بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ “حكيم الأمة” المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
فيما يتعلّق بالعمل هناك نوعانِ من الناس، نوعٌ لايهتمّ إلاّ بتصحيح العقيدة، ولا يعير العملَ وزنًا ما ؛ فهم لايُهِمُّهم إصلاح العمل والإكثار من الأعمال. ولو قال هؤلاء: إن العقيدة تفوق العملَ، لما كانت بنا حاجةٌ إلى مخالفتهم ؛ لأننا نحن الآخرون لا نُنْكِر ذلك؛ فيصحّ أن العمل فرعٌ عن العقيدة ؛ لكن ذلك لايستلزم أن العمل لا حاجةَ إليه، هل المفضَّلُ عليه يكون لاغيًا زائدًا عن الحاجة، أفلا ترى أنّ الأغصانَ فرعٌ عن الأصل؛ لكنّه لايُوْجَدُ أحدٌ يقول بأنه لاحاجةَ إليها؛ لأنّه يعلم أنّ الشجرَ لايُثـْمِر بدون الأغصان والفروع ، مهما كان أصلُه ثابتًا في الأرض. وكذلك فافهم ههنا؛ حيثُ إنّ العقيدة المُجَرَّدَةَ من العمل لاتُثـْمِر بحال، إنّها خاليةً من العمل لاتفيد ما هو مطلوب لدى الشارع، وإنْ حَصَلَتْ بعضُ الكيفيّات في إهمالٍ للعمل؛ لكنّها – الكيفيات – ليستْ مقصودةً بالذات. إنّ الثمرات المقصودة لدى الشارع أصلاً، لن تتحق بدون الأعمال، لأن الأخبار الواردة من الشارع تؤكّد لنا أنّه لن يتأكّد تحقّقُ الثمرة المقصودة بدون صحّة كلّ من العقيدة والعمل ، وإن حصلت للبعض بصحة الأصل أي العقيدة ؛ ولكن ذلك غيرُ مُؤَكّد لكون الوعد بذلك غيرَ وارد في الشرع.
إنّ هؤلاء حفظوا آيةً من القرآن الكريم: “هَلْ يَسْتَوي الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لاَيَعْلَمُوْنَ” (الزمر/9) فعلموا أن مُجَرَّدَ العلم يكفيهم أي إصلاحُ العقيدة يَتَكَفَّلُ لهم كلَّ شيء، وفاتَهم أن يدركوا أنّ القرآن ينصّ كذلك على أنه لايستوي الذين يعملون والذين لايعملون؛ فيقول تعالى:
“أَمْ حَسِبَ الَّذِيْنَ اجْتَرَحُوا السيِّئٰتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِيْنَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّٰلِحٰتِ سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُوْنَ” (الجاثية/21).
ويقول:
“أَمْ نَجْعَلُ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّٰلِحٰتِ كَالْمُفْسِدِيْنَ في الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِيْنَ كَالفُجَّارِ” (ص/28) .
ويقول:
“أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَيَسْتَوُوْنَ” (السجدة/18) .
يُخْطِئُ من لا يرى حاجةً إلى المجاهدة في الأعمال
وهناك من يرى الأعمال ضروريّةً؛ ولكنهم لايرون حاجةً إلى ما دونها. ورأيُهم يبدو صحيحًا لأوّل وهلة ؛ حيث إنهم يرون الجمع بين صحّة العقيدة وصحّة العمل؛ لكنهم يَنْقُصُهم أنهم اكتفَوا بتصحيح العقيدة وبالنيّة المجرده فيما يتعلّق بإصلاح الأعمال واستكمالها والمواظبة عليها، على حين إنّ التجربةَ والواقع كليهما يؤكّدان أن إصلاح الأعمال يحتاج إلى شيء آخر أيضًا، وإن كان غيرَ واجبٍ عقلاً أو عادةً، أي إنّ صحةَ الأعمال قد تجوز بدونه؛ ولكنّه واجبٌ بمعنى أن صحةَ الأعمال لاتتحقق بدونه بسهولة، فهو مدارٌ لصحة الأعمال بالنسبة إلى السهولة، وإن كان تحقّقُ الأعمال يمكن بدونه أيضًا. ومثلُ ذلك مثلُ القطار الذي بدونه لايمكن طيُّ المسافة الطويلة بسهولة؛ ولكنه يمكن بصعوبة. وكذلك إصلاحُ الأعمال يتحقّق بإصلاح العقيدة ولكن بصعوبة، أَمّا إذا صاحبَ إصلاحَ العقيدة وإصلاحَ الأعمال هذا الأمرُ الخاصُّ الذي أشرنا إليه، فإن ذلك يتيسّر ويتحقّق بكل سهولة. وإنّ هذا الشيءَ هو الذي يعنيني ههنا ذكره؛ لأن الجهلَ به هو الذي أدَّى بكثير من الناس إلى الخطأ فيما يتّصل بالعمل. وخلاصةُ هذا الشيء أنَّ صدور الأعمال يمكن بالإرادة بعد إصلاح العقيدة؛ لكنَّ الإرادةَ قد تحول دونها عوائق تجعل صدورَ العمل صعبًا. وهذه الصعوبةُ ربّما تحول دون صدور العمل؛ فهذا الشيء لابدّ منه لسهولة صدور الأعمال، لأنّه يُسَهِّل صدورَ الأعمال جدًّا. وهذا الشيء عنوانُه: مجاهدةُ النفس ومخالفتها. ويجوز لي أن أوضحه في ضوء التجربة التي يمرّ بها المسلمون بشكل عامّ ؛ حيث إنهم جميعًا يعلمون أن الصلوات فرض ، وكلهم يودّون أداءها، ويأسفون على تركها ؛ ولكن كثيرًا منهم لايُؤَدُّونها ، رغم أنهــم جميعًا يعتقدون بفرضيتها ، وبعضهم يعزمون على أدائها فيؤَدُّونَها ، ولكنّ العزمَ قد لا يُؤَثــِّر تأثيرًا مطلوبًا ؛ لكونه مُتَعَثِّرًا ببعض العوائق، فلا يُدَاوِمُون عليها، مما يُؤَكِّد أن مجرد العقيدة والإرادة لاتكفيان لتحقق الأعمال والمداومة عليها ؛ فهي بحاجة إلى شيء آخر يضمن الصدورَ والاستمرارَ والدوامَ، وهو مدار لصدور الأعمال على المستوى المطلوب، وهو كما أسلفنا مجاهدة النفس ومخالفتها ؛ فتاركُ الصلاة إنما يترك الصلاةَ لأنّه يتبع نفسَه ويسعى لإراحتها، ولو كان قد جاهدها لما ترك الصلاةَ.
السببُ في ابتلاء الأنبياء بالمصائب :
إنّ أهل السنة والجماعة يعتقدون أن الأنبياء – عليهم السلام – معصومون عن الخطأ. إنّ الفرقة الحشويّة ما قدرت الأنبياء ، ولا تعتقد بكونهم معصومين: واعتقادُهم يخالف النقلَ ، كما يخالف العقل أيضًا؛ لأن المسؤولين في الدنيا لا يُوَلُّونَ أحدًا منصبًا إلاّ بعدما يختارونه، فهل الله تعالى لم يكن قد اختار من رضيه نبيًّا وولاّه منصب النبوة، أو إن الله جاء اختيارُه خاطئًا فيما يتعلق بهذا المنصب، فهو أسنده إلى من يُقَيِّد الآخرين بالقانون، ولايتقيّد هُوَ بِه بل يخالفه. إن العقل لايسيغ ذلك. أمّا المصائبُ التي ابْتُلِيَ بها الأنبياءُ، لم تكن مصائب وإنما تَمَثَّلَتْ فيها. وذلك ليس تأويلاً، وإنما هو مُعَضَّدٌ بدليل واضح، وهو أنّى أدلّك على مقياس يضع فرقًا بين المصيبة وصورتها، وهو أن المصائب التي تزيدك قلقًا واضطرابًا، ناتجةٌ عن الذنوب، والتي تزيدك علاقةً بالله وانقيادًا له واطِّراحًا على عتبته ليست مصيبةً وإنما هي صورةٌ عنها تظاهرت بها وتمثّلتْ فيها. ولكل أحد أن ينظر في داخله ليعلم ما يطرأ عليه لدى ابتلائه بالمصيبة، ليظهر له الفرقُ بين ما إذا كانت هي مصيبة حقيقية أو مصيبة صُوَرِيَّة. وهذا المقياسُ إذا أعملناه لقياس مدى الفرق بين ما يُبْتَلَى به الأنبياء والصلحاء من صُوَر المصائب وبين ما يُبْتَلَىٰ به أبناءُ الدنيا من حقيقة المصائب ؛ حيث كان الأوّلون يزدادون بما يُبْتَلَوْن به علاقةً بالله ورضًا عنه وحبًّا له ، لعلمنا الفرقَ الواضح بين النوعين من المصائب .
فمن حماقة الفرقة الحشويّة أنها قاست الأنبياءَ بنفسها ؛ فقالت : إنهم كانوا بشرًا مثلَنَا، وصدرت منهم ذنوب، وابْتُلُوا بمصائب، ولم ترَ الفرقَ الشاسعَ بين مصائبها ومصائبهم . وهذا القياسُ الخاطئُ هو الذي دَمَّرَ الخلقَ ، وهو الذي حال دون الكفار ودون أن يؤمنوا ؛ لأنهم قاسوا أنفسَهم بما ظَهَر لهم من قبل الأنبياء ، فسَوَّوْهم بأنفسهم . على كُلٍّ، فهناك حقيقةٌ للمصيبة وهناك صورةٌ عنها، والأولى تَنْشَأَ عن الذنوب، والثانيةُ تأتي لرفع الدرجات وكامتحان للمحبّ الصادق .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رجب 1429هـ = يوليو 2008م ، العـدد : 7 ، السنـة : 32