بالسلطان أبي يوسف المنصور، الذي انتقل من عاصمته فاس إلى الأندلس على رأس جيش مغربي كثيف وألحق بالنصارى أشنع الهزائم سنة 674هـ (1275م)، ثم انتقل مرةً ثانيةً سنة 677هـ (1278م)، وثالثةً سنة 678هـ، ورابعةً سنة 684هـ، حيث توفي بالجزيرة الخضراء. ولم يقاوم المغاربة النصارى فقط، بل غدر السلطان أبي عبد الله كذلك، وأسسوا مشيخة الغزاة في غرناطة برئاسة شيخ من بني مرين لتنظيم المتطوعين المغاربة.
وتابع السلطان أبويعقوب سياسة والده، وواجه هو الآخر بصبر جيوش النصارى، وغدر السلطان النصري. فانتقل إلى الأندلس مدافعًا عنها سنة 690هـ. وتابع السلطان أبوعبد الله الفقيه جهاده ضد النصارى، بعد أن أفاق من غلطته، واستغفر عن زلاته إلى أن توفي سنة 701هـ (1302م). فاضطربت الدولة بعده، وتكالب عليها النصارى حتى كادوا أن يتغلبوا عليها.
وانتقل الحكم سنة 713هـ (1314م) إلى أبي الوليد اسماعيل من غير فرع ابن الأحمر، مؤسس الدولة. فوطد الدولة وأقر التحالف مع المغرب، وأراغون، ضد قشتالة، إلى أن أغتيل سنة 725هـ. فخلفه ولده أبو عبد الله محمد، الذي اضطر إلى الاستنجاد بالمغاربة ضد النصارى، فجاز السلطان أبو الحسن المريني إلى الأندلس، ونجح في تحرير جبل طارق من يد النصارى سنة 733هـ (1333م). لكن السلطان أبو عبد الله اغتيل بعد هذا النصر، فخلفه أخوه أبو الحجاج يوسف، فأحسن السيرة، وكان من أشهر وزرائه لسان الدين ابن الخطيب. ولما شد عليه النصارى، استنجد بالسلطان أبي الحسن الذي أرسل جيشًا تحت قيادة ابنه أبي مالك سنة 740هـ، فانهزم وقتل. فانتقل السلطان المغربي بنفسه، فهزمه النصارى في موقعة نهر سلادو في جمادى الأولى سنة 741هـ (1740م)، فوقع معسكره في يد الأعداء، وذبح أبناؤه. وكانت هذه آخر مرة جاز المغاربة فيها البحر إلى الأندلس. وابتدأ النصارى يحتلون المواقع الإسلامية الواحدة تلو الأخرى.
واضطربت أوضاع غرناطة بعد تلك الهزيمة. لكن مشاكل قشتالة الداخلية شغلتها عن الاستفادة من فوزها. وزاد الاضطراب بعد مقتل أبي الحجاج يوسف سنة 755هـ، إلى أن استقر الوضع لابنه أبي عبد الله الغني بالله بعد سنة 763هـ. فاجتهد في الدفاع الهجومي ضد قشتالة، والتعاهد مع المغرب وأراغون، والبناء والتشييد. وتابع ابنه أبر الحجاج يوسف سياسته. لكن بعد تولي ابنه أبي عبد الله محمد بن يوسف سنة 797هـ (1394م)، ومن بعده يوسف بن يوسف، عادت قشتالة النصرانية إلى الإغارة على الأندلس التي قاومت دون مساندة ترجى من المغرب، حتى احتلت انتقيرة سنة 812هـ (1409م). وزادت الأوضاع سوءًا بعد أن خلف السلطان يوسف ابنه أبو عبد الله الأيسر سنة 820هـ (1417م)، فكثرت الثورات وتدخلت قشتالة في إضرامها. وفي سنة 831هـ (1428م)، خُلِعَ السلطان الأيسر بعد أن عجز عن الدفاع عن وادي آش، ثم أعيد بعد فتن تدخلت فيها قشتالة وبنو سراج، إلى أن خلع سنة 845هـ (1441م) من طرف أبي عبد الله محمد الأحنف الذي رد غزوات النصارى إلى أن توفي سنة 863هـ (1458م)، وخلفه الأمير سعد بن محمد.
