الأدب الإسلامي
بقلم : الأديب الإسلامي العربي الكبير معالي الدكتور الشيخ عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
اللؤم صفة ممقوتة، وخلق منبوذ؛ يأتي في الدرجة الدنيا من عقد الرذائل؛ لا يتصف به إنسان إلا أصبح كالجمل الأجرب، ويحرص الناس على تجنبه، خوف أن يؤذيهم، أو ينقل عدواه إليهم دون أن يعلموا؛ لأن اللؤم قد يأتي مستترًا، كما يأتي ظاهرًا، والظاهر سهل تجنبه، وتفادي صاحبه، ولكن المختفي هو المخيف حقًا؛ لأنه قد لا يتبينه إلا القليل من الناس.
ومن الصعب تعريف اللؤم؛ لأنه خليط من رذائل ولا يحدده إلا ضرب أمثلة عن اللؤم، عمن اتصف به، مما جاء في التراث على ألسنة أناس متعددين، رصدوه وسجلوه فيما سجلوا في صورة أقوال محكمة، أو قصص متقنة. ويكاد يكون كل صاحب رذيلة لئيمًا، فالبخيل لئيم، والمغتاب لئيم، والمجرم لئيم، والمؤذي لئيم، وقِسْ على هذا كل عمل شرّير، أوفعل سيء.
وهذه الكلمة عجيبة في مدلولها حتى في اللغة الإِنجليزية، وهي طوع يد الشاتم متى أراد أن يطلقها؛ فهي كما تقول العامة “لاتقع على الأرض”، وإنّما تصيب مقتلاً، أو “مجرحًا” أو “مخدشًا”! وعند النطق بها يلتفت الناس إلى من وجهت إليه، وكأنهم قبلوا الحكم فيه، دون تحقق أو تأكّد، لكثرة نقائص الناس، وانطباق هذه الكلمة على كل نقيصة.
والكلمة قد خلط معها شيء من صفة الخبث والمكر والخداع، ولهذا عندما تقال يشعر السامع وكأن الموصوف قد خطط بخبث ومكر للرذيلة التي عيب عليه الاتصاف بها، وأنه لم يقع فيها دون أن يدري، أو دُفع إليها مجبرًا.
وتضعف هذه الكلمة وتقوى حسب العمل المشين الذي أقدم عليه المُنْتَقَد، إلا أنها عندما تطلق على أنها صفة دائمة في شخص؛ فإنها تأخذ موقعًا رأسيًا ثابتًا، فتلوِّن هذه الصفة كلَّ عمل يأتي منه، ولا يقبل منه عمل يظهره متصفًا بغير هذه الصفة، فصاحبُها مثل الكذاب، لا يعرف صدقه من كذبه؛ ولهذا فالمأمن منه أن يؤخذ كل كلامه على أنه كذب، ومثله اللئيم، إذا بدا منه عمل ظاهره جميل، تُوُقِّع أن هذا الظاهر ما هو إلا شباك نُصِب لعمل لئيم يكمن تحته، ويختفي بداخله، ويستتر خلفه.
وسنستعرض بعض الأقوال التي جاءت في التراث عن اللؤم، وما اعتبره الأولون لؤمًا. وسوف نجد أمورًا محددة في هذا الجانب، تبين نظرتهم إلى اللؤم، وما يتعلق به من الصفات الرديئة، والأخلاق المتدنية.
من المفكرين الحكماء، والساسة البارزين زياد ابن أبيه، وإذا قال قولاً التُفت إلى قوله بعناية واهتمام، وقوله الآتي فيه قوتان جاءتاه من طريق فكره الصافي، ومن تجربته الناجحة في حكم العراق، وما يقول هنا هو نبع ذينك الموردين الصافيين:
“قال زياد:
تأخيرُ جزاء المحسن لؤم، وتعجيلُ عقوبة المسيء دناءة، والتثبت في العقوبة ربما أدّى إلى السلامة منها، وتأخيرُ الإحسان ربّما أدّى إلى ندم لايمكن صاحبَه أن يتَلافاه”(1).
لولا الخوف من أن يشوِّه تكرار كلمة “اللؤم” قول زياد لعاد هذه الكلمة وصفًا لتعجيل عقوبة المسيء، لأنها رذيلة يمكن أن توصف باللؤم، ولكنه راعى أسلوب القول المعترف به.