وفي هذه السنين المضطربة، المليئة فتنًا داخلية، وحروبًا متواصلة مع النصارى، استنزفت مملكة غرناطة قواها، وضاعت منها قلاع ومدن متعددة. وأدى تفكك الأسرة المالكة الكامل، وتشتت الطبقة المثقفة والحاكمة، وعدم ورع الكثير، من التعاون مع العدو النصراني القشتالي ضد خصمه المسلم، إلى سقوط غرناطة، بعد جهاد طويل متواصل دام قرابة القرنين. وهذه المرة توحدت القوى النصرانية في إرادتها للقضاء على الإسلام في الأندلس، بينما لم يتمكن المغيث المغربي من عبور البحر، خاصة بعد أن احتل النصارى للمرة الثانية جبل طارق سنة 867هـ (1462م)، وأحكموا قبضتهم على المضيق.
ففي سنة 865هـ (1463م) ثار أبو الحسن علي على والده الأمير سعد وخلعه، ودخل في حروب مع أخيه أبي عبد الله محمد الزغل الذي استغاث بالقشتاليين. فانقسمت المملكة الصغيرة، إذ استقر الزغل في مالقة وما جاورها بمساندة القشتاليين، وبقي أبوالحسن في غرناطة، بينما توحدت مملكتا أراغون وقشتالة النصرانيتان بزواج فرديناند أراغون وايسابيلا قشتالة سنة 879هـ (1474م). وحاول أبوالحسن سنة 883هـ تجديد الهدنة مع قشتالة وأراغون المتحدتين، فوافق النصارى شرط أن يعترف بطاعتهم، ويؤدي الجزية لهم. وعند رفضه اشتعلت الحرب من جديد بين غرناطة والنصارى.
وكان أبوالحسن أسير ملذاته وهواه. فتزوج فتاةً نصرانيةً اسمها ثريا، وهي ابنة قائد قشتالي اسمه سانشودي سوليس، وولد منها سعد ونصر، وأهمل ابنة عمه وولديها منه أبي عبد الله محمد (الريشيكو) وأبي الحجاج يوسف، ثم اعتقلهم في برج قمارش بقصر الحمراء. فعندما فروا من السجن، اغتنم النصارى الفرصة لإشعال حرب أهلية بين أبي عبد الله ووالده، واحتلال المزيد من الأراضي الإسلامية. فأغاروا على حامة غرناطة في محرم سنة 887هـ (1482م) واحتلوها، ثم زحفوا على لوشة فردهم أبوالحسن، لكن أهل غرناطة عزلوه وبايعوا ابنه أبي عبد الله.
ثم هاجم النصارى الزغل في مالقة في صفر سنة 888هـ (1483م)، فهزمهم وردهم عنها. وحاول أبو عبد الله استرجاع بعض الحصون من يد النصارى، فوقع في قبضتهم خارج قلعة اللسانة. فاغتنم الملك فرناندو والملكة ايسابيلا تلك الفرصة لإذكاء الحرب الأهلية، بين أبي عبد الله وعمه الزغل، الذي بايعه أهل غرناطة بعد سقوط أبي عبد الله في الأسر. فوقع أبو عبد الله معهما معاهدةً سريةً يتعهد فيها بالولاء لهما، ودفع جزيةً سنويةً، وترك ابنه رهينةً لديهما، مقابل مساعدتهما له على استرجاء ملكه. فأفرجوا عنه في شوال سنة 890هـ (أوائل 9/1485م)، وتابعوا غزوهم لمدن وقرى مملكة غرناطة، أهمها مدينة رندة في 5/890هـ (4/1485م).
واشتعلت الحرب الأهلية في قاعدة غرناطة نفسها، يدعوفيها الزغل إلى الجهاد ضد النصارى، بينما يعتقد أبو عبد الله أن السلامة في المفاوضات السلميّة، اتفق بعدها المتحاربان على اقتسام المملكة بينهما، يختص فيها أبو عبد الله بغرناطة ومالقة والمرية والمنكب، ويختص الزغل بالمناطق الشرقية. لكن النصارى تابعوا تقدمهم، فاحتلوا لوشة في 26/5/891هـ (5/1486م) وأسروا أبا عبد الله مرةً ثانيةً، ثم أطلقوا سراحه في شوال من نفس السنة، وأمدوه بالعدة والرجال ليحارب عمه. وركزوا بعد ذلك على احتلال الأراضي التي بيد الزغل المرابض في وادي آش بينما تظاهروا بمسالمة الأراضي الموالية لأبي عبد الله. فاحتلوا بلش مالقة في 5/892هـ (4/1487م)، ثم مالقة في أواخر شعبان عام 892هـ (أغسطس عام 1487م) بعد مقاومة مستميتة. فأمر الطاغية باسترقاق جميع أهلها الذين نجوا من القتل. ثم احتل النصارى باقي أراضي الزغل، ودخلوا عاصمته، وادي آش، في أوائل 2/895هـ (30/12/1489م)، وهاجر الزغل إلى تلمسان بالجزائر.
ولم يبق على النصارى للقضاء على دولة الإسلام في الأندلس، سوى الاستيلاء على ما بيد أبي عبد الله. ففي أوائل 2/895هـ (1/1490م) أرسل فرناندو سفارةً إلى أبي عبد الله يطلب منه الاستسلام. وبعد رفضه، تهيأت غرناطة لحصار طويل، وخرج إليها الطاغية في جيش ضخم في ربيع سنة 895هـ (1490م) فهاجم مرج غرناطة، ولكن ثورة أهل البشرات وتحرير بعض معاقلها كأندرش، أرغمته على الرجوع. ثم عاد بجيش ضخم إلى حاضرة غرناطة ووصلها في 12/6/896هـ (23/4/1491م)، وبنى قربها مدينة “سانتافي”، ثم أحكم حولها الحصار. وبعد أن يئس الغرناطيون من إمكانية الدفاع، ابتدأت المفاوضات التي انتهت بتوقيع معاهدة الاستسلام بتاريخ 21/1/890هـ(25/11/1491م).
تضمنت هذه الوثيقة 27 مادةً، تحدد أولاها ضرورة تسليم غرناطة قبل 25/1/1492م للملكين الكاثوليكيين، وتضمن المواد الأخرى حقوق المسلمين الأندلسيين بعد دخولهم في حكم النصارى، واحترام دينهم وعاداتهم، وعدم مصادرة أسلحتهم، وعدم إجبارهم على وضع شارات خاصة، وعدم استخدامهم دون رغبتهم، واحترام مساجدهم وعلمائهم، وضمان الحكم بينهم بالشريعة الإسلامية، وضمان الأوقاف الإسلامية وإدارتها بيد فقهائهم، وعدم إرغام أحد منهم على اعتناق النصرانية، والحفاظ على امتيازات قوادهم، الخ..
وقد ذيلت المعاهدة بتأكيد من الملكين الكاثوليكيين، ضامنين بدينهما وشرفهما القيام بكل ما يحتويه العقد. ثم ذيلت بتأكيد جديد موقع من ولي العهد، وسائر عظماء المملكة الأسبانية، باحترام المعاهدة من الآن وإلى الأبد. وفي نفس اليوم الذي وقعت فيه معاهدة تسليم غرناطة، أبرمت معاهدة أخرى سرية، يضمن فيها الطاغية وزوجه حقوق وامتيازات، ومنح السلطان أبي عبد الله وأفراد أسرته وحاشيته حق ملكية أبدية لمنطقة البشرات حول أندرش وعذرة، ومنحة قدرها ثلاثون ألف جنيه قشتالي، وأن يحتفظ بأملاك أبيه أبي الحسن، الخ..(3).
وقرر السلطان أبو عبد الله ورجاله تسليم غرناطة قبل التاريخ المتفق عليه، بعد أن خاف من غضب شعب غرناطة، فاتفق أن يكون التسليم بتاريخ 2/1/1492م. وهكذا سلمت الحاضرة الإسلامية بقصورها، وأرباضها، ومساجدها، وأسواقها، ومدارسها، وأهلها، للعدو الحاقد في يوم مشؤوم، وصفه القشتاليون في كتبهم وصفًا دقيقًا. واستلم الكاردينال مندوسة مفاتيح الحمراء من يد الوزير ابن كماشة. وكان أول عمل قام به الكاردينال عند دخول الحمراء هو نصب الصليب فوق أعلى أبراجها، وترتيل صلاة “الحمد” الكاثوليكية. وانتقل أبو عبدالله وأهله، بعد أن أكد ولاءه للملكين الكاثوليكيين، إلى أندرش حيث كان مقامه إلى حين.
وهكذا انقرضت دولة الإسلام في الأندلس، وابتدأت محنة الأندلسيين العظمى.
* * *
الهوامش:
(1) I. Olague “la Revolucion Islamica en Occidente” Espana.
(2) محمد عبد الله عنان، “نهاية الأندلس”، القاهرة (مصر)، 1966م.
(3) محمد عبده حتاملة، “التنصير القسري لمسلمي الأندلس في عهد الملكين الكاثوليكيين”، عمان (الأردن)، عام 1980م .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . صفر – ربيع الأول 1430هـ = فبراير – مارس 2009م ، العـدد : 2-3 ، السنـة : 33