وزياد الحاكم، الجزاء والعقاب أمران بمر به موجبهما كل يوم، بل لعله يمر به عدة مرّات في اليوم، واستقراؤه ذلك، وتبصره فيه، أوحى إليه بهذا الحكم المضيء، ثم أردف ذلك بتعليل قوي متين، ليزيل أي شبهة في أنه يرمي القول على عواهنه، أو أنه يقوله تسرُّعًا، أو أنّ رأيه فج لم يختمر وينضج؛ فذكر أن التثبت في العقوبة يعطي الفرصةَ للمتثبت أن يكون حكمه قائمًا على أرض صلبة، لا خطأ في تحديدها وحالها؛ فينجو من إثمها بأحد أمرين: إما أن يؤدّي به التثبت إلى إسقاط العقوبة، في وقت لم يكن الغضب مسيطرًا عليه، ورأَى في وقت متأخر، وذهنه مرتاح، وفي قواه الطبيعية، ما لم يره في وقت أعمى الغضبُ بصره وبصيرته، وفي وقت أخذته العزة بالإِثم، وأعطى الآن اعتبارًا لأمور هي مزالق للزلل، ومسارب للخطأ.
أو أدى به التثبت إلى وجوب إنفاذ العقوبة، وحينئذ ينفذها قلب مطمئن إلى العدل، وفي حدوده، فلا يبقى على صدره ما يثقله بالهمّ في أمر تمّ، ولم يعد بالإِمكان تفاديه. وهذا النوع من الهموم يبقى مع الإِنسان ليلَ نهارَ، وإن بهت فإنه عند الممات، وعند حشرجة الصدر، يبرز وكأنه حدث في تلك الساعة، فيزيد سكرات الموت سكرات.
وليس هناك أقوى من تأثير التعليل إذا ألحق بالحكم، إنه يصبح وسيلة الإِقناع الأولى التي تؤدي إلى قبول الأمر.
وإذا كان هذا ما قاله زياد، وهو الحكيم في أقواله، فهناك حكماء آخرون قالوا قولاً صائبًا في اللؤم، ودخلوا إليه من زاوية أخرى، وإليك أحد هذه الأقوال:
“قالت الحكماء:
أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام.
وقالوا:
المعروف إلى اللئيم أضيع من الرسم على بساط الماء، والخَطِّ على بسط الهواء”.(2)
اللؤم هنا في إنكار المعروف، ومسدي المعروف كريم، والمُقِرُّ به كريم، أما منكره فلئيم؛ لأنه لم يرتق إلى الدرجة التي دعي أن يقف عليها، وإنما اختار أن يكون في الحضين، والمعروف بذل وإعطاء، وثمنه الاعتراف به وشكره، وما أرخصه بجانب المعاناة في البذل، وعدم الأثرة عند من يجهد نفسه ليقوم بالواجب، ويُفضل الآخرين على النفس، هنا يَبرز العجز عن تصور تدني رذيلة اللؤم، لنتصور رجلاً مدّ يده إلى آخر في وقت عسرة، وبدلاً من شكره راح يقلل من عمل مسدي المعروف، بأن ادّعى بأن له هدفًا آخر غير مرئي، وهو المنّة والتطاول، وحتى يقول الناس إنه أعطى، وإنه كريم، وإنه صاحب نجدة، ثم يُغرق اللئيم في اللؤم، فيقول: أنا صاحب المعروف عليه؛ لأني قبلت ما امتدّت به يده إليّ، فأعطيته الفرصة لأن يَفخر، وأن يُمدح، فأنا مادة مدحه، وأنا سبب فخره؛ فأنا صاحب الفضل، ومُسدي المعروف، وأنا أحق بأن يشكرني؛ فلولاي، ولولا تنازلي وقبولي ما أعطاني لم يجد أرضًا يقف عليها فخره.
لهذا جاءت الجملة في نهاية النص، راسمةً صورةً معتبرةً لما عليه ناكرُ المعروف من الخواء، فمثل زرع المعروف في الحقل المجدب، بمن يرسم على وجه الماء، وهل هناك أضيع منه إلا من يخط بقلمه على بساط الريح.
من هذين الموقفين المتضادين تأتي العداوة، والذي بدأها، وزرع بذرتها، وسقى نبتها هو ناكر المعروف؛ لأن في نفسه صفة تجعله لا يقبل الخير، بل أعطته هذه الصفة مقدرة على قلب الخير إلى شر، والطيب إلى سيء، والجميل إلى قبيح؛ فهو قادر على تحوير النور إلى ظلمة، بإطفاء شمعات الضوء، وقادر على تشويه الجميل، أو تغيير معالمه أو محوها أو طمسها.
وعدي بن حاتم ممن يأتون بالقول الرصين، والفكر المنير، وأقواله الحكيمة يتلقفها معاصروه فيتأدّبون بها، ويختارها الأدباء والمفكرون فيدوِّنونها، وينشُرونها بين الناس، وتصل إلينا مضيئة صادقة.
ولعدي قول في اللئام رسمه في صورة معبّرة، وقد جاء بقوله عنهم من زاوية اختارها عن تجربة، وهو بهذا الاختيار يؤكد ما قلناه من أن اللؤم خَدِين كل رذيلة، وملتصق بكل عمل سيّء، فهو يتلوَّن بهذه الألوان التي تظهر بها هذه الرذائل.
وقد اختار عدي بن حاتم رذيلةَ الغيبة، ويا لها من رذيلة، واللؤم فيها مسيطر عليها، وعلى القائم بها، ومجلل لها بجلال عفن، وهي الرذيلة التي تعد من أسوأ أدواء المجتمعات، ولا يكاد يخلو مجتمع من تعكيرها صفوهُ، لما في طبيعة الناس من انجذاب إليها، سواء كانوا مغتابين، أو مستعمين للمغتاب:
قال عدي بن حاتم:
“الغيبة مرعى اللئام”.(3)
ما أدق هذه الصورة التي اختار عدي أن يرسمها بفرشة الاستعارة هذه. إنه رسم الغيبة مرعى فيه العشب المطلوب للغذاء، والماء المنعش، المطفئ للظمأ؛ فالدابة إذا دخلته كيف تستطيع مقاومة البقاء فيه، إنها لا تقاوم، بل تستسلم وتبقى ترعى وترعى وتشرب وتستريح فيه؛ لنتصور أن الحقل أعراض الناس، والبهيمة الراعية هي اللئيم. إن اللؤماء يجدون في الغيبة مرعاهم، وفيه تروج بضاعتهم .
رعى رجل في عرض محمد بن سيرين، وتمتع وقتًا باغتيابه، واستيقظ ضميرُه، أو خشي أن يصل ابنَ سيرين الخبر، فَسَارع يطلب عفوه، فماذا قال له ابن سيرين؟ لقد أجابه جوابًا يُنتظر مثلُه من مثل ابن سيرين: عالمٍ، قاضٍ، واعظٍ:
“قال رجل لابن سيرين: إني وقعتُ فيك، فاجلعني في حلّ.
قال: لا أحب أن أحل لك ما حرّم الله عليك”.(4)
إنه جواب عالمٍ، وحكم قاضٍ، ورأي فقيهٍ، وردُّ ذكيٍّ، وما للئيم المغتاب إلا مثل هذا الجواب، من مثل هذا العالم المرموق.
واللؤم له مظهر آخر، لَحَظَهُ من لَحَظَهُ فسجّله، وأدخله في القائمة التي من اتّصف بما فيها عدّ لئيمًا، وقد قال عن ذلك بعض الحكماء ما يأتي:
“ما استبّ رجلان إلا غلب ألأمُهما”.(5)
لأن السباب في حد ذاته مُنْتَقَد، ولا يدل على قوة عقل، أو حسن أدب، فالمتوقع أن الإِنسان الذي يرعى سمعته، ويحافظ على اسمه، يتجنب الدخول في المهاترة، مهما كان سببها، وأن يكون في موقف من يتغاضى، ويسامح السفيه، أما أن يحاربه فهذا يجعله في كفة واحدة معه، وما دام العمل هذا منتقدًا، فإن من يجيد فيه، ويغلب غريمه، فإنه يكون أسوأ الاثنين، وينصرف إليه اللؤم، أكثر من الآخر.
وأصحاب السباب لا يكتفون بالحقائق وذكرها، ومقارعة الحجة بحجة حقيقيَّة صافية، ولكنهم في مرحلة من مراحل السباب ينفد ما عندهم، فيعمدون إلى الاختلاق، فيكثرون منه، وإلى الافتعال فيقدمونه ويرجحونه، ويدخلون في حدود المهاترة والبهتان، والكذب والافتراء.
هذه الصورة التي جعلت أحد الحكماء يصدر حكمه بأن الغالب في السباب هو اللئيم، لأنه يكون قد جاء بأمور غير حقيقية، ورَجَح على صاحبه في هذا الجانب، وأسكته، فغلبه باللؤم.
وهناك قول آخر يعضد هذا القولَ، ويرمي إلى ما يرمي إليه:
“كان يقال: الغالب في الشر مغلوب”.(6)
ولأن المنافسة هي في الشرّ، فإن من يوفِّى الشرَّ حقَّه، ويزيد من إتقانه له، يكون حظّه من الشر أوفى؛ وخاب وغُلِبَ من كان أوفى الناس في الشر.
ونستطيع أن نتصور منافسة بين خيّر وشرير، فإنه وإن كان يعز علينا أن يغلب الشرير، ونتألم عند ذلك، ولكن هذا الرجحان زائف؛ لأنه أنقص ما في كفة الخير، وزاد في كفة الشر، وبئس المجتمع الذي يرضى بهذا، ولا يأخذ على يد الشرير، والصورة التي تبقى في الأذهان عن هذا القول أن واحدًا من المتواقفين أخذ الشر، وذهب به، والآخر أخذ الخير وذهب به، فالظافر اعتباطاً معروف، والمنتصر الحقيق واضح.
ويكفي الشريرَ أن يعرف أن لم يحصل إلا على الشر، فإن أدرك فيما بعد الأمرَ فإن الشرّ سوف يبقى عِبْئًا ثقيلاً على ضميره، وإن لم يدرك فلا بد أنه خسر مجتمعه إذا كان مجتمعًا سويًا. أما إذا لم يكن كذلك فهو ومجتمع الحقود واحد.
الأعمال، التي يأتي ضمنَها اللؤم، أو تتصف به كله، كثيرة؛ ولكننا نكتفي بما ذكر في النص على أنه لؤم، قولاً كان ذلك أو فعلاً، حتى نعطي الصورة الحقيقيَّة عن نظرة تلك المجتمعات إلى اللؤم وأقسامه.
ولعل اللؤم لم ينفع صاحبه في يوم من الأيام مثلما نفعه في موقف مع الحجاج، وكان الإقرار باللؤم، والاعتراف بالاتصاف به، نجاة له، وعتقًا لرقبته. وهذا يؤكد صدق المثل الإِنجليزي في بعض الأحيان: “كل غمامة سوداء فيها بطانة بيضاء”، والقصة تروى هكذا:
“قال عيسى بن عمر: رمي الحجاج فقال: انظروا من هذا؟
فأومأ رجل بيده ليرمي، فأخذ فأدخل عليه، وقد ذهبت روحه.
قال عيسى بصوت ضعيف يحكي الحجاج: أنت الرامينا منذ الليلة؟
قال: نعم أيها الأمير.
قال: ما حملك على ذلك؟
قال: الغَيُّ والله واللؤم.
قال: خلّوا عنه. وكان إذا صُدق انكسر”.(7)
هذا رجل اعتدى على الحجاج، واعترف أنّ عمله غي ولؤم، وليس بعد إقراره مزيد من صحة الحكم؛ فهو أعرف بنفسه، ولا يبدو أن هناك تعليلاً أصدق من هذا، والصدق من الأمور التي تُعجـِب الحجاجَ، إلى الحد الذي أسقط معه الحجاج العقوبة، رغم فداحة الجرم.
* * *
الهوامش:
- تمام المتون: 94.
- تمام المتون: 378.
- بهجة المجالس: 1/398.
- بهجة المجالس: 1/398.
- بهجة المجالس: 1/418.
- بهجة المجالس: 1/418.
- عيون الأخبار: 1/180.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1429هـ = سبتمبر – أكتوبر 2008م ، العـدد : 10-9 ، السنـة : 